مِن المُجْمَع عليه أن المسلمين في هذه الأزمنة متأخرون عن جميع الأمم في حياتهم الاجتماعية، فما من ملة من الملل إلا وقد سبقتهم إما في بسطة المال وسعة الرزق وخفض العيش فقط كاليهود، وإما في هذا وفي العزة والسيادة وقوة السلطان وسطوة الملك أيضًا. ومن المجمع عليه أن الأمة في أشد الحاجة إلى إصلاح يحفظ لها ما بقي لها من تراث أسلافها، ويؤهلها لاسترداد ما سلب منه، ولا ريب في أن هذا الإصلاح إذا قامت به الحكومات والأمة معًا يكون أقرب حصولاً وأتم فائدة وأدنى لإزالة المرض وإصابة الغرض، وأنه لولا قدرة الحكومات على حمل الأمة على ما تريد منها طوعًا أو كرهًا لما كان يتأتى الإصلاح من قبلها، ولولا أن صلاح الأمة يستلزم صلاح الحكومة لما كان إصلاحها كافيًا لبلوغ الغاية التي تقصد منه، أما وجه اللزوم فظاهر، وهو أن الحكام أفراد من الأمة تختارهم هي لإدارة نظامها وتنفيذ أحكام شريعتها، والصالح لا يختار إلا مثله: {الخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ} (النور: ٢٦) ولكن الإصلاح إذا بَدأ في الأمة دون الحكومة فإنما يتعدى أثره للحكومة بعد زمن طويل، وإذا بدأ في الحكومة أولاً يظهر أمره في الأمة في وقت قريب لما مررت به من التعليل، فوجب على المطالبين بالإصلاح أن يستصرخوا الحكومة والأمة معًا عسى أن تلبي الدعوة إحداهما أو كلتاهما، ولكن كثيرًا من المتنبهين لوجوب الإصلاح يائسون منه لما يرونه من تقدم أوربا السريع وتأخر شرقنا المريع بل موته الذريع، وأعني بموته قيام الغربيين بأعماله، واستئثارهم بأمواله، وذهابهم باستقلاله، وما كان لمؤمن أن ييأس {إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللَّهِ إِلاَّ القَوْمُ الكَافِرُونَ} (يوسف: ٨٧) فكم سنحت الفرص وما انتهزناها، وكم نادتنا النهز وما لبيناها، وقد قلنا في (المنار) الماضي: إن أمامنا الآن فرصتين للإصلاح: إحداهما في مصر وهي العلمية الدينية، والثانية في بلاد الدولة العلية وهي السياسية الإدارية، وإننا مبينون هاتين الفرصتين في هذه المقالة بعض البيان. أما التي في مصر فحرية التعليم والتصنيف والتحرير والطبع والنشر والخطابة وتأليف الجمعيات بأنواعها، وهذه هي سلاليم الترقي التي ترتقي فيها الأمم، ولا يوجد تحت السماء بلاد إسلامية متمتعة بتمام الحرية فيها كالبلاد المصرية، والسبب في هذا ظاهر، فإن فقد الحرية في مثل هذه الأمور النافعة إنما يكون من فساد الأحكام واستبداد الحكام، وزمام السلطة في هذه البلاد بأيدي المحتلين، وقد اقتضت سياستهم أن لا يتعرضوا لهذه الأمور إما لأنهم لا يشاءون التعرض لها كرمًا منهم وفضلاً على خلاف ما يفعلون هم وسائر الأوربيين في كل بلاد تنفذ فيها شوكتهم وتعلو كلمتهم، وإما لأن حكمة التدريج الذي يسيرون فيه اقتضت أن يبدءوا بالأعمال المالية والإدارية والسياسية ويكتفوا من الأمور المعنوية بإدارة المدارس الأميرية على محور سياستهم، وإما لأسباب أخرى، ومهما كان من السبب فإن هذه الحرية فرصة تغتنم، فإذا فرَّطنا فيها ندمنا حيث لا ينفعنا الندم، إذ ربما تأتي أيام نحاسب فيها على خطرات القلوب وهواجس النفوس، ونجبر على التعليم الذي يراد ونمنع من التعليم الذي نريد. وأما انتهاز هذه الفرصة فبإصلاح التعليم في الأزهر الشريف، وبالاجتهاد بتعميم المدارس الأهلية على الوجه المرضي، ولا مجال هنا لبيان الإصلاح الأزهري، فإن لجنة من أكابر علمائه تبحث في هذه الأيام بطرق هذا الإصلاح فنرجئ الكلام فيه إلى أن تفرغ من بحثها ونعلم ما تقرره، فإما ثناءً وتحبيذًا، وإما انتقادًا وتفنيدًا، وأظهر الدلائل على فساد طريقة التعليم المتبعة فيه من قبل أن الكثيرين أو الأكثرين من الذين يمتحنون للتدريس يجرحون فلا يمنحون درجة من درجات التدريس على ما في الامتحان من السهولة، وما منهم إلا من يقضي خمس عشرة سنة في التعليم على الأقل، على أن الذين يمنحون شهادة العالمية ويؤذن لهم بالتدريس لا يوجد واحد في المائة منهم يحسن لغة الدين قولاً وكتابة بحيث يقدر على الكلام والخطابة باللغة العربية الصحيحة، ويكتب بالأسلوب العربي البليغ، ولا يعقل أن أحدًا يفهم القرآن والحديث الذين هما ينبوعا الدين من غير أن تكون ملكة اللغة راسخة في نفسه، ولذلك ما ورد أحد من علماء المسلمين وغيرهم إلى هذه الديار واختبر تعليم الأزهر إلا وذمه، وقال: إنه لا يرجى منه خير للمسلمين، فالأستاذ الشنقيطي من علماء المغرب، والأستاذ الشيخ شبل النعماني مدرس العلوم العربية في كلية عليكرة في الهند، والأستاذ الشيخ أحمد جان القازاني مدرس العلوم العربية في مدرسة عالمجان في بلاد قزان الروسية - اتفقت كلمتهم مع اختلاف أقطارهم على أن التعليم الأزهري لا يرجى منه خير للمسلمين إذا بقي على حاله، وأمثالهم كثير ولا حاجة للاستشهاد بكلام الإفرنج؛ لأن قومنا لا يقيمون لكلامهم وزنًا ويرجمون من يعبأ بكلامهم بأسوأ الظنون، ولا ننكر أن تعليم الأزهر - على عِلاته - وُجُوده خيرٌ من عَدَمِه بالكلية، كيف وقد حفظ لنا بعض علومنا وآثار سلفِنا حفظًا يُحمد عليه، وإن كان ناقصًا لا يبعث على العمل الذي تحيا به الأمة، ولا يُرجى أن تفيض الحياة الملية على الأمة إلا إذا صار المتخرجون منه متقنين لوظيفتهم التي أنشئ الأزهر ووقفت عليه الأوقاف لأجلها، وهي حفظ الدين ولغته بحيث يقدرون على القيام بمنصب القضاء الشرعي على الوجه الصحيح العادل الذي لا يثلم به شرف الملة والأمة، وعلى إرشاد الخاصة والعامة والتعليم في المدارس النظامية ليبثوا الدين في جميع طبقات الأمة ويخاطبوا كل إنسان على قدر عقله وعلمه، ويدفعون عنه الشبهات العصرية، ولن يقدروا على شيء من هذا إلا بتغيير أساليب التعليم، وبالاطلاع على أحوال العصر وفنونه المتداولة ولو في الجملة، وسنفصل ذلك في وقته إن شاء الله تعالى. وأما فرصة الدولة العلية فهي اشتغال روسيا فإنكلترا وسائر دول أوربا الكبرى عنها بالمسألة الصينية، وإنما الخطر على الدولة من روسيا التي يعرف الناس أن سياستها التقليدية تقتضي محو اسمها من لوح الدول وضمها إلى الإمبراطورية الروسية العظمى، أو من اتفاق أوربا على تقسيمها، يدل على شغل روسيا عنها بالطمع في الصين الفيحاء البعيدة الأرجاء، أن هذه الدولة قد عزمت على تعزيز الخط الحديدي العظيم الذي أنشأته في سبيريا (وطوله ٤٦٩٥ ميلاً) بخط آخر ينشط من الطريق الأعظم في بلاد منشوريا التي هي في الشمال الشرقي للصين ممتدًا إلى ميناء (آرثر وينوشوتفم) ويقرب أن تُمدد من هذه إلى بكين عاصمة الصين، ويقدر المال اللازم لهذا الناشط بعشرين مليون جنيه، كما قدر المال اللازم لطريق سبيريا الأعظم بستة وخمسين مليون جنيه إذا مدّ عليه خط واحد، وأنها قررت إنفاق ٩ ملايين جنيه لتعزيز أسطولها بالبوارج من الطراز الجديد، فخمسة وثمانون مليونًا من الجنيهات من دولة لا تعد من الدول الغنية ليس إلا لتلك الغنيمة الكبرى التي تتوقعها في الصين، ويؤكد ذلك تقوية الأسطول مع أمنها على ثغورها في أوربا من الدول البحرية وعلمها بأن اليابان لا تقدم على محاربتها فتخاف منها على فلاديفوستوك وميناء آرثر، ولا يخشى على هاتين الحاضرتين من غير اليابان، هذا، ولا بد لإنكلترا وفرنسا وألمانيا من مزاحمة روسيا، ولا بد أن يمتد اشتغالهن بتلك المملكة إلى سنين كثيرة، فيجب على الدولة العليا أن تشتغل بنفسها ما دام الطامعون في شغل عنها، فقد مضى عليها نحو نصف قرن وهي مشغولة بالسياسة الخارجية عن الإصلاح الداخلي والدول الأوربية تطالبها بالإصلاح، وهي التي تحول بينها وبينه، وقد بَيَّنا رأينا في الإصلاح والواجب من قبل في مقالات نشرت في (المنار) وأخرى في (المؤيد) وأهمها تعميم التعليم العسكري وتقوية الأسطول، ومساعدة الرعية على تعميم المعارف، وانتقاء العمّال والحكام من الأكفاء، والدولة العلية وسلطانها الأعظم - أيده الله تعالى - أعلم منا بما ينبغي ويجب من ذلك. وقد وجه مولانا الخليفة أنظاره في هذه الأيام إلى هذا الأمر المهم؛ فتعلقت إرادته السنية بزيادة الجيش لا سيما الألايات الحميدية، وأمر من عهد قريب بإنشاء بارجتين جديدتين ويخت سلطاني، وبإصلاح بعض السفن القديمة، كما أمر بإنشاء المكاتب والمدارس في بلاد اليمن وغيرها من الولايات المحروسة، ونسأل الله تعالى أن يلهم قلبه الشريف أن يصدر إرادته لجميع الولاة بترغيب الرعية في تأليف الشركات المالية وإنشاء المدارس الوطنية، ولجميع الفيالق العسكرية بتعميم التعليم العسكري، وبالله التوفيق.