للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد توفيق صدقي


خوارق العادات في الإسلام [*]

(أطوار البشر والمعجزات - المعجزات العقلية والحسية - علم الغيب -
التنويم المغنطيسي - استحضار الأرواح - الكهانة - الأحلام - السنن الكونية
والمعجزات - جرائم الأمم والأفراد والعقوبات الإلهية عليها) .

أتى على الإنسان حين من الدهر، كان في طور أشبه بطور الطفولية،
فسادت الأوهام والخرافات على العقول البشرية، وكثر بين الناس الدجالون
والمحتالون، والسَّحرة والمشعوذون، وملكوا نواصي الناس بإفكهم وكذبهم،
وصاروا يتصرفون في جميع أمورهم، فما كان أحد يقدم على عملٍ ما إلا بعد
مشاورتهم والاسترشاد برأيهم، فكان الناس في أيديهم كالأنعام بل هم أضل سبيلاً
عقول فاسدة، وأراء كاسدة، وأفهام ساذجة، وبصائر قاصرة، وجهل وأوهام،
وخرافات وخزعبلات تقيمهم وتقعدهم، وتفرحهم وتحزنهم، فإذا برق بارقٌ من
السماء ارتجفوا واضطربوا، وإذا نزلت صاعقة من السحاب ماجوا وارتعبوا، وإذا
أصابهم مرض ما، علقوا لدفعه الأوراق أو استنجدوا براقٍ، وإذا نظر إلى بنيهم
ناظر حوطوهم بالتمائم، وأطلقوا حولهم بخور المباخر، إذا كسفت الشمس أو
خسف القمر، صاحوا ودقوا الدفوف وقرعوا الطبول؛ لإرضاء آلهتهم على ما
يزعمون، إلى غير ذلك من الأوهام والأباطيل.
هذا كان شأن الجماهير إلا من شذ منهم وندر، وأضاء الله عقله بشيء من
نور العلم، ومع ذلك ما كان يسلم عقله من جميع ترهاتهم.
سار الله - تعالى - مع تلك الأمم في هذا الطور سير الأب الحكيم مع أبنائه
في طفوليتهم، فأكثر فيهم الهادين والمرشدين، والأنبياء والمرسلين، فأكثروا من
وعظهم ونصحهم وإنذارهم ووعدهم ووعيدهم , وخذلوا من كانوا متسلطين على
عقولهم من السحرة والمشعوذين؛ بما أجراه الله على أيديهم من المعجزات، وأظهره
لهم من الآيات البينات التي تركت السحرة مغلوبين على أمرهم حيارى في شأنهم،
ولولا تلك الآيات لما قدر الأنبياء على تخليص أممهم من حبائل الدجالين والمحتالين،
بل الأبالسة والشياطين، فكانوا إذا ظهرت تلك المعجزات بهرت منهم العقول،
وحيرت الأفكار، وأعجزت السحرة، وأدهشت الناس، فيخضع المستعد منهم لهيبة
من ظهرت على أيديهم. فيؤمنون له ويتبعونه، ويطيعونه فيما يأمرهم به {وَمَا
نُرْسِلُ بِالآيَاتِ إِلاَّ تَخْوِيفاً} (الإسراء: ٥٩) ، ثم يأخذ الله المعاندين الذين خالفوا
ضمائرهم، وكابروا عقولهم وأبصارهم، ولم يميزوا بين الغالب والمغلوب،
والصادق والكذوب، بأنواع من العقوبات تناسب أحوالهم جزاء لهم وعبرة لغيرهم؛
لعلهم يرشدون.
مضت الأيام والأعوام، وتوالت القرون والأجيال، وانتقل البشر من حال إلى
حال، وارتقوا من طور إلى طور , فأخذت العقول تستنير، والأفكار تضيء
والسحر يضمحل، والأنبياء من بينهم تقل، حتى ختمت النبوة ببعثة سيد الأنبياء
والمرسلين، وأكبر الهادين والمصلحين.
كان البشر في عهد البعثة المحمدية، قد خرجوا من طور الطفولية إلى سن
الرشد، فأصبحوا لا يناسبهم من الدلائل والبراهين ما كان يناسبهم في القرون
الأولى، وقل فيهم تأثير المحتالين والدجالين والسحرة والمشعوذين ٠ وصاروا
يرجون الهداية من طريقها، فساعدهم الإسلام على ذلك، ونهج بهم منهجًا لم يسبقه
به دين من قبل، فجعل الحجج العملية والدلائل العقلية رائده في جميع دعاويه،
وعليها معتمده في كل مبانيه، وقلل من شأن المعجزات الحسية بقدر الإمكان، حتى
لا تكون عقبة في رقي عقل الإنسان في مستقبل الزمان، {وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَن
يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ * يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الكِتَابِ} (الرعد: ٣٨-٣٩) فإن البشر في عهد النبوة المحمدية، أخذوا يدركون قيمة
المعجزات الحسية، وأنها لا علاقة بينها وبين دعوى النبوة، وأنها لا يسهل تميزها
عن غيرها من أعمال السحرة والمشعوذين، والصناع الماهرين، وأنها إن أقنعت
تلك العقول القديمة، وأرهبت تلك النفوس وهي صغيرة وحملتها على الإيمان،
فإنها أصبحت لا تغني العقل فتيلاً، ولا تزيد الأمور إلا تعقيدًا، وإن الدليل إن لم
يكن له من العقل أكبر نصير، فهو أضعف ضعيف. ومن كان يطلب من النبي
صلى الله عليه وسلم تلك المعجزات، فما كان يريد بها إلا الإعنات والإعجاز،
والسخرية والاستهزاء، وإلا فإن أمامه من البراهين والآيات ما يشفي علة النفوس،
ويروي غلة العقول {أَوَ لَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ
لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} (العنكبوت: ٥١) وأما ما أظهره الله - تعالى -
على يديه من المعجزات الحسية، فلم يكن يراد به إلا إفحام المعاندين المستهزئين،
والزيادة في تثبيت المهتدين. وقد كان جل اعتماد النبي صلى الله عليه وسلم في
إثبات دعوته على القرآن وحده. كما يتضح ذلك لمن تدبر آياته. فإنه هو المعجزة
التي تلتئم مع الدعوة، وتعلو بالعقل إلى مستوى العلم والفهم، وتناسب حال الأجيال
من بعده، فلا تقف عقبة في سبيل نظرياتهم وتفكيرهم، ومعلوماتهم واختراعاتهم،
ولا تلتبس عليهم بحيل الدجالين وتدليس المحتالين، ولا بكذب القصاصين وإفك
الراوين، وتخيل الواهمين، واختراع الكاذبين، بل تساعدهم على البحث،
وتحضهم على التفكير والنقد، والتمحيص والاستدلال والاستنتاج.
فببعثة محمد صلى الله عليه وسلم ختم عصر العجائب والغرائب، وبدأ عصر
العلم والعقل، فهو الحد بين العصرين، فلذا كانت معجزاته تشمل هذا وذاك، وكان
أجلها وأكبرها والباقي منها وهو القرآن مناسبًا لزمنه-عليه السلام -، ولكل ما أتى
بعده من الأزمان فلا يناسبها غيره.
وكما ختم عصر المعجزات، وتمت النبوات، كذلك أغلق باب الكهانة،
فكأن الله - تعالى - في العصر الأول والبشر في طور الطفولية كان يتجلى
لأبصارهم، وفي العصر الثاني وهم في طور الرجولية صار يتجلى لبصائرهم أكثر
مما يتجلى لأبصارهم. فإن بصائرهم في العصر الأول كانت ضعيفة لصغرها فلا
تتحمل أن تراه، فلذا كان يظهر لأبصارهم بأنبيائه ورسله الكثيرين، وآياته
ومعجزاته، وبعض مخلوقاته: كالجن الذين كانوا يسترقون السمع من الملأ الأعلى
فيخبرون به بعض البشر؛ وذلك لأن الأب مع أطفاله يكثر التكلم معهم، وتأديبهم،
وتهذيبهم، وترغيبهم، وترهيبهم، ومكافأتهم بالماديات، أو معاقبتهم على حسب ما
يبدو منهم. فإذا صاروا رجالاً كف عن ذلك، واكتفى بإبداء بعض تعاليمه العامة
وإرشاداته المكتسبة من طول التجربة والاختبار، وتركهم يستعملون عقولهم فيما
يرونه صالحًا لهم، كذلك فعل الله تعالى (وله المثل الأعلى) بعد أن بلغ الإنسان
رشده، أعطاه الشريعة العامة والقواعد الثابتة، وأباح له التصرف في الأمور
بحسب ما يرشده إليه عقله، فبعد أن كان يوحي للأمم السابقة كبني إسرائيل مثلاً في
كل جزئية من جزئيات الأمور، اكتفى الآن بما في القرآن الشريف من القواعد
العامة والأصول الثابتة، فإنها - مع ما يوحيه إلينا العقل - كافية لهدايتنا في جميع
الأمور بعد أن بلغنا رشدنا.
لذلك أغلق الله - تعالى - باب الوحي والمعجزات والكهانة، وأخبرنا بذلك كله
صريحًا في الكتاب العزيز، فلم يبق لمحتال علينا ولا لمشعوذ أدنى وسيلة، وبذلك
خلص العقل البشري من الأوهام والخرافات والترهات، وأصبح طريق العلم أمامه
واضحًا لا يحجبه عنه حاجب، ولا يقف أمامه فيه واقف. ولكي لا يبقى هناك ثلمة
في نفس أحد من المؤمنين، يصل إليه منها شيطان من الشياطين، نَصَّ الكتاب
العزيز نصًّا صريحًا لا يقبل التأويل على أن الغيب علمه عند الله لا يعلمه إلا هو،
وأن الأمور كلها بيد الله، يصرفها كما يشاء لا يراعي فيها مجاملة أحد من عباده،
فقال مخاطبًا لرسوله صلى الله عليه وسلم: {قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلاَ ضَراًّ إِلاَّ
مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الغَيْبَ لاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلاَّ
نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} (الأعراف: ١٨٨) ومثل ذلك في القرآن كثير
يصعب أن يستقصى في مثل هذه المقالة.
يقول واهم: إذا كان الغيب لا يعلمه أحد إلا الله، فما بال التنويم المغنطيسي
واستحضار الأرواح، والأحلام الصادقة تكشف كثيرًا من الغيب، وكانت الكهانة
تكشف كثيرًا منه من قبل؟
فاعلم أن الشخص في حالة التنويم المغنطيسي لا يمكنه أن يعلم شيئًا مما لم
يوجد، فلا يمكنه أن يطلع على الغيب؛ أي: لا يمكنه أن يعرف شيئًا مما لم يكن له
وجود، وهو في تلك الحالة المخصوصة، وغاية الأمر أنه لا يحجبه عن رؤيا
بعض الموجودات حاجب؛ لصفاء روحه عن كدورة المادة إذ ذاك، ومن هنا تتسع
دائرة معلوماته عن بعض الموجودات، فيمكنه أن يخبر بالقياس أو الاستنتاج مما
علم عن بعض أشياء قبل وقوعها: كالأمراض التي ستصيبه مثلاً بعد وقوفه على
حالته الجسمية، كما يخبر الطبيب عن بعض الأشياء المرضية قبل حصولها؛
لمعرفته الأمراض وأسبابها ومسبباتها وأعراضها، وكما يخبر الفلكي عن الكسوف
والخسوف قبل وقوعهما؛ أي: إن الشيء إذا لم يكن موجودًا فلا يمكن العلم بوقوعه
إلا قياسًا أو استنتاجًا واستنباطًا من موجود، وإلا فالغيب (وهو ما غاب عن
الإنسان لعدم وجوده مطلقا أو لعدم وجود ما يستدل به عليه) علمه عند الله لا يعلمه
إلا هو، ولا يعلمه أحد من عباده إلا إذا أطلع هو (جل شأنه) أحدًا على شيء منه
فيخبر به، ويفشو بين الناس، كما أطلع الله رسله (الملائكة والأنبياء) على بعض
الغيب، فعلموا وعلمه الناس منهم، وكما كان يعلم بعض ذلك بعض الجن قبل إبطال
الكهانة، واستراق السمع من الملأ الأعلى فيخبرون به بعض البشر، فيخيل للناس
أنهم يعلمون الغيب، والحقيقة أنهم أُخبروا بما أخبروا به، ولنا الآن في مسألة
استحضار الأرواح دليل قاطع حسي على إمكان اتصال البشر (ومنهم الكهنة)
بالعوالم الأخرى الروحية (ومنهم الملائكة والشياطين) ، وبذلك يمكن البشر
الاطلاع على بعض المغيبات من هذه الطريق، كما يمكنهم أن يطلعوا على بعضه
في طريق الأحلام الصادقة، فإنها من بقايا الوحي إلى بعض النفوس الصافية،
وفيها يُري الله - تعالى - بعض عباده شيئًا مما سيكون بإرادته، كما كان يوحي
إلى الأنبياء من قبل، وليس للبشر في معرفة شيء من ذلك اختيار، بل هو شيء
يفعله الله متي شاء، وكيف شاء.
أمَّا عِلم أحد من تلقاء ذاته (أي: بدون وحي أو سماع من غيره) وبغيب
حقيقي (أي: لا يستدل عليه من موجود) فهو محال، إلا على الله الفاعل المختار
الذي يفعل ما يشاء متى شاء، وكما شاء. ودعوى معرفة أحد غيره الغيب دعوى
باطلة كاذبة، لا يمكن لأحد الجزم بوقوع شيء من الغيب باليقين، وما يقع منه
مطابقًا للخبر، فلا يكون إلا اتفاقًا ما لم يكن موحى به.
فالغيب المنفي علمه في القرآن الشريف هو هذا الذي ذكرناه، أي: الغيب
الحقيقي لا مطلق الغيب. فإن الغيب أمر اعتباري، فما غاب عنك لا يغيب عن
غيرك، وما لم تعرفه لجهلك بشيء ما، يعرفه غيرك ممن علم هذا الشيء أما مسألة
إنكار المعجزات بسبب مخالفتها لما اعتاد الناس، فهي من السخافة بمكان
نعم، إن سنن الله - تعالى - في هذا العالم لا تتبدل ولا تتغير، كما نطق به
القرآن الشريف في عدة مواضع منه. ولكن خرق العادة ليس خرقًا للسنة، فإن من
سنة الله إيجاد الشواذ في كثير من الأشياء المعتادة، إذا اقتضت حكمته ذلك. ولذلك
نشاهد في عالمي الحيوان والنبات من الشواذ التي يسمونها (الفلتات الطبيعية) ما
يصعب حصره، وما قال أحد بأن هذه الشواذ خارقة لسنن الكون ونواميس الوجود،
وإن كانت خارقة للمعتاد. ولو سألتهم عن حكمة وجودها أو عن كيفية خلقتها،
لعجزوا عن الجواب. أما نحن فنقول: إن الحكمة في وجود مثل هذه الأشياء الشاذة
هي أن الله - تعالى - يريد أن يرينا شيئًا من مبلغ قدرته وعظمته وأن قدرته
تعالى لا تقف عند الحد الذي تعهدناه، بل هي أوسع من أن تحيط بها مداركنا. وأما
كيفية خلق هذه الشواذ والعلل المباشرة لتوليدها، فإنا نجهلها الآن كمال الجهل،
وربما علمنا عنها شيئًا في المستقبل. كذلك نحن نعلم حكمة إيجاد الله تعالى
للمعجزات؛ وهي أنها تخيف الناس، وتلجئهم إلى الاحتماء بالأنبياء، فيتعلقون بهم
ويؤمنون لهم ويتبعونهم، فتصلح حالهم. وتنفرهم من أعمال السحرة والمشعوذين
وتبعدهم عنهم. ولكنا إلى الآن لا يمكننا أن نفهم كيفية إيجادها، ولا الأسباب التي
تنشئها، وغاية ما نقول: إنه هكذا أوجدتها القدرة الإلهية، كما يقول الطبيعي عن
الشواذ هكذا وجدت، إن كان عقله لا يدرك كيفية وجودها.
