للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


مسألة الشيخ محمد شاكر
جاء في العدد ٥٥٤٥ من جريدة الدبيش تونيزيين تحت هذا العنوان ما نصه:
نشرت جريدة الدبيش تونيزيين الصادرة بتاريخ ٣٠ نوفمبر الأخير فصلاً إضافيًّا
ببيان حادثة الشيخ محمد شاكر أحد أساتذة جامع صفاقص الذي استحضرته الحكومة
بناء على شكوى قدمها إليها قاضي تلك المدينة ومفتيها ويهددوه بالعزل من وظيفة
التدريس.
وقد أوردنا في ذلك الفصل موضوع هذه الشكوى إذ قلنا: إن الشيخ كان في
خلال دروسه بالمسجد يطعن في التقاليد وينكر المعتقدات الباطلة والظواهر
الخارجية المقتبسة من خرافات العجائز وتخرصاتهن، وأوردنا مثلاً عليها زيارة
قبور الأولياء المصحوبة بتقديم النذور على اعتقاد الحَظوة بواسطة هؤلاء الأولياء
في تحصيل المنافع ووقاية الذات من طوارئ الحدثان، وقلنا: إنه نسب هذه
الأضاليل إلى ما انزلق في دين الإسلام الصافي المنهل من بقايا عقائد الوثنيين وقال: إن كثيرًا من التقاليد التي تسير عليها بعض الطرق الإسلامية كالعيسوية مثلاً
مناقضة كل المناقضة للقواعد التي بني عليها الدين الإسلامي.
ولا يخفى ما ينجم عن تلك العادات والمعتقدات من إعاقة الأمم عن النهوض
من كبوة التأخر ومنعها عن بلوغ الشأْو البعيد من التقدم والارتقاء وإسدالها ظلمات
الجهل الذي يزيد تلك الأمم وأمثالها مصابًا على مصابها.
فمن الواجب - والحالة هذه - إنقاذ طبقات الناس من ظلمات التقاليد
والبدع والمعتقدات الفاسدة التي لا غرض لأصحابها غير التذرع بها لتحصيل سعادة
الدنيا بحمل البسطاء والسُّذّج على الاعتقاد بأنها من الدين وما هي من الدين في شيء
بل الدين منها بَراء، وقد ختمنا ذلك الفصل يومئذ بقولنا: (فإذا كان ما ذكرناه قد وقع
فعلاً فلنا الأمل الوطيد في أن تقلع الحكومة التونسية عن متابعة أهواء القائمين
بأمور الشرع في صفاقس من قاضٍ ومُفتٍ وأن تطلب منهما بُعدًا في النظر وسعة في
الصدر) .
وكنا نظن أنه يكفينا مجرد سرد وقائع تلك الحادثة كي تكفل الوقاية من
الاضطهاد لرجل فاضل لا عيب له سوى أنه فاق على أشباهه فوقًا عظيمًا، ببُعْد
النظر وحرية اللسان وصدق القول، وكان ينبغي أن يجازى على هذه المزايا
بالتشجيع والتعضيد.
نأسف الأسف المُرّ لكون أن الحكومة التونسية لم توضح معنى ما دعوناها إليه
حتى انقادت في تصرفاتها إلى تغريرات المغرورين مما لا نرى منه مندوحة عن
البحث في عواقبه ونتائجه.
فإنها لم تكتفِ بفصل الأستاذ عن وظيفته بقرار من الوزير الأول بل سلبت
منه لقب مطوع الذي يفيد أنه حائز على إجازة لنبوغ في العلوم والفنون في الجامع
الأعظم؛ ولذا رأينا أن لا نجر ذيل التغافل والسكوت عن هذا الحادث الذي يوجب
الكدر والأسف.
لم يكن الشيخ محمد شاكر الذي فُصل من وظيفته من الطاعنين في العمر كما
قلناه خطأ، وإنما هو شاب في مقتبل العمر، ومع كونه كفيف البصر كان في مقدمة
طلبة الجامع الأعظم نباهةً وذكاءً ونال إجازة العالمية التي استُردت منه ظلمًا
وعدوانًا، وكان ذلك الشيخ الشاب يتلقى غير الدروس المعتادة في الجامع الأعظم
علوم المدرسة الخلدونية [١] ونجاهر هنا بأعلى صوتنا بأن الفضل الأول لهذه
المدرسة التي اقتبس منها تلك الأفكار العالية التي انقضت عليه بسببها صواعق
غضب الطبقة العتيقة من المسلمين.
ويضاف إلى ما تقدم أن ذلك الشاب مُلِمٌّ بما يحدث الآن في القطر المصري
من التقدم العلمي وهو في مقدمة المعجبين بالشيخ محمد عبده قاضي القضاة في
مصر [٢] الذي هو من أكابر المسلمين ذوي الأفكار النيرة التي توافق المدنية ومن
ثقاتهم وله مؤلفات وفصول في الجرائد تشهد بسعة اطلاعه يقصد بها إعادة الإسلام
إلى ما كان عليه من الرونق وتطهيره من التقليد والبدع التي من شأنها أن تغرس
في القلوب التعصب الديني وعدم الاحتمال والتسامح وتجعل بين العالم الإسلامي
والمدنية سدًا منيعًا.
هذه الخطة تسير عليها جريدة مصرية تُدعى (المنار) يكتب فيها الشيخ
محمد عبده بدون أن يذيِّل كتاباته بإمضائه وهي حريصة على ملازمة خطتها هذه
حرصًا يزداد كل يوم.
إن النشء الإسلامي في هذا العهد - ومنه الناشئون في تونس - قد أيقنوا أن
لا تكون نهضة للسلالة العربية إلا ببث مثل تلك الأفكار؛ ولهذا تَلَقَّتْ كتابات الشيخ
محمد عبده ومقالاته بالصدر الرحيب، ومن واجبات الحكومة التونسية في هذا
الوقت الذي تنبه التعصب فيه من سباته بالبلاد المراكشية وزعزع عرش سلطان
متهم بشدة الميل إلى الحديث أن تساعد بما في وسعها من الجهد الأفكار التي من
شأنها بث مبادئ الاحتمال والتسامح بين طبقات العالم الإسلامي ولكنها بدلاً عن ذلك
عاملت الرجل الذي لم يخشَ بأسًا بالمجاهرة بأفكاره معاملة الساعي في غرس بذور
الفتنة بل معاملة أحقر الناس وأدناهم؛ إذ طردته طرد الأشقياء فأصبح على قارعة
الطرقات لا مال في يده ولا أمل في قلبه.
ولو أن هذا الرجل حاول أن يقلب معالم الدين الإسلامي أو لو أنه أبدى من
الأفكار والخواطر ما يخالف مبادئ وقواعد هذا الدين لقلنا: إن الحكومة التونسية
رامت المحافظة على الأمن العام والسلام بين الناس فاتخذت قبله وسيلة من وسائل
الشدة والجبروت لتكون العبرة الزاجرة، ولكنها اضطهدته اضطهادًا ديني الصبغة
في حين أن حماية فرنسا على تونس تفيد تصدي دولة متمدنة لإفاضة أنوار العلوم
على جموع من الناس في حاجة إلى التعلم والترقي وأي جناح على رجل لجأ إلى
الأحاديث النبوية الشريفة مستشهدًا بها على فساد ما تذهب إليه العامة من ضرورة
إرسال الهدايا إلى أضرحة الأولياء لكي تنال المنافع بحسن تأثرهم في أحوال
المعيشة اليومية.
قال النبي (صلى الله عليه وسلم) في حديث له (لا تتخذوا قبري وثنًا) .
وحقيقة الأمر أن ذنب الشيخ محمد شاكر الذي لا يغتفر ولا يعفى عنه بسببه.
هو تجرؤه على المسّ بعادات يتخذها مشايخ الزوايا والمستفيدون منها مصدرًا من
مصادر الكسب ويرون أن سيئول أمرها إلى النضوب إذا سادت الأفكار التي يسعى
الشيخ في بثها بين طبقات العامة.
قلنا: إن الشيخ محمد شاكر كان أستاذًا في صفاقس وإن الزاوية التي كان يقوم
فيها بوظيفته تسمى بزاوية سيدي (كراي) التي يرى العامة في الولي المدفون بها أنه
الحامي لتلك البلدة والتي قد استفادت سلالته بشهرته فعكفوا إلى الآن فيها يستأثرون
بالنذور التي تقدم إليه وهم يعيشون بواسطتها في نعيم ورخاء فلمّا اطلعوا على ما
كان يلقيه الشيخ محمد شاكر للطلبة من الأفكار المغايرة لمصلحتهم ثارت عليه
ثورتهم فبدؤوا أولاً برفع الشكوى إلى كل من القاضي والمفتي اللذين استدعيا إليهما
الأستاذ وأنّبوه على الخطة التي انتهجها في التدريس فأراد الشيخ أن يقيم لهم الدليل
على أنه لم يمس الدين بشيء مستشهدًا بالكتب مؤيدًا حجته بأقوال السلف الصالح
ولكنه عبثًا جَاهَدَ في هذا السبيل؛ لأن المناقشة بينه وبين القاضي انتهت بقول
هذا الأخير له إن الضوء لا يأتي من أعمى فأجاب الشيخ محمد شاكر: (وأنا أدعو
أن يخلص الناس من عمايتهم) فاعتبر القاضي أن هذه الإجابة شبه فاضحة له
استلزمت استدعاءه إلى الوزارة حيث حاول التبرّؤ من الذنب الذي عُزِيَ إليه ولكنه
لم يكن أمامها أسعد حظًّا من أمام القاضي) .
ولكن من الأسف أن الحكم عليه كان صادرًا من قبل؛ لأن للقاضي والمفتي
الصفاقسَّيين أركانًا في الحكومة يستندان إليهم فطلبوا الإقرار على العزل بالرغم عن
المساعي العديدة التي بذلت لديهم في صالح المعزول، وقد أمضى الوزير الأول هذا
القرار بدون أن يكون مقتنعًا بصحة السند الذي أفضى إليه.
هذا تفصيل شرح حادثة الشيخ محمد شاكر أستاذ مسجد سيدي كراي قضي على
هذا الرجل؛ لأنه تجاسر على القول بأن الأباطيل والبدع والتقاليد صواعق الأمة
وأن أرباب الطرائق الدينية يعيشون من سذاجة الأفراد وسرعة اعتقادهم، وبهذه
المثابة يبثون التعصب في نفوسهم.
ولا ننسى أن حوادث مرغريت ومشاكل مراكش الحديثة ليست في الحقيقة
سوى نتيجة من نتائج التعصب الذي ما دام كامنا في أفئدة المسلمين فلا بد لنا أن
نتوقع حدوث أمثال تلك الحوادث فلا غرابة إذا عجبنا بعد ذلك من اضطهاد رجل لا
ذنب له إلا الوعظ لإنقاذ أبناء دينه من ربقة الجهل الذي قوّس ظهورهم منذ أجيال
ومنعهم من المشاركة في التقدم الذي يدفع بالإنسانية إلى الأمام. اهـ