تابع ويتبع (الوجه الحادي والستون) قولكم: وأجمعوا على جواز شراء اللحمان والأطعمة والثياب وغيرها من غير سؤال حلها، اكتفاءً بتقليد أربابها. جوابه: إن هذا ليس تقليدًا في حكم من أحكام الله ورسوله من غير دليل، بل هو اكتفاء بقبول قول الذابح والبائع، وهو اقتداء واتباع لأمر الله ورسوله، حتى لو كان الذابح والبائع يهوديًّا أو نصرانيًّا أو فاجرًا؛ اكتفينا بقوله في ذلك، ولم نسأله عن أسباب الحل، كما قالت عائشة رضي الله عنها: يا رسول الله , إن ناسًا يأتوننا باللحمان لا ندري أذكروا اسم الله عليها أم لا؟ فقال: (سمّوا أنتم وكلوا) فهل يسوغ لكم تقليد الكفار والفُسَّاق في الدين كما تقلدونهم في الذبائح والأطعمة؟ ؟ فدعوا هذه الاحتجاجات الباردة وادخلوا معنا في الأدلة الفارقة بين الحقّ والباطل؛ لنعقد معكم عقد الصلح للأمّة على تحكيم كتاب الله وسنة رسوله، والتحاكم إليهما، وترك أقوال الرجال لهما، وأن ندور مع الحق حيث كان، ولا نتخير إلى شخص معين غير الرسول، ونرد قول من خالفه كله، وإلا فاشهدوا بأنَّا أول منكر لهذه الطريقة وراغب عنها، وداع إلى خلافها، والله المستعان. (الوجه الثاني والستون) قولكم: لو كلف الناس كلهم الاجتهاد وأن يكونوا علماء، ضاعت مصالح العباد، وتعطلت الصنائع والمتاجر، وهذا مما لا سبيل إليه شرعًا وقدرًا! ! فجوابه من وجوه: (أحدها) إن من رحمة الله - سبحانه - بنا ورأفته أنه لم يكلفنا بالتقليد , فلو كلفنا به؛ لضاعت أمورنا، وفسدت مصالحنا؛ لأنَّا لم نكن ندري مَنْ نُقَلِّد من المُفْتِين والفقهاء، وهم عدد فوق المئين، ولا يدري عددهم في الحقيقة إلا الله , فإن المسلمين قد ملأوا الأرض شرقًا وغربًا وجنوبًا وشمالاً، وانتشر الإسلام بحمد الله وفضله، وبلغ مبلغ الليل، فلو كلفنا بالتقليد لوقعنا في أعظم العَنَت والفساد، ولكلفنا بتحليل الشيء وتحريمه، وإيجاب الشيء وإسقاطه معًا؛ إن كلفنا بتقليد كل عالم. وإن كلفنا بتقليد الأعلم فالأعلم؛ فمعرفة ما دل عليه القرآن والسنن من الأحكام أسهل بكثير كثير من معرفة الأعلم الذي اجتمعت فيه شروط التقليد، ومعرفة ذلك مشقة على العالم الراسخ فضلاً عن المقلد الذي هو كالأعمى. وإن كلفنا بتقليد البعض , وكان جعل ذلك إلى تشهينا واختيارنا؛ صار دين الله تبعًا لإرادتنا واختيارنا وشهواتنا وهو عين المحال، فلا بد أن يكون ذلك راجعًا إلى أمر الله ورسوله باتباع قوله وتلقي الدين من يديه، وذلك محمد بن عبد الله بن عبد المطلب رسول الله وأمينه على وحيه، وحجته على خلقه. ولم يجعل الله هذا المنصب لسواه بعده أبدًا. (الثاني) إن بالنظر والاستدلال صلاح الأمور لا ضياعها , وبإهماله وتقليد من يخطىء ويصيب إضاعتها وفسادها كما الواقع شاهد به. (الثالث) إن كل واحد منا مأمور بأن يصدق الرسول فيما أخبر به ويطيعه فيما أمر، وذلك لا يكون إلا بعد معرفة أمره وخبره، ولم يوجب الله سبحانه من ذلك على الأمة إلا ما فيه حفظ دينها ودنياها، وصلاحها في معاشها ومعادها، وبإهمال ذلك تضيع مصالحها، وتفسد أمورها، فما خراب العالم إلا بالجهل، ولا عمارته إلا بالعلم، وإذا ظهر العلم في بلد أو محلة قلّ الشرّ في أهلها، وإذا خفي العلم هناك؛ ظهر الشر والفساد، ومن لم يعرف هذا فهو ممن لم يجعل الله له نورًا، قال الإمام أحمد: (لولا العلم كان الناس كالبهائم) . وقال: (الناس أحوج إلى العلم منهم إلى الطعام والشراب؛ لأن الطعام والشراب يحتاج إليه في اليوم مرتين أو ثلاثًا , والعلم يحتاج إليه في كل وقت) . (الرابع) إن الواجب على كل عبد أن يعرف ما يخصه من الأحكام، ولا يجب عليه أن يعرف ما لا تدعوه الحاجة إلى معرفته، وليس في ذلك إضاعة مصالح الخلق، ولا تعطيل لمعاشهم؛ فقد كان الصحابة - رضي الله - عنهم قائمين بمصالحهم ومعاشهم، وعمارة حروثهم، والقيام على مواشيهم، والضرب في الأرض لمتاجرهم، والصفق بالأسواق، وهم أهدى العلماء الذين لا يشق في العلم غبارهم. (الخامس) إن العلم النافع هو الذي جاء به الرسول دون مقدرات الأذهان ومسائل الخرص والألغاز، وذلك بحمد الله تعالى أيسر شيء على النفوس تحصيله وحفظه وفهمه، فإنه كتاب الله الذي يسره للذكر، كما قال - تعالى -: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا القُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ} (القمر: ١٧) قال البخاري في صحيحه: قال مطر الوراق: (هل من طالب علم فيعان عليه؟) , ولم يقل: فتضيع عليه مصالحه، وتتعطل عليه معايشه، وسنة رسول الله وهي - بحمد الله - مضبوطة محفوظة، أصول الأحكام التي تدور عليها نحو خمسمائة حديث. وفرشها وتفاصيلها نحو أربعة آلاف. وإنما الذي هو في غاية الصعوبة والمشقة مقدرات الأذهان، وأغلوطات المسائل، والفروع والأصول التي ما أنزل الله بها من سلطان التي كل ما لها في نمو وزيادة وتوليد , والدين كل ما له في غربة ونقصان، والله المستعان. (الوجه الثالث والستون) قولكم: قد أجمع الناس على تقليد الزوج لمن يهدي إليه زوجته ليلة الدخول، وعلى تقليد الأعمى في القبلة والوقت، وعلى تقليد المؤذنين , وتقليد الأئمة في الطهارة وقراءة الفاتحة، وتقليد الزوجة في انقطاع دمها ووطئها وتزويجها؛ فجوابه ما تقدم أن استدلالكم بهذا من باب المغاليط، وليس هذا من التقليد المذموم على لسان السلف والخلف في شيء، ونحن لم نرجع إلى أقوال هؤلاء لكونهم أخبروا بها، بل لأن الله ورسوله أمر بقبول قولهم، وجعله دليلاً على ترتيب الأحكام، فإخبارهم بمنزلة الشهادة والإقرار. فأين في هذا ما يسوغ التقليد في أحكام الدين. والإعراض عن القرآن والسنن، ونصب رجل بعينه ميزانًا على كتاب الله وسنة رسوله؟ ؟ (الوجه الرابع والستون) قولكم: أمر النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - عقبة بن الحرث أن يقلّد المرأة التي أخبرته بأنها أرضعته وزوجته. فيالله العجب! ! فأنتم لا تقلّدونها في ذلك، ولو كانت إحدى أمهات المؤمنين ولا تأخذون بهذا الحديث، وتتركونه تقليدًا لمن قلدتموه دينكم، وأي شيء في هذا مما يدل على التقليد في دين الله؟ وهل هذا إلا بمنزلة قبول خبر المخبر عن أمر حسي يخبر به , وبمنزلة قبول الشاهد؟ وهل كان مفارقة عقبة لها تقليدًا لتلك الأمة أو اتباعًا لرسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - حيث أمره بفراقها؟ فمن بركة التقليد أنكم لا تأمرونه بفراقها، وتقولون: هي زوجتك حلال وطئها! ! ! وأما نحن فمن حقوق الدليل علينا أن نأمر من وقعت له هذه الواقعة بمثل ما أمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لعقبة بن عامر سواء، ولا نترك الحديث تقليدًا لأحد. (لها بقية) ((يتبع بمقال تالٍ))