للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


أصل دعوة التجديد الإسلامي في نجد وقاعدتها

لا يزال كثير من الناس يجهلون تفصيل حقيقة هذه الدعوة التي يسمونها
الوهابية؛ لجهلهم بتاريخها أو بحقيقة الإسلام التى كان عليها السلف الصالح، وقد
ورد على الشيخ العلامة عبد الله ابن الشيخ محمد بن عبد الوهاب صاحب الدعوة
كتاب من العلامة الشيخ عبد الله الصنعاني يسأله فيه عما يدينون به وما يعتقدونه
من الحق، فأجابه بالكتاب الآتي، فاستشكل الصنعاني مسألة المذهب في الجواب،
فرد عليه الشيخ عبد الله بما أزال استشكاله فرأينا أن ننشر الجوابين في المنار؛
لأنهما فصل الخطاب في الموضوع، وهذا نص الجواب الأول.
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا محمد سيد الأنام، وعلى آله وصحبه
البررة الكرام، إلى عبد الله بن عبد الله الصنعاني وفقه الله وهداه، وجنَّبه الإشراك
والبدعة وحماه، وعليكم السلام ورحمة الله بركاته.
(أما بعد) فوصل الخط، وتضمن السؤال عما نحن عليه من الدين.
(فنقول) وبالله التوفيق الذي ندين الله به عبادة الله وحده لا شريك له والكفر
بعبادة غيره، ومتابعة الرسول النبي الأمي حبيب الله وصفيه من خلقه محمد صلى
الله عليه وسلم فأما عبادة الله وحده فقال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ
لِيَعْبُدُونِ} (الذاريات: ٥٦) وقال تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ
اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} (النحل: ٣٦) فمن أنواع العبادة الدعاء، وهو
الطلب بياء النداء؛ لأنه ينادى به القريب والبعيد، وقد يستعمل في الاستغاثة أو
بإحدى أخواتها من حروف النداء، فإن العبادة اسم جنس فأمر الله سبحانه وتعالى
عباده أن يدعوه ولا يدعوا معه غيره، وقال تعالى: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ
لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} (غافر: ٦٠) وقال
في النهي: {وَأَنَّ المَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلاَ تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَداً} (الجن: ١٨) و (أحدًا)
كلمة تصدق على كل ما دُعِيَ به غير الله تعالى، وقد روى الترمذي عن أنس أن
النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الدعاء مخ العبادة) وعن النعمان بن بشير قال:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (الدعاء هو العبادة) ثم قال: {وَقَالَ رَبُّكُمُ
ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} (غافر: ٦٠) رواه أحمد وأبو داود والترمذي، قال
العلقمي في شرح الجامع الصغير حديث (الدعاء مخ العبادة) قال شيخنا قال في
النهاية: مخ الشىء خالصه، وإنما كان مخها لأمرين: (أحدهما) أنه امتثال لأمر
الله تعالى حيث قال: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} (غافر: ٦٠) فهو مخ العبادة
وخالصها.
و (الثاني) أنه إذا رأى نجاح الأمور من الله قطع علقته عمن سواه ودعاه
لحاجته وحده؛ ولأن الغرض من العبادة هو الثواب عليها، وهو المطلوب بالدعاء،
وقوله: (الدعاء هو العبادة) قال شيخنا: قال الطيبي: أتى بالخبر المعرف
باللام ليدل على الحصر، وإن العبادة ليست غير الدعاء. انتهى كلام العلقمي [١] .
إذا تقرَّر هذا فنحن نعلم بالضرورة أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يشرع
لأمته أن يدعوا أحدًا من الأموات لا الأنبياء ولا الصالحين ولا غيرهم بل نعلم أنه
نهى عن هذه الأمور كلها، وأن ذلك من الشرك الأكبر الذي حرَّمه الله تعالى
ورسوله، قال الله تعالى: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّن يَدْعُو مِن دُونِ اللَّهِ مَن لاَّ يَسْتَجِيبُ لَهُ
إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ وَهُمْ عَن دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ * وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا
بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ} (الأحقاف: ٥-٦) وقال تعالى: {فَلاَ تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ
فَتَكُونَ مِنَ المُعَذَّبِينَ} (الشعراء: ٢١٣) وقال تعالى: {وَلاَ تَدْعُ مِن دُونِ اللَّهِ مَا
لاَ يَنفَعُكَ وَلاَ يَضُرُّكَ} (يونس: ١٠٦) الآيات، وهذا من معنى (لا إله إلا الله)
فإن (لا) هذه هي نافية للجنس فتنفي جميع الآلهة و (لا) حرف استثناء يفيد
حصر جميع العبادة على الله عز وجل، والإله اسم صفة لكل معبود بحق أو باطل
ثم غلب على المعبود بحق، وهو الله تعالى الذي يخلق ويرزق ويدبر الأمور، وهو
الذي يستحق الإلهية وحده، والتأله التعبد، قال الله تعالى: {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لاَّ
إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ} (البقرة: ١٦٣) ثم ذكر الدليل فقال: {إِنَّ فِي خَلْقِ
السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} (البقرة: ١٦٤) إلى قوله: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ
اللَّهِ أَندَاداً} (البقرة: ١٦٥) الآية.
وأما متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم فواجب على أمته متابعته في
الاعتقادات والأقوال والأفعال قال الله تعالى: {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي
يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} (آل عمران: ٣١) الآية، وقال صلى الله عليه وسلم: (من أحدث
في أمرنا ما ليس منه فهو رد) رواه البخاري ومسلم وفي رواية لمسلم: (من
عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد) فتوزن الأقوال والأفعال بأقواله وأفعاله فما
وافق منها قُبِلَ، وما خالف رُدَّ على فاعله كائنًا مَن كان، فإن شهادة أن محمدًا
رسول الله تتضمن تصديقه فيما أخبر به وطاعته ومتابعته في كل ما أمر به وقد
روى البخاري من حديث أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (كل
أمتي يدخلون الجنة إلا من أبى، قالوا يا رسول الله ومَن يأبى؟ قال: من أطاعني
دخل الجنة ومن عصاني فقد أبى) فتأمل رحمك الله ما كان عليه رسول الله صلى
الله عليه وسلم وأصحابه بعده والتابعون لهم بإحسان وما عليه الأئمة المقتدى بهم من
أهل الحديث والفقهاء كأبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد بن حنبل رحمهم الله تعالى
لكي تتبع آثارهم، وأما مذهبنا فمذهب الإمام أحمد بن حنبل إمام أهل السنة، ولا
ننكر على أهل المذاهب الأربعة إذا لم يخالف نص الكتاب والسنة ولا إجماع الأمة
ولا قول جمهورها.
والمقصود بيان ما نحن عليه من الدين وأنه عبادة الله وحده لا شريك له فيها
نخلع جميع الشرك، ومتابعة الرسول وبها نخلع جميع البدع إلا بدعة لها أصل في
الشرع [٢] كجمع المصحف في كتاب واحد، وجمع عمر رضي الله عنه الصحابة
على التراويح جماعة، وجمع ابن مسعود أصحابه على القصص كل خميس ونحو
ذلك، فهذا حسن، والله أعلم، وصلى الله علي محمد وآله وصحبه وسلم.
أجاب الصنعاني الشيخ عبد الله (رحمهما الله) على كتابه بالموافقة على كل
ما فيه إلا قوله: إن مذهبهم مذهب الإمام أحمد فإنه يقتضي تقليده والتقليد محظور،
وإنما المشروع اتباعه في الأخذ من الكتاب والسنة، فأجابه الشيخ عبد الله بهذا
الكتاب وهو الثاني قال:
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد الله الذي نزَّل الكتاب على النبي المختار، وبينه صلى الله عليه وسلم
وحمله عنه أصحابه الأخيار، ثم التابعون لهم من الأبرار.
إلى عبد الله بن عبد الله الصنعاني سلمه الله من الشرك والبدع، ووفقه للإنكار
على من أشرك وابتدع، والصلاة والسلام على محمد الذي قامت به على الخلق
الحجة، وبيَّن وأوضح لهم المحجة، وعلى آله وصحبه القدوة بعده.
(أما بعد) فقد وصل كتابكم وسر الخاطر، وأقر الناظر، حيث أخبرتم أنكم
على ما نحن عليه من الدين وهو عبادة الله وحده لا شريك له ومتابعة الرسول الأمي
سيد ولد آدم صلى الله عليه وسلم، وما أوردتم على ذلك من الآيات الواضحات،
والأحاديث الباهرات، وإن الرد عند الاختلاف إلى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله
عليه وسلم، ثم إلى أقوال الصحابة ثم التابعين لهم بإحسان فذلك ما نحن عليه،
وهو ظاهر عندنا من كل قول له حقيقة، وحقيقة العلم وثمرته العمل {قُلْ إِن كُنتُمْ
تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي} (آل عمران: ٣١) الآية {لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ} (الصف: ٢) .
وكل يدعي وصلاً لليلى ... وليلى لا تقر لهم بذاكا
فنحن أقمنا الفرائض والشرائع والحدود والتعزيرات، ونصبنا القضاة، وأمرنا
بالمعروف، ونهينا عن المنكرات، ونصبنا علم الجهاد على أهل الشرك والعناد فلله
الحمد والمنة.
وأما استفصالكم عن قولنا: مذهبنا مذهب الإمام أحمد، وقولكم: إن تريدوا
أن نسلك في أخذ المسائل من الكتاب والسنة مثل مسلكه فنعم ما قلتم، وإن تريدوا
بقولكم ذلك التقليد له فيما قاله من غير نظر إلى الحجة من الكتاب والسنة كما سلك
بعض أتباع الأئمة الأربعة من جعل آرائهم وأقوالهم أصولاً لمسائل الدين واطَّرَحُوا
الاحتجاج بالكتاب والسنة وسدوا بابهما إلى آخره. انتهى كلامكم ملخصًا.
فالجواب وبالله التوفيق من أوجه (الوجه الأول) : إن في رسالتنا التى عندكم
ما يرد هذا التوهم، وهو قولنا فيها: {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي} (آل عمران: ٣١) الآية، وقوله صلى الله عليه وسلم: (من أحدث في أمرنا
هذا ما ليس منه فهو رد) رواه البخاري ومسلم، فتوزن الأقول والأفعال بأقواله
وأفعاله فما وافق منها قُبِلَ وما خالف رُدَّ على قائله كائنًا مَن كان إلى آخره، فتضمن
هذا الكلام أنه لا يُقدم رأي أحد على كتاب الله وسنة رسوله، والعجب كيف نَبَا
فهمكم عنها.
(الوجه الثاني) قد صرَّح العلماء أن النصوص الصريحة الصحيحة التى لا
مُعَارض لها ولا ناسخ، وكذا مسائل الإجماع لا مذاهب فيها، وإنما المذاهب فيما
فهمه العلماء من النصوص أو علمه أحد دون أحد أو في مسائل الاجتهاد ونحو ذلك.
(الوجه الثالث) قد ذكر العلماء أن لفظة المذهب لها معنيان: معنى في اللغة،
ومعنى في الاصطلاح، فالمذهب في اللغةَ مفْعَل ويصح للمصدر والمكان والزمان
بمعنى الذهاب وهو المرور أو محله أو زمانه، واصطلاحًا ما ترجَّح عند المجتهد
في أيما مسألة من المسائل بعد الاجتهاد، فصار له معتقدًا ومذهبًا، وعند بعضهم ما
قاله مجتهد بدليل ومات قائلاً به، وعند بعضهم أنه المشهور في مذهبه كنقض
الوضوء بأكل لحم الجزور ومس الذكر ونحوه عند أحمد، ولا يكاد يطلق إلا على
ما فيه خلاف، وقال بعضهم: هو في عرف الفقهاء ما ذهب إليه إمام من الأئمة من
الاجتهادية [٣] ، ويطلق عند المتأخرين من أئمة المذاهب على ما به الفتوى وهو ما
قوي دليله، وقيل: ما كثر قائله، فقد تَلَخَّصَ من كلامهم أن المذهب في الاصطلاح:
ما اجتهد فيه إمام بدليل أو قول جمهور أو ما ترجَّح عنده ونحو ذلك، وإن
المذهب لا يكون إلا في مسائل الخلاف التى ليس فيها نص صريح ولا إجماع،
فأين هذا من توهمكم أن قولنا لكم: مذهبنا مذهب الإمام أحمد أنا نقلده فيما رأى
وقاله، وإن خالف الكتاب والسنة والإجماع. فنعوذ بالله من ذلك والله المستعان.
(الرابع) قال ابن القيم في إعلام الموقعين لما ذكر المفتين بمدينة السلام،
وكان بها إمام أهل السنة على الإطلاق أحمد بن حنبل الذي ملأ الأرض علمًا وحديثًا
وسنة إلى أن قال: وكانت فتاواه مبنية على خمسة أصول:
(أحدهما) النصوص فإذا وجد النص أفتى بموجبه، ولم يلتفت إلى ما خالفه
كائنًا من كان، ثم ذكر أحاديث تمسك بها الإمام أحمد ولم يلتفت إلى ما خالفها إلى
أن قال:
(الأصل الثاني) من أصول فتاوى الإمام أحمد ما أفتى به الصحابة فإنه إذا
وجد لبعضهم فتوى لا يعرف له مخالف منهم فيها لم يَعْدُهَا إلى غيرها، ولم يقل:
إن ذلك إجماع بل من ورعه في العبارة يقول: لا أعلم شيئًا يدفعه، ونحو هذا إلى
أن قال:
(الأصل الثالث) من أصوله إذا اختلف الصحابة تخير من أقوالهم ما كان
أقربها للكتاب والسنة، ولم يخرج عن أقوالهم، فإن لم يتبين له موافقة أحد الأقوال
حكى الخلاف فيها، ولم يجزم بقول إلى أن قال:
(الأصل الرابع) الأخذ بالمرسل والