شكرنا في الجزئين الأول والثاني لإخواننا مسلمي الهند حفاوتهم بنا وحسن ضيافتنا، ووعدنا بأن نشكر مثل هذه الحفاوة لإخواننا العرب الكرام في مسقط والكويت والعراق، وقضت كثرة المواد التي لا يمكن تأخيرها أن نرجئ الوفاء بهذا الوعد إلى هذا الجزء. سافرت من بمبي صباح الجمعة لتسعٍ خلون من جمادى الأولى للعام الماضي في سفينة إنكليزية قاصدًا مسقط عن طريق كراجي، وكنت حريصًا على السفر في إحدى بواخر الشركة العربية التي يديرها في بمبى مؤسسوها من أصدقائنا تجار العرب، وكان ذلك يسرهم أيضا، وقد تحدثنا به مع مدير الشركة الهمام الشيخ محمد المشاري في قصر الزعيم الكبير صديقي ومضيفي الشيخ قاسم إبراهيم فعلمنا أن انتظار مواعيدها يضيع عليَّ أيامًا كثيرة، وقد انتقلنا في ميناء كراجي إلى سفينة إنكليزية أخرى حملتنا إلى مسقط فوصلنا إليها ضحوة يوم الاثنين (١٢ج٢٩ أبريل) وعندما رست كان قد وصل إليها زورق بخاري من السلطان الكريم السيد فيصل ملك عمان يحمل بعض رجاله لاستقبالي، وكان كلف من يعتمد عليه في بمبي أن يخبره عن سفري منها ببرقية يعرف بها موعد وصولي، فصعدوا ومعهم صديقي الفاضل السيد يوسف الزواوي، أكبر سادات مسقط بعد أسرة السلطان وأكبر تجارها قدرًا وجاهًا وشهرة، فعفرّف الجماعة بي، وبعد السلام نزلنا إلى الزورق فحملنا إلى رصيف قصر السلطان فصعدنا القصر وبعد السلام والمكث مع السلطان ساعة من الزمان ذهبنا إلى دار ضيافته التي أعدها لنا. وكان صديقنا السيد الزواوي أعد دارًا جديدة له على الطرز الحديث؛ لأكون فيها مدة وجودي في مسقط فنفس عليه السلطان ولم يسمح له بذلك. أقمت في مسقط أسبوعًَا كان يختلف إليَّ كل يوم وكل ليلة منه وجهاء البلد وأذكياؤه ويلقون الأسئلة الدينية والفلسفية والأدبية والاجتماعية، وزارني السلطان في دار الضيافة أيضًا ومكث معي عدة ساعات، وزرته في مجلس حكمه عدة مرات، وكان يلقي عليَّ في كل مرة الأسئلة المختلفة، وكان يكون معه في مجلسه أخوه السيد محمد وهو كثير المطالعة في الكتب، ولكنه لا يحب البحث في المجالس في كل ما يطلع عليه من المسائل، وقد عهد السلطان إلى كاتبه الخاص من أهل السنة الزبير بن علي أن يتولى أمر العناية بضيافتي، وإلى كاتبه الشيخ إبراهيم بأن يتعاهدني معه أيضًا. وأدَّب لي صديقي السيد الزواوي مأدبتين حافلتين، إحداهما في داره العامرة في نفس مسقط، دعا إليها علماء ووجهاء البلد، والأخرى في دار له بقرية سداب وهي على مسافة ميل من مسقط ذهبنا إليها بزورق السلطان في البحر، وعدت أنا ماشيًا مع بعض المدعوين برًّا؛ لأجل الرياضة ورؤية ثنية الجبل التي يسلك منها إلى مسقط المطوقة بالجبل. وقد دعا إلى هذه المأدبة مع وجهاء مسقط وجهاء القرى المجاورة لها، فأجاب الدعوة عشرات منهم، وكان الغرض من ذلك أن يسمعوا كلامي وتذكيري بآيات الله، وقد فاض معين السخاء العربي الهاشمي في هذه المأدبة على فقراء القرية الذين اعتادوا أن يعشوا إلى ضوء نار السيد الزواوي الذي هو مظهر لقول الشاعر: * ما أحسن الدين والدنيا إذا اجتمعا * فتراه بين مظاهر الكرم والنعيم، لا يغفل عن مراعاة ما يمكن تحصيله من فوائد العلم والدين، بنى لنفسه عدة دور فخمة جميلة في مدخل البلد على البحر وهو موقع غير واسع، يشارك هو فيه السلطان وقنصل الإنكليز في الملك، ويسكن في دار له فيه قنصل أمريكة، وبنى لله مسجدًا هو أنظف مساجد البلد وأزهاها، وقد جر إليه الماء بأنابيب الرصاص (المواسير) وجعل له عدة حنفيات، وعلى هذه الطريقة اقترح عليَّ يوم المأدبة الأولى وكانت للغداء في يوم الجمعة أن أعظ الناس في مسجده بعد صلاة الجمعة فأجبت، وكان من تأثير الكلام فيهم أن ارتفعت أصواتهم بالبكاء والنحيب والنشيج، واقترح عليَّ أيضًا أن أتكلم وأذكِّر من يحضر المأدبة من الوجهاء والخواص فأجبت، ونجله الكبير الشيخ عبد القادر له ذوق في النظام وميل إلى الصناعة، وقد مد من دارهم في سداب إلى دارهم في مسقط مسرة تليفون فكانت هي الوحيدة في تلك القرية. وسافرت من مسقط ضحوة يوم الإثنين لتسع عشرة خلون من الشهر ومكثت في مجلس السلطان زهاء ثلاث ساعات من أول نهار السفر كان يلقى فيها عليَّ الأسئلة الكثيرة في العقائد وما يتعلق بها والأحكام الشرعية والاجتماعية والتاريخية، وتارة يشير إلى رجاله بأن يسألوا، وكانوا جميعًا يُسرون من الأجوبة، ثم نزلنا إلى البحر فودعني السلطان على رصيف قصره ونزل معي في زورقه البخاري جميع من كان ثَم من أنجاله الكرام وهم خمسة أكبرهم السيد نادر، ومعهم بعض كتابه وحاشيته ومن سوء حظي أن كان ولي عهده السيد تيمور مسافرًا فلم أره، وظل هو واقفًا على الرصيف حتى بعُد الزورق عنه، فودعته الوداع الأخير بالإشارة. ونزل معنا أيضًا صديقنا الزواوي ونجله السيد علي ابن عم السلطان وصهره وقد سافر معنا قاصدًا البصرة فرأيت منه رفيقًا تقيًّا نقيًّا صفيًّا. وقد مكث معنا أولاد السلطان والزواوي ساعة من الزمن في الباخرة ثم ودعناهم الوداع الأخير، وعادوا إلى مسقط موشحين بجلابيب شكري الخالص وودي الدائم، إن شاء الله تعالى (وسنصف مسقط ونتكلم عن حالة أهلها الاجتماعية في الرحلة) . جرت السفينة بنا من مسقط ظهر يوم الاثنين، وهي إنكليزية تقطع في الساعة ١٢ ميلاً فقط، وفي ضحوة اليوم الثاني خرجت بنا عن محاذاة جبال عمان ودخلت في الخليج الفارسي فصرنا نرى بر فارس عن اليمين وبر العرب عن اليسار، ووقفت بنا فجر يوم الخميس في موضع من عرض البحر كان ينتظرنا فيها مركب شراعي كبير أرسله إلينا الشيخ مبارك الصباح صاحب الكويت، وكان علِم بأننا نصل إليه في هذا الوقت في هذه الباخرة مما كُتِبَ إليه من بُمْبَي ومسقط، فنزلنا فيه قبل طلوع الشمس فأقلع بنا والريح لينة والبحر رهو، ثم قويت الريح قليلاً في النهار فبلغ بنا الكويت قبل غروب الشمس، وكان رجال الشيخ مبارك حملوا فيه خروفين كبيرين وكثيرًا من الحلوى والمشمش والخيار فأفطرنا وتغدينا فيه، وقد أعجبني جدًّا طبخ الطاهي الذي كان معهم للخروف بالرز الهندي وهو طاهٍ متفنن، وطبخ للعشاء ألوانًا متعددة لئلا نتأخر إلى الليل فبقيت للبحارة، وقد استقبلنا أولاد الشيخ مبارك وبعض الوجهاء في زورق صغير خارج الميناء. أنزلني الشيخ مبارك في قصره الجديد الذي هو قصر الإمارة وتولى مؤانستي ومجالستي في عامة أوقاته في مدارسة العلم ومراجعة الكتب حتى صار له مشاركة جيدة في جميع العلوم الإسلامية، وأقمت في الكويت أسبوعًا كنت كل يوم ما عدا يوم البريد، ألقي فيه خطابًا وعظيًّا في أكبر مساجد البلد فيكتظ الجامع بالناس، وكان يحضر مجلسي كل يوم وليلة وجهاء البلد من أهل التقوى وحب العلم يسألون عما يشكل عليهم من أمر دينهم، وأما الشيخ ناصر فكان يسأل عن دقائق العلوم في العقائد والأصول والفقه وغير ذلك، على أنه لم يتلقَ عن الأساتذة فهو من مظاهر الذكاء العربي النادر. ومما أحب أن أذكره هنا، وهو من مباحث الرحلة، مسألة علاقة مبارك بالدولة العثمانية والإنكليز، كنا نسمع المنافقين لرجال الدولة يصفون صاحب الكويت بالخيانة للدولة ويعيبونه بطلب حماية الإنكليز له، فسألته عن ذلك فقص عليَّ قصة سألت عنها بعد ذلك السيد رجبا نقيب البصرة مندوب الحكومة إليه فيها؛ فكان جوابه موافقًا لجواب الشيخ مبارك، ثم ذكرت ما قاله للشيخ فهد بك الهزال شيخ قبائل عنزه في العراق؛ إذ كنت في ضيافته على نهر الفرات مع صديقي مراد بك أخي محمود شوكت باشا فصدق ما قاله الشيخ مبارك، وزادني فوائد هو أعرف الناس بها. وملخص ما قاله الشيخ مبارك أنه في أواخر مدة عبد الحميد ساقت الدولة بعض العسكر مع عربان ابن الرشيد إلى قرب الكويت وأرسل المشير فيضي باشا السيد رجبا النقيب ومع نجيب بك ابن الوالي إلى الكويت، فبلَّغاه أنه قد صدرت إرادة سَنية بوجوب خروجه من الكويت إلى الآستانة أو إلى حيث شاء من ولايات الدولة، والحكومة تعين له راتبًا شهريًّا يعيش به، فإن لم يخرج طائعًا دخل الجند مع عرب ابن الرشيد وأخرجوه بالقوة، فسألهم ما هو ذنبه الذي استحق به النفي من بلده وعشيرته؟ وذكر نقيب البصرة بما يعرف من إخلاصه للدولة وإعانته لها بالمال عند كل حادثة وبما كان من محاربة سلفه وعشيرته لقبائل المنتفك المالكين للبصرة وإخراجهم منها وجعلها في حكم الدولة كما ملكهم هو وعشيرته بقوتهم الأحساء وغيرها، وطلب منه أن يعود إلى البصرة فيقنع المشير بمراجعة الآستانة. فقال: إنما علينا البلاغ وليس في يدنا غيره. قال: فخرجت من عندهما بقصد مشاورة أهلي، وكانت حكومة الهند الإنكليزية قد علمت بكل ما دبرته الدولة في ذلك وبمجيء عشيرة ابن الرشيد مع العسكر إلى جهة الكويت، فأرسلت مدرعتين فوقفتا تجاه البلد، فلما عُدتُ رأيتُ أميرًا إنكليزيًّا قد نزل من إحدى المدرعتين ومعه بعض الجند فسألني عما جرى فأخبرته الخبر، فقال: إن حكومتنا متفقة مع حكومة الترك على أن تبقى الكويت على حالها، لا يتعرضون ولا نتعرض لها؛ وإذ قد غدروا وخالفوا فقد صار لنا حق الدخول في أمرها، ولا يمكن أن نسمح لجندي عثماني أن يدخلها، وإذا دخلوا برضاكم دمرناها على رءوسكم ورءوسهم، ثم بلَّغ الأميرال ذلك لنقيب البصرة رسول الحكومة فقفل راجعًا وبلَّغ المشير ذلك، فأمر المشير بصرف الجنود والعربان، قال: فما كان من تدخل الإنكليز في أمر الكويت لم يكن بطلب مني بل كان هذا سببه. وقد عرضوا عليَّ أن أختار لنفسي راية أرفعها على البلد وأعلن الاستقلال تحت حمايتهم فأبيت ذلك، وهذه الراية العثمانية تراها كل يوم مرفوعة فوق رأسي. وقد تعجبوا من قولي لهم: إنني أختار أن أكون دائمًا عثمانيًّا، قيل لي: أتقول هذا بعد أن رأيت منهم ما رأيت؟ قلت: إن الوالد إذا قسا في تربية ولده أحيانًا لا يخرج بذلك عن كونه والده الذي تجب عليه طاعته. اهـ. وسأذكر في الرحلة ما أيد به نقيب البصرة وشيخ عنزة هذا الكلام؛ فليعتبر المعتبرون بإخلاص العرب للدولة على سوء معاملتها لهم. للكلام بقية