قد يقول قائل: إن هناك فرقًا عظيمًا بين المعجزات وبين هذه الشواذ الطبيعية التي
اتخذتها مثالاً لها، فالمعجزات لا يشاهدها أحد الآن، بخلاف الشواذ فإنها تشاهد كل
يوم، فإن كانت المعجزات حقيقية وجارية على سنن الكون، فلم انقطعت الآن؟ ؟
ونقول: أما انقطاع المعجزات فهو لانقضاء زمن الأنبياء، ولو وجد داعٍ لها
الآن لوجدت، كما أن كثيرًا من الشواذ في العالم الطبيعي قد انقرضت الآن؛
لانقراض الحيوانات والنباتات التي كانت تظهر فيها. فكأن سنة الله - تعالى - في
هذا العالم هي إذا وجدت الحكمة لظهور المعجزات تظهر، ولو وجدت بعض
أنواع من الحيوانات والنباتات البائدة، لوجد فيها من الشواذ المخصوصة في
خلقتها وكيفية معيشتها ما يدهشنا الآن، ويعد من العجائب والغرائب. وقد كانت
الأحياء في مبدأ أمرها تتولد من الجمادات مباشرة؛ وهو ما يسمونه (التولد
الذاتي) ، وقامت البراهين القطعية على ذلك، والآن لا يوجد شيء منه مطلقًا، فلم
ينكره المنكرون لانقضاء عهده الآن، كما انقضى زمن المعجزات؟ ؟ إن هذا لأمر
عجاب! !
بقيت كلمة واحدة تتمة لهذا الموضوع؛ وهي أننا قلنا فيما سبق ما معناه: إن
الله - تعالى - كان يؤدب الأمم السابقة ببعض أنواع من العقوبات المادية،
كالخسف والمسخ والقحط، فهل ما يقع الآن بالأمم من ذلك هو جزاء لهم على
أعمالهم أم لا؟
الجواب: إن ما يفهم من القرآن الشريف هو أن ما يقع بالأمم من المصائب
المهلكة؛ هو عقوبة لهم على أعمالهم {وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ القُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا
مُصْلِحُونَ} (هود: ١١٧) ، وكذلك ما يصيب الأشخاص من المصائب؛ هو في
الغالب جزاء لهم على ذنب ارتكبوه {إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ} (الفجر: ١٤) ، {وَمَا
أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ} (الشورى: ٣٠) ولكن لا يفهم من ذلك أن
جميع المصائب هي سبب ما كسبه الإنسان، بل إن ذلك بحسب الغالب؛ فإن الآية
لا تدل على التعميم، وإذا فهم منها العموم فإنه يخصص بمثل قوله تعالى
{وَلَنَبْلُوَنَّكُم بِشَيْءٍ مِّنَ الخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمْوَالِ وَالأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ} (البقرة: ١٥٥) الآية. أي إن بعض المصائب قد يراد بها الاختبار أو غيره لا
العقوبة، كما أن قوله تعالى: {وَأُوتِيَتْ مِن كُلِّ شَيْءٍ} (النمل: ٢٣) لا يراد به
ظاهره، مع أنه صرح في إفادة الكلية من قوله تعالى: {وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ} (الشورى: ٣٠) الآية. فالله تعالى لم يترك البشر في هذا الطور - طور العلم
والعقل - بدون مراقبة ومجازاة لهم على أعمالهم كلا، بل هو أرحم من الأب الحكيم
لا يترك أبناءه إذا كبروا بدون تأديب لهم إذا كثر إجرامهم، بل قد يتداخل في
أمورهم ويعاقبهم على ما يجرمون. فلا تحسبن الله غافلاً عما يعمل الظالمون.

(المنار)
اتبع الدكتور فيما ذكر من ترقي الدين رسالة التوحيد، وهذا هو الأصل في
نسخ الشرائع الذي يحتج به عليه الشيخ صالح اليافعي في الرسالة التي بعد هذه وهو
لا ينكره، ويرد عليه أن الخوارق لم تنقطع ولكنها لم تعد حجة للدين في هذا العصر
كالعصور الأولى.