للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


الإصلاح الشرعي في السودان المصري

يتمشى الإصلاح في السودان كتمشي البُرء في السقم ومن فضل الله تعالى
على هذه البلاد أن كان الشيخ محمد شاكر هو قاضي القضاة فيها وحسبك أنه موضع
إعجاب اللورد كرومر فمن دونه من رجال السياسة والإدارة والقضاء الإنكليز الذين
قلما يشهدون لشرقي في هذا الزمن، ولا شك عندي أن رضاء اللورد كرومر وحاكم
السودان العام من هذا الرجل وثناءهما عليه والعناية بإجابة اقتراحاته وتنفيذ
مشروعاته - ولو بالتدريج - من دلائل حسن النية في عمران السودان وإقامة
الشرع الإسلامي فيه إقامة لا نظير لها في بلاد إسلامية في عصرنا هذا.
ذكرنا في الجزء الثاني أن الحكومة السودانية قررت إنشاء مدرسة قضائية
لتخريج القضاة الشرعيين وما ذلك إلا مشروع من مشروعات قاضي القضاة ثم إننا
علمنا مما وصل إلينا من أنباء تقريراته التي رفعها إلى الحكومة آراءً سديدة في
إصلاح المحاكم بجميع فروعها وأعمالها الإدارية والشرعية والمالية. ولم يكتفِ
بهذا حتى اقترح على الحكومة نشر العلم الإسلامي، وعمارة المساجد، وإقامة الشعائر
الدينية.
وقال: إن البلاد السودانية الآن في حاجة إلى بناء خمسين مسجدًا وأن للحكومة
أن تستعين على بنائها بديوان الأوقاف العمومية في مصر. واقترح تعيين رواتب
للعلماء الذين تفلَّتوا من الفتنة السودانية وإعانة تلامذتهم المشتغلين بطلب العلوم
الدينية لتنفخ في الأمة روح الميل إلى العلوم الحقيقة؛ وليكون من هؤلاء التلامذة
طائفة تصلح في المستقبل للوعظ والإرشاد وتعليم العامة وقال في بيان فوائد ذلك ما
معناه:
إن من يتتبع الحوادث المشؤومة الماضية ويسندها إلى عللها وأسبابها الحقيقية
يعلم أن مثارها الأكبر خلط التعاليم الدينية بالتلبيس على العامة والشعوذة والدجل
وإيهام البسطاء بذلك أن أولئك الدجالين المحتالين أولياء الله وأن اتِّّّباعهم واجب
وطاعتهم مفروضة، فعلى الحكومة أن تستأصل جراثيم هذه الخرافات بالتعليم
الإسلامي الصحيح الذي يطهر القول منها تطهيرًا.
ومن الإصلاح الذي سبقت إليه محاكم السودان - ونرجو أن تلحقها فيه محاكم
مصر - الطلاق على الغائب والمعسر؛ فقد كانت المحكمة الكبرى نشرت في سائر
المحاكم منشورًا تأذنها فيه بالحكم في ذلك على مذهب الإمام مالك (رضي الله عنه) .
وقد جاء في تقرير لقاضي القضاة بيان فائدة هذا الحكم، وهو إنقاذ النساء
الضعيفات اللاتي يتركهن أزواجهن بلا نفقة ولا عائل حتى يلجأن إلى خدمة دنيئة
أو تكفف الناس أو ما هو شر من ذلك وهو الكسب بأعراضهن. وفيه أن القضاة قد
طلقوا على الغائبين والمعسرين في مائتي قضية أو أكثر؛ ولكن بعضهم لجهله
وغباوته لم يتحرَّ في الأمر كما يجب فطلقوا في وقائع يعرف فيها مكان الزوج
ويسهل على الحكومة إخباره (إعلانه) بالمحاكمة. وذكر أن مثل هذا الخطأ كثير
في كل فروع القضايا لجهل القضاة ووعد بأن سيتبع المنشور الأول بمنشور آخر
يعلم القضاة فيه الغرض من هذا الطلاق ليسهل عليهم الوقوف عند حدود الحق فيه.
وقال - في مقدمة التقرير الذي قدّمه إلى الحاكم العام وطلب فيه تعميم
المحاكم - ما مثاله: إنني أوجه نظر سعادتكم أولاً إلى أن القضاء عند الأمم الحية
لا يعد من موارد الكسب كغيره من مصالح الحكومة التي يقصد أن يكون ريعها أكثر
مما ينفق فيها، وإنما هو من المصالح الكمالية الضرورية؛ لأنه عبارة عن
إقامة العدل في الأمة ولولا اعتبارات خاصة لما ساغ لحكومة أن تضرب على
إقامة العدل في الرعية ضريبة تحت ستائر الرسوم القضائية؛ فوظيفة المحاكم
الحقيقية هي إقامة العدل وفصل الخصومات لا جباية الأموال وتحصيل الضرائب،
ثم قال: (وإنه ليسرني أن سعادتكم أول من نظر إلى القضاء بعين الرعاية
والعناية، ولا أزال أكرر بمزيد السرور تلك الكلمة التي سمعتها من سعادتكم وهي:
أن الدين الإسلامي غير مقام في البلاد بسبب قلة الدوائر القضائية) ، ثم اقترح
تعميم المحاكم.
وربما عدنا إلى الكلام في ذلك بعد حين.