للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: حسين وصفي رضا


الدولة العلية وبلغاريا والنمسا

ما أكثر العبر في أعمال البشر، وما أقل المعتبرين! إن الخطيئة التي يأتيها
الفرد في بيئة عسى لا يشعر بها أحد، أو الذنب الذي يصدر من بدوي في العراء لا
يحس به سوى خليطه أو رهطه، قد يصدر من أمة برمتها، وتأتيه حكومة بعد
تقريره في دار ندوتها! ! وإن ما يمر على الذاكرة من أشباه هذا ونظائره كثير جدًّا،
ولكن قل من يتدبر ويعي؛ ذلك أن أعمال الأفراد لا يلاحظها إلا علماء الأخلاق
والاجتماع، وهم أطباء النفوس والأمم، ولكن أعمال شعب بأسره مما لا سبيل إلى
كتمانه وإخفائه، بل هو مما يصل إلى كل حس، ويقع تحت كل نظر.
يقول الفلاسفة الاجتماعيون: إن إقرار مجموع عاقل على خطأ مستحيل،
ولكن هذا القول لا يصح على إطلاقه إلا إذا كان النهب والاختلاس في عرف
الفلاسفة أمرًا حلالاً طيبًا، والحق الذي لا مراء فيه أن الإنسان مهما استكنه أحوال
البشر فإنه لا يحيط علمًا إلا بجزء يسير من كل كبير، وعليه فلا تثريب على من
قال وهو يظن نفسه مصيبًا، بل على من فعل وهو يوقن أنه مخطئ.
أعلنت النمسا في السابع من أكتوبر الماضي أنها ألحقت مقاطعتي بوسنة
وهرسك بمملكتها، وأنهما صارتا بهذا الإلحاق جزءًا منها! ! فقلب هذا الحادث كيان
السياسة الأوربية وحول أنظار الدولة الدستورية الجديدة إلى ما يراد بها، فصرفها
عن القيام بالإصلاح الداخلي، وكانت بلغاريا سبقتها فأعلنت استقلالها قبيل ذلك
بيومين، فكان هذا وما سبقه صادفًا بالدولة العلية عن الاهتمام بما تقتضيه أحوال
البلاد الداخلية بله الخارجية.
توقع الناس من وراء هذا الانقلاب المفاجئ في عالم السياسة حربًا ضروسًا
تشتعل جذوتها في (ترنوفو) ثم تمتد إلى سائر أنحاء شبه جزيرة البلقان، وتنبأ
فريق بأن ذلك قد يحمل بعض دول أوربا الكبرى على خوض غمراتها، فيكنَّ إذ
ذاك من جُنَاتها وكماتها، وفي ذلك من الويلات والمصائب ما فيه. على أن هذا
الفكر والذهاب إليه ليس من باب الحدس والتخمين، ولولا حلم الدولة الدستورية
الجديدة وأناة الإمارة النزقة لَحَمَّ الأمر وجف القلم، ولكنا الآن نكتب بدل هذه الكلمات
أخبار الفلج والخذلان.
عظم على العثمانيين صنع بلغاريا والنمسا واستغرب صدوره آخرون، على
أنه لا محل للغرابة، فإن بلغاريا تتحفز لهذا الأمر منذ أمد بعيد، وإنما دعاها إلى
التسرع ما تتوقعه من سيدتها (الدولة العلية) إذا هي استجمعت قواها ومضى
عليها نصف عقد من الأعوام وهي دستورية حرة، فإنها إذ ذاك تخشى أن تعبث
بحقوقها وتستهين بسيادتها، فأسرعت إلى إعلان استقلالها، وهي تكاد لا تتوقع من
وراء ذلك إلا احتجاجًا يتلوه سكوت ورضى؛ لأنها مستيقنة بأن رجال الدولة العقلاء
لا يرون من الصواب الدخول في حرب أقل ما يخشى فيها من الخسار أن تنقلب
الحال إلى ما كانت عليه - لا قدَّرَ اللهُ - وفي ذلك البلاء الجم والمصاب العمم.
إن استقلال بلغاريا يتألم له العثماني الصادق، ولكنه ليس مما يؤبه له في
الحقيقة، فإن بلغاريا قد استقلت فعلاً في أيام حكومة الجواسيس الخائنين، فليس من
الكياسة أن يجعل استقلالها قولاً من المصائب التي نزلت بالعثمانيين، على أننا ربما
ننال شيئًا من حقوقنا التي اغتصبتها من قبل بسبب هذا الاستقلال.
إلا أن صنع النمسا لَهُوَ شَرّ صنع يقع أو يتصور، وشر منه أقوالها بعد
وقوعه، ومن العجيب أن يكون القول أنكى من العمل!
لم تكد هذه الدولة النهمة تعلن إلحاق هاتين المقاطعتين بمملكتها حتى قام
العثمانيون من سائر النِّحَلِ والمِلَلِ في كل أرض يتبوّءونها يعلنون استياءهم
واستهجانهم عمل النمسا، وعز عليهم أن تؤذيهم بالفعل، وأن يؤذوها هم بالقول،
فصمموا على الإعراض عن مشتري سلعها، وهذه الحرب الاقتصادية - كما
يسمونها - من أجمل ما تحارب به أُمّة عَدُوًّا لها، ولا سِيَّمَا إذا كان هذا العدو
كالنمسا: أمة تجارية بحتة. ومن دلائل الحياة في الأمة العثمانية إجماعها على
ذلك في جميع بلاد الدولة، فقد كانت البواخر النمسية تغادر الآستانة كما تغادر بيروت
ويافا واللاذقية وغيرها من دون أن تأخذ شيئًا أو تعطي شيئًا حتى أضبارات البريد،
وغلا كثيرون في ذلك، فطفقوا يمزقون ما لديهم من الملابس النمسية، على كونها
- حال تمزقها - ملكًا لهم! ! ! وكان لمصر وغيرها من مدن القطر حظّ من هذا
العمل، فكان لمجموع هذا الإعراض أو المقاطعة - كما يقولون - تأثير شديد في
معامل النمسا ومصانعها حدا بالأكثرين من أصحابها إلى مخاطبة حكومتهم ناعين
عليها ذلك الإلحاق، الذي يخشى أن يؤدي إلى إملاق أي إملاق، فما كان من هذه
الحكومة المنصفة (؟) إلا أن أَوْعَزَتْ إلى معتمدها في الأستانة بأن يحتج على
حكومتها! ! ! طالبًا منها حمل رعيتها على نبذ المقاطعة! ! !
هذا هو القول الذي قلنا عنه فيما تقدم إنه أنكى من العمل! أليس من الأعاجيب
أن تقرر النمسا في دار ندوتها إلحاق بوسنة وهرسك بمملكتها نهبًا وسلبًا من الدولة
العلية جهارًا، وتحظر على الأمة العثمانية أن تسير وراءَ ميولها ورغائبها؟ إن من
المتعذر على دولة مستبدة أن تحمل رعيتها على مشتري سلعة دون أخرى قسرًا،
فكيف يكون ذلك ميسورًا لحكومة دستورية؟ ! ! إن في هذا لمواطن للعبر ومواضع
للتذكير، فهل مِن مُعْتَبِر أو مُدَّكر! !
... ... ... ... ... ... ... ... حسين وصفي رضا