مخمصة الحرب وسوء أثرها لم أسمع من أهل دمشق من أخبار الجوع والعري إبان مخمصة الحرب إلا قليلاً من كثير مما سمعت من أهل لبنان والساحل، فدمشق كجزيرة في بحر عظيم من الجنات، والبساتين، وأجنادها ورساتيقها، وذات خصب عظيم، ولم يكن للترك من السلطات على إهراء غلالها في حوران وجبل الدروز ما كان لهم على غلال لواء طرابلس وحمص وحماه , بل كانوا يشترون القمح من الدروز بالثمن الغالي، ويدفعون ثمنه من الذهب الأحمر، لا من ورق النقد الذي ما كان يروج إلا بثلث قيمته أو ربعها، فلهذا لم يكن شد خناق المجاعة على أهل دمشق محكمًا كخناق لبنان وبيروت وسائر السواحل؛ لذلك كان أكثر من مات فيها جوعًا من الذين هاجروا إليها لا من أهلها، على أن الكثير منهم قد باعوا أثاث بيوتهم وجميع ما يملكون، وبذلوه في ثمن القوت. وأما ما جرى في السواحل وجنوب لبنان، ولا سيما قضائي التن وكسروان منه فهو فوق ما كانت تشرحه الجرائد في مصر , ويظنه أكثر أهلها من المبالغات التي يقصد بها الطعن في حكومة الترك، فالحق أن كل ما وصفته كان دون الذي وقع، وقد ثبت عندي أن بعض الناس كانوا يأكلون ما يجدونه في المزابل والطرق رطبًا يمضغ، أو يابسًا يكسر، وأخبرني في بيروت من رأى بعض الأولاد الصغار رأوا رجلاً قاء في الطريق فتسابقوا إلى قيئه وتخاطفوه فأكلوه، وثبت عندي أكل الناس الجيف حتى ما قيل من أكل بعض النساء لحوم أولادهن، والعياذ بالله تعالى. وأخبرني كثيرون في بيروت وطرابلس أن الناس كانوا يرون الموتى في الشوارع والأسواق، والمشرفين على الموت من شدة الجوع، ولا يبالون بهم ولا يرثون لأنين المستغيثين منهم، فقد قست القلوب وكزت الأيدي حتى من الذين كانت تتضاعف ثروتهم من الاحتكار الذي ضاعف البلاء وعظم به الشقاء، فقد كان هؤلاء وغيرهم من الموسرين تستطاب لهم الألوان المتعددة، وكانوا يقيمون المآدب للولاة وقواد الجيوش الذين صبوا كل هذا العذاب على الأمة والبلاد حتى الطاغوت جمال باشا، وأما حفاوتهم بأنور باشا ومن زار البلاد السورية معه فلم يسبق لها نظير في أيام الرخاء، وكان الحكام ورؤساء البلديات يهتمون بنقل جثث الموتى والمشرفين على الموت من الطرقات التي يمر فيها أنور باشا أو جمال باشا أو والي بيروت؛ لئلا يتألم شعوره الحجري برؤية ذلك، وأنى تتألم الصخور؟ وقد قيل لي: إن بعض الوجهاء قال لأنور باشا على مائدة جمعت أفخر ألوان الطعام من خبز الحوارى [١] واللحوم والحلوى والفاكهة: إننا في ظل عدل الدولة العلية ورحمتها نتمتع بكل هذه الطيبات، أو ما هذا معناه. ثبت في آيات القرآن الحكيم أن الشدائد تمحص المؤمنين وتمحق الكافرين , وقد ثبت أن شدائد هذه الحرب ما زادت أكثر الناس في كل البلاد إلا فسادًا وفسقًا وفجورًا، وكان الأغنياء والفقراء في ذلك سواءً إلا من عصم الله: الأغنياء ازدادوا قسوةً وبخلاً وإسرافًا في الشهوات وكفرًا بنعم الله وإعراضًا عن شكرها، والفقراء استباحوا جميع الفواحش، وتركوا جميع الفرائض مع الاعتراض على الله عز وجل، حتى إنهم تركوا فريضة الصيام مع فقد الطعام، فلم يكن المسلمون (جنسيةً) ينوون الصيام في رمضان، وإن كانوا في شك أو ظن راجح بأنهم لا يجدون في النهار ما يأكلون، ومهما يُصِب أحدهم من لماج - هو أدنى ما يؤكل - كان يلتقمه، ولو قبيل غروب الشمس، ولم يكن الباعث على ذلك عدم الطاقة على احتمال الجوع، بل مراغمة الشارع ومعاندة الخالق سبحانه , وكانوا يصرحون بذلك، وأكثر ما نُقل منه نُقل عن النساء اللواتي هن أشد إذعانًا للدين وخضوعًا لشعوره، وأكثر محافظةً على الصيام: كانت إحداهن تقول: لا أصوم له ولا أصلي له وقد فعل بي كذا وكذا، والأخرى تقول: ليرجع لي ولدي من القبر أو من العسكر أصم له. ومثل هذا كثير , فأمثال هؤلاء ليسوا من المؤمنين الشاكرين الصابرين، فتمحصهم الشدائد وتطهرهم، بل من الكافرين بدين الله ونعمه كلهما أو أحدهما. فزادتهم رجسًا إلى رجسهم ومحقتهم، بل محقت أممهم بهم. وقد بغضت إليهم سيرة الحكومة السوءى فيهم خدمة العسكرية، ولولا ذلك لفضلوها على تلك المجاعة القاتلة التي كان سببها مصادرة المواد الغذائية لأجل الجند، أو باسم الجند، وكأين من أسرة كبيرة انقرض جميع أفرادها إلا من دخل الجندية منهم وسلموا أو سلم بعضهم، وقد حدثونا عن أسرة كبيرة في ميناء طرابلس كانت مؤلفةً من ٢٧ نسمة دخل الجندية سبعة شبان منهم فسلموا كلهم، وهلك العشرون من كبار وصغار، وما هلكوا إلا جوعًا، وأمثال هذه الحكايات كثيرة. وميتة الجوع شر من ميتة القتل في الحرب؛ فإن أكثر الذين يقتلون في الحرب هذا الزمان تزهق أرواحهم في طرفة عين بغير ألم يذكر، وإنما الذي يذكر تألم الجرحى وتشويههم على شدة العناية بمعالجتهم، وأما موتى الجوع فلا يموتون إلا بعد آلام بدنية ونفسية شديدة طويلة الأمد، فيهزلون ويضوون أولاً من قلة الغذاء ثم بفقده، حتى إذا ما وَهَت قواهم الحيوية، وضعف تماسك عضل أبدانهم دب فيها الورم كما يدب في جثث الموتى، ومنهم من يصاب قبل ذلك بالكلب، أو ما يشبهه، ومن يعتريهم الجنون، والعياذ بالله - تعالى - ولا فائدة الآن في إطالة وصف هذا الرجز الأليم. *** فائدة التدين في الشدائد من أعظم فوائد التدين في هذه الحياة الدنيا أنه يخفف آلامها، ويهون على النفس مصائبها، وذلك ثبت بالنظر والتجربة معًا، ويعرفه المتدينون والملاحدة المعطلون جميعًا، وقد سمعنا بآذاننا بعض المعطلة الذين أصيبوا بالأمراض المزمنة ونحوها من المصائب العظيمة يتمنون لو كانوا مؤمنين ليكون لهم بعض العزاء والسلوى باحتساب الأجر عند الله - تعالى - ورجاء النعيم في الدار الآخرة، فإنهم يعرفون هذه الفائدة من فوائد الدين بالنظر العقلي، والعلم بغرائز البشر، وبما يشاهدون من صبر المؤمنين وجزع المعطلين. وليست هذه الفائدة لمن يدينون دين الحق الخالص من شوائب الشرك خاصةً بل هي عامة يجدها في نفسه كل من يؤمن بأن للعالم إلهًا، وأن بعد هذه الحياة الفانية حياة دائمة، يثيب الخالق فيها المؤمنين الشاكرين، ويعذب الكافرين المجرمين، وإنما أعني إيمان الإذعان لهذا السلطان الأعلى على العقل والوجدان، وإن كان تقليديًّا قائمًا على غريزة الفطرة، غير مؤيد بالبرهان والحجة، ولا شك في أن الذين فقدوا هذه الفائدة اللازمة للدين في أثناء المخمصة وغيرها من مصائب الحرب على شيء من الإيمان الإذعاني البرهاني لا الفطري، وكل ما كانوا عليه من الدين لا يعدو التقاليد الجافة التي لا منشأ لها في النفس غير التعود بمحاكاة الأهل والأقربين ومجاراة المعاشرين، وما يوافق منها أحكام الإسلام عند المستحلين لاسمه فإنما يوافقها في صورته لا في روحه وحقيقته. ألم تر أنهم كانوا يعللون تركهم للصلاة والصيام بما يدل أنهم يظنون في الله غير الحق ظن السوء، وأن الله - تنزه وتعالى - محتاج إلى صلاتهم وصيامهم، فهم لا يبذلون لها ما يحتاج إليه منهم إلا إذا بذل لهم ما يحتاجون إليه منه جزاءً وفاقًا {إِن تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنكُمْ وَلاَ يَرْضَى لِعِبَادِهِ الكُفْرَ وَإِن تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ} (الزمر: ٧) {وَمَن شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ} (النمل: ٤٠) {فَلَوْلاَ إِذْ جَاءَهُم بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِن قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (الأنعام: ٤٣) . *** مهانة هذه الأمة ودناءتها ألا إن أعضل أدواء هذه الأمة هو السفالة والمهانة والخمود والضعة، وما شئت فاذكر من الكلم المقابل لعلو الهمة والعزة والرفعة، فالمؤمن ضعيف في إيمانه، والكافر دنيء في كفره، والباذل مُراءٍ في بذله، والبخيل غبي في بخله، والعفيف خامل في عفته، والشهواني سافل في تمتعه، والقنوع عاجز في قناعته، والمشتغل بالعلم مقلد في علمه، والصالح بليد في صلاحه، حتى إن محب الجاه والعظمة فيها ذليل في عجبه وكبريائه، فلا تجد شعبًا من شعوبها ولا حزبًا من أحزابها ولا جمعيةً من جمعياتها، بل لا تكاد ترى فردًا من أفرادها ذا مقصد عالٍ كبير يبذل في سبيله النفس والنفيس بعزيمة قوية وإرادة ثابتة، وحكمة راسخة، لا يثنيه عن السعي له حيف وقع، ولا خوف من خطر يتوقع، إلا ما قام به الشعب المصري بعد أربعين سنةً من نبات النواة التي ألقاها في أرضه مصلح الشرق وحكيمه في هذا العصر السيد جمال الدين الأفغاني، وتعاهده بعده خليفته الأستاذ الإمام، طيب الله ثراهما. وأما الشعوب العثمانية فقد مسخ الحكم التركي أخلاقها وأفكارها بسوء الإدارة، وفساد التربية، والتعليم في المدارس، وزادهم اختلاف أساليب التربية والتعليم في المدارس الأجنبية فسادًا، ولا سيما في سورية حيث تكثر هذه المدارس. وتفصيل القول في بيان هذا الأمر من الجهتين الاجتماعية والدينية لم يأت أوانه، إنما أذكر في هذا الفصل كلمةً وجيزةً فيما كان من إفساد الأخلاق والآداب برزايا الحرب ومخمصتها، وجرائر السلطة العسكرية وقسوتها. اشتعلت نيران الحرب فاستباحت الدول المتقاتلة لأنفسها إبطال الشرائع والقوانين في زمنها، وجعل الحكم الفصل لأمراء العسكر وقواد الجيوش لا في ميدان القتال فقط، ولا على الجنود خاصةً، بل وسعت حدود سلطتهم حتى شملت كل ما يحتاجون إليه للحرب من أموال الناس وأقواتهم ومواشيهم ودوابهم ومركباتهم وأنفسهم، وأي شيء لا يحتاجون إليه، وهم بشر حاجهم حاج البشر، وهم الذين يقدرون الحاجة ويحكمون وينفذون، لا استئناف لحكمهم ولا راد لأمرهم !! وإنما كانت تتفاوت تصرفاتهم في غصب أموال الناس ومتاعهم باسم الشراء وتقدير الأثمان ودفعها أو تأجيلها - بتفاوت تربيتهم الدينية والنظامية، وتختلف باختلاف أحوال من يتصرفون فيهم من أبناء جنسهم أو الخاضعين لحكمهم من غيرهم، وأغرب ما نقل إلينا من أخبار جور ضباط الترك في سورية أنهم كانوا يأخذون من البزازين ما يصلح للجند من نسيج القطن والصوف، وما لا يصلح لهم حتى ما هو خاص بالنساء من الحرير والشنوف والمناديل والقفافيز والجوارب الحريرية والأعطار. هلعت أفئدة الناس من كل الأمم في أول العهد بالحرب، واستيقظ الشعور الديني في قلوب طال نومه فيها كأنه ميت لا أثر له في شيء من أعمال الحياة، وحدثنا من كان بباريس من المصريين أن الكنائس صارت في ذلك العهد تضيق على رحبها بالمصلين الخاشعين لله بعد أن كانوا يُلِمون بها إلمام السائح الراغب في رؤية الآثار وتعرف الأطوار، فلا يرون فيها حتى في أوقات الصلاة من أيام الآحاد إلا بعض العجائز والأطفال. ومما عرفنا من أخبار بلادنا السورية ممن فر إلى مصر في أثناء الحرب، ومما كان يصل إلى الجرائد الإفرنجية والمصرية أن مصائب الحرب أزالت ما كان بين الملل والطوائف من نفور وضغن، وأشعرت قلوبهم عواطف التراحم والتعاون، فكان صاحب الرغيف يقسمه بينه وبين الفاقد لمثله من صاحب أو جار قريب أو بعيد، ولا يضن بمقاسمة الجائع المجهول بل ذا القربى والرحم. فلما طال الأمد ورأى الناس ما رأوا من سوء تصرف القواد الجبارين، والحكام الظالمين، والأغنياء المترفين، دبت إليهم عدوى القدوة السيئة، فقست القلوب، وتحجرت العواطف، واشتد الجشع، وقوي الطمع، وضربت الشهوة، وعظمت الفتنة. افترض رؤساء الجند والحكومة إعلان الأحكام العرفية، وتعطيل الشريعة والقانون بها فاحتكروا الأقوات، وشاركوا في استغلال الأمة كبار التجار , وتذرع كل منهم بذلك لانتهاك الأعراض وافتراع الأبكار، فكان من هانت عليهم أعراضهم يستشفعون بنسائهم وبناتهم إلى أولئك الرؤساء - كالقائد العام للفيلق الرابع في سورية ومتصرف لبنان - لأخذ وثائق بشواحن القمح وغيره من الأغذية، فكانت أعراض النساء عروض تجارة، وأبضاعهن بضائع ربح، وكانت الحرة تموت ولا تأكل بثدييها وفاقًا للمثل العربي، وبين هذه وأولئك نساء نشأن مصونات محصنات لا لدين راسخ ولا لشرف باذخ، بل لفقد الداعية وعدم الاصطلاء بنار الفتنة، فلما ذقن ألم الجوع الديقوع الدهفوع، وفقدن ما يتبلغن به من اللماج والعلهز [٢] ، وعلمن أن سعة العيش على طرف الثمام وحبل الذراع منهن إذا أرخصن ما أغلته العفة من شرفهن، ووجدن أن الشرف في هذا الزمن، غير الشرف الذي تروى أخباره عن السلف، فالناس يعظمون الفاسقين، ويتقربون إلى الفاسقات، ويحتقرون الصالحين والصالحات، فطوعت لهن أنفسهن، وأسلست لهن ما كان صعب المقادة من اقتراف الفاحشة فأطعنها واجمات، ولم يلبثن أن استمرأن المرعى، فانقلبن مسافحات متهتكات، فويل للمترفين المسرفين في الشهوات، الفاسقين المفسدين للمحصنات. كان أولئك الكبراء يبذلون للحسناء ما تحب، وكان من دونهم من الموسرين والجنود يفيضون من فضل رزقهم في هذه السبيل كل بحسب حاله، وكان بدء إغواء الكثيرات من العذارى والمحصنات أنهن طلبن من بعض الرؤساء شيئًا من مال الإعاشة الذي كان يباع رخيصًا من قِبل الحكومة، أو طلبن الصدقة والإحسان من بعض الأغنياء فراودوهن عن أنفسهن فتمنعن المرة بعد المرة ثم طوعت لهن أنفسهن أن يجتلبن القوت الضروري بما جَلَب به غيرُهن الثروة والزينة، على أن يكون ضرورةً تقدر بقدرها، ولما بُذل العزيز المصون هان وابتذل، فصار يعرض عند الحاجة، ثم لمجرد التمتع أو الربح، ففشا بذلك الفجور والعهر، وصارت النساء تتبع جنود الأجانب حيثما عسكرت في البلاد السورية بعد جلاء الجند العثماني منها، وكن من قبل يستخفين في كل أرض يمر فيها الجند، وإن كان وطنيًّا. ومن الجنود الأجانب من لقومهم صلة دين ومذهب، أو ولاء سابق أو لاحق مع بعض الشعوب، فكان الضباط منهم يمرون على أهل بيوت كبرائهم فيُتلقَون بالحفاوة والترحاب، ولا يقفل في وجه أحد منهم باب بل تغلق عليهم الأبواب، وجرى على ذلك كثير من أفراد الجند، وتعدى بعضهم بيوت الأولياء المغبوطين إلى بيوت غيرهم، فارتفعت الأصوات بالشكوى منهم، وصارت الأبواب توصد في النهار كالليل اتقاءً لشرهم. لما رأى المسلمون من أهل البلاد استشراء الفسق والفساد، وما تجدد من عوالم الإغواء والإفساد - شعروا بالخطر الذي ينذرهم ويهدرهم، فأنشأوا يثوبون إلى رشدهم، وكان من تأثير سنة رد الفعل فيهم أن بعض الشبان الذين أغوتهم تربية مدارس الدولة فلم يكونوا يصومون ولا يصلون، وزادتهم أيام الحرب، ثم أيام الهدنة والاحتلال بعدًا عن الهدى والتقوى - قد صاموا رمضان الماضي، وصاروا يصلون، وتركوا مجالس الفسق بعد أن صار مباحًا وسببًا من أسباب الزلفى والحظوة عند الواقفين على أبواب الرزق والجاه. فهذه آية بينة على أن ما طرأ على الأمة من الأمراض الروحية والاجتماعية لم يكن قاتلاً لها، بل هي أمراض عارضة لكل منها سير ينتهي بانتهاء أجله المقدر له إذا تدورك بالعلاج قبل أن يكون المريض حرضًا، أو يكون من الهالكين. إن هذه الحرب لم تفسد أخلاق الضعفاء من البشر وحدهم، بل أفسدت أخلاق جميع من صلي نارها من الأمم والشعوب، وألقت من العداوة والبغضاء والحقد والحسد بينها أضعاف ما كان قبلها، وما سبب ذلك إلا ظهور رذائل التعاليم المادية فيها، وأكبر هذه الرذائل وأشدها ضررًا استعباد الأقوياء للضعفاء وطمعهم فيهم، وهذه رذيلة يكرهها كل أحد من غيره، بقدر ما يحبها كل قوي لنفسه، فالشكوى منها ومن آثارها السيئة ومصائبها التي تولدت منها عامةً، ولكن أساطين السياسة المادية يحاولون إزالة أعراض المرض مع الإصرار والثبات على العلل، والأسباب الموجبة لبقاء المرض نفسه، فلا يترك أحد منهم شيئًا من طمعه في بلاء المستضعفين، ومحاولة الاستعلاء على العالمين. لقد كانت معاهدات الصلح شرًّا على البشر من أهوال الحرب، وكل ما يشكو منه الغرب والشرق من الشقاء فمثاره هذه المعاهدات التي انفرد بها أفراد من أساطين ساسة الاستعمار وأنصار رجال المال، فمجلس العشرة الواضعين لمعاهدة الصلح الكبرى في (فرسايل) كان أصل مصائب البشر كلهم في هذا العصر، وكان مجلس الأربعة الوزراء في سائر المعاهدات، ولو وضعت برأي مجالس النواب لما اتفق أكثر أعضائها على ما أودعته من مواد القهر والانتقام من المغلوبين والاستعباد والاستذلال للضعفاء، أو أن عدوا من الأصدقاء الموالين، فلسنا وحدنا نتألم من سوء عاقبة الحرب، بل يشكو آلامها معنا القاهر والمقهور، والواتر والموتور، وإلى الله ترجع الأمور. ((يتبع بمقال تالٍ))