للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: عبد العزيز محمد


أميل القرن التاسع عشر

الشذرة الرابعة من جريدة أراسم [*]
الجزيرتان - والتعليم بضرب الأمثال
يحسن أحيانًا في حوار الأطفال أن يكون تفهيمهم الحقائق على طريقة ضرب
الأمثال.
سألني (أميل) منذ أيام لماذا وجد في الناس فقراء وبدا لي من (لولا) كثرة
اهتمامها بمعرفة العلة في أن فيهم أغنياء.
جرى على الألسنة جواب مشهور لهذين السؤالين وهو (ذلك ما أراده الله)
وما كنت لأجيبهما بمثل هذا التعليل؛ لأن هذا من شأنه أن يؤدي إلى أذهان الأطفال
معنى كبيرًا لعدل الذات العلية وما كنت أيضًا لأدخل معها في أعوص مسائل علم
الاقتصاد السياسي وأصعبها، من أجل ذلك رأيت أن أحسن جواب أخرج به من
هذه الحيرة أن أقص عليهما قصة فقلت:
روي أنه كان يوجد في مكان سحيق من بحر لست على يقين من معرفته
جزيرة بنى فيها الأغنياء قصورًا من المرمر وزرعوا في أرضها بساتين وحدائق
ذات بهجة ربوا فيها من الأزهار ما يندر وجوده في غيرها واحتفروا بركًا توفيرًا
لأسباب اللذة، ولم يكن في الدنيا ما يعادل زخرف موائدهم فقد كان يطاف عليهم
بصحاف من الذهب بها أشجار ضخمة طبخت بمرقة سرطان البحر، وهو ألذ ألوان
الطعام في ذوق (أميل) وكانوا في لباسهم بالغين حد الإفراط في التأنق خصوصًا
نساءهم وكان أولادهم يلعبون الكُجَّة [١] في الميادين العامة بكرات من الماس.
وأما فقراء تلك الجزيرة فكانوا يمشون حفاة وكانت صباياهم تغدو كل يوم في
أسمال من الثياب فتطوف بأبواب الأغنياء التماسًا لما ألقاه خدمهم من قمامات موائد
العشية، لم يقتصر الأغنياء في سوء معاملتهم على استعمالهم في الأعمال الشاقة
الممقوتة، بل إنهم كانوا يحتقرونهم، وبلغوا من ذلك إلى حد أنهم كانوا
يحظرون على ذوي الثياب الرثة منهم أن يوجدوا في المنتزهات العامة ولم يكن
لهذا الحظر من سبب سوى خوفهم على بُسُط هذه المنتزهات السندسية أن تدنسها
أقدامهم أو خشيتهم أن يكون منظر بؤسهم قذًى في عيونهم، وهذا هو الأقرب إلى الحقيقة.
من أجل ذلك كله غادر الفقراء المدينة ذات ليلة وآووا إلى جبل ليأتمروا
بالأغنياء فكان رأي الشبان منهم أن يأخذوا أسحلتهم ويسطوا عليهم وهم نيام في
مضاجعهم ويقتسموا أموالهم فقام من بينهم شيخ حكيم وتربص حتى قَرَّتْ شقشقتهم
ثم قال: إياكم أن تفعلوا من ذلك شيئًا لأسباب ثلاثة أبديها لكم، أولها: أن الأغنياء
يقوم على حراستهم في صروحهم خدم هم شر منهم وكلاب أضرى من الحراس
أنفسهم. ثانيها: أني لا أعتقد أن سطوكم هذا عليهم وسلبكم لأموالهم يكون من
العدل؛ لأنهم قد كسبوا هذه الأموال التي تحسدونهم عليها أو كسبها أسلافهم من
وجوه شريفة أو خسيسة ثم ملكوها من بعدهم بمقتضى قوانين أرى مع كوني لا
أدرك كُنهها كمال الإدراك أنه لا بد لوجودها من سبب؛ لأن جميع الناس محافظون
عليها راضخون لأحكامها حتى الآن. ثالثها: أن ما يجوز أن تنزعوا اليوم من
أعدائكم بغلبتكم عليهم يجوز أن يسلبه غدًا منكم غيركم بقوته وضعفكم فعلينا إذن أن
نفكر جميعًا في اتخاذ وسيلة أخرى.
لا بد أنكم سمعتم بوجود جزر أخرى في البحر غير هذه الجزيرة التي قضى
علينا نحس طالعنا بالولادة فيها، فقد حكى لنا فقراء الملاحين إخواننا الذين يحضرون
إلى هنا بسفنهم مشحونة بالأوراق ومواد الزخرف التي يستعملها الأغنياء أنهم رأوا
غير مرة في أسفارهم أرضين تمهد من الماء مكللة بالنباتات والأشجار الكبيرة المثمرة
ويستفاد من حكايتهم أن إحدى الجزر خاوية من السكان ولا ينقصها إلا إرادتكم حتى
تصبح جنة جمة الثمار دانية الجنى فإن لنا سواعد قوية تساعدنا على العمل وها أنا
مع شيخوختي سأكون لكم قدوة فيه وأمدكم بنصائحي عند الحاجة، هذا هو رأيي قد
أفضيت به إليكم فانظروا ماذا تفعلون. فتلقى جميعهم نصيحته بالقبول وما تمّموا أن
هاجروا إلى تلك الجزيرة متعاقبين على سفن واهنة صنعوها بأنفسهم من ألواح
خصاصهم فثمل الأغنياء فرحًا لسفر هؤلاء الغوغاء ولم يستطيعوا كتمان فرحهم
وكانوا يصفقون ويجهرون بقولهم: حبذا حبذا هذا الخلاص!
قلما كانت تلك السفن تقل إلا أشخاص المهاجرين؛ لأنهم لا يملكون شيئًا،
أستغفر الله، بل إنهم حملوا معهم فيها أدوات عملهم.
مضى على سفرهم بضع سنين انقطعت فيها أخبارهم واختلفت أقوال أهل
الجزيرة في شأنهم فمن قائل بأن البحر ابتلعهم ومن واهم بأنهم أكل بعضهم بعضًا.
وبينما هم في هذا الاختلاف إذ رأوا ذات يوم سفينة مشحونة بالغلال وعروض
التجارة رست على ميناء جزيرتهم فلم يلبثوا أن عرفوا من لهجة ملاحيها وبعض
ملامح وجوهم أنهم من سكانها السالفين وقد أخبرهم هؤلاء الملاحون أنهم آتون من
جزيرة أخرى استقامت فيها أمورهم ونجحت نجاحًا عظيمًا؛ لأنهم ما حرثوا
الأرض وأحيوا مواتها حتى جللتها الحصائد وملأتها المزارع والمواشي فاعتبر
الأغنياء هذه الأخبار من الأساطير وقهقهوا لسماعمها قهقهة المجانين.
على أن الملاحين لم يكونوا مبالغين في شيء مما قالوا، فإنه كان يخرج من
أرض تلك الجزيرة القفرة على نحو من السحر حقول مكسوة بالزروع وقرى ومدن
وطرق ومدن وترع، فكان سكانها في معيشتهم على وفاق تام؛ لأنهم كانوا منها في
غبطة وهناء، وقد ضربت عليهم السكينة رواقها فكانوا يعتبرون أبناءهم بذورًا
لخلف أرقى وأكثر منهم ولذلك كانوا يبكرون بتعليمهم العمل وإنشائهم على حبه.
أصبح الأمر على خلاف ذلك في جزيرة الأغنياء فكانت الثروة تنقص من يوم
إلى يوم؛ لأن سكانها لما كانوا من فرط الكبر والكسل بحيث إنهم يستنكفون أن
يتولوا بأنفسهم حرث الأرض لم تلبث أن امتلأت عاقولا وتعطلت جميع الحرف
والصنائع لفقد عمالها وتبع ذلك زوال مواد الزخرف وتداعت الصروح والقصور
والمقصود فلم يوجد من الرجال من يقيم من منآدها.
فزع الأغنياء في بدايا هذا الانحطاط إلى صناع الجزائر المجاورة لهم فلم
يجيبوا دعوتهم؛ لأنهم كانوا على بينة مما كانوا به إخوانهم فلم يرضوا لأنفسهم ما
قاساه هؤلاء من ضروب الإهانة.
نعم إن من بقي في الجزيرة من سكانها كانوا يملكون كثيرًا من الذهب والفضة
وأنهم اشتروا من التجار الأجانب كل ما كانوا في حاجة إليه مدة من الزمن ولكن كل
كنز لا بد من نفاذه بالغًا من الكثرة ما بلغ خصوصًا إذا كان أصله لا يتجدد من أجل
ذلك لم يمض إلا بضع سنين حتي غاضت أموالهم وأنشأوا يندمون ولات حين مندم
على ما فرط منهم من القسوة والظلم في معاملة الفقراء.
صاروا إلى حالة محزنة جدًّا فقد تخلى عنهم من كانوا يحوطونهم من الخدم
والحشم لعجزهم عن دفع أجورهم وعجزت خيلهم عن جر عجلاتهم لفقدها من كانوا
يقومون على تغذيتها وإصلاح شأنها وكانت نساؤهم تُرى في الشوارع منتعلات نعالاً
من الديباج مشوهة الأعقاب ولابسات جلابيب من الحرير المذهب كلها ممزق
ومخرق؛ لأنه يخجل أولئك السيدات الجليلات أن يرقعن ثيابهن بأيديهن فإذا نظر
إليهن ناظر وهن في هذه الأهدام بهذا الصلف والعجرفة بعثته حالهم إلى الضحك
والاستهزاء بهن لو لم يكن من القسوة واللؤم الاستهزاء بالتعساء البائسين ولو كانوا
من الأشرار.
وجملة القول أن جزيرة الأغنياء المترفين قد أصبحت جزيرة الفقراء المعدمين.
كان القحط يزداد فيها من سنة إلى أخرى فقد ضعفت الأرض على التحصيل لعدم
ما كان يخدمها من الأيدي وكاد الأغنياء يموتون جوعًا في صروحهم ولو لم
يتداركهم أولئك الفقراء الذين أخرجوهم من ديارهم بالإفراط في سوء معاملتهم
ويساعدوهم بما فضل عن حاجتهم لهلكوا عن بكرة أبيهم.
كان (أميل) كثير الإصغاء إلي في حكايتي لهذه القصة وما فرغت منها حتى
ابتدرني بقوله: (يستفاد من القصة إذن أن العمل هو سبب الغناء والثروة) فأجبته
أن هذا ليس مطردًا ولكن أقل فائدة له أنه يغني الأمم التي تعرف مناهج العدل
وتسلكها. اهـ
((يتبع بمقال تالٍ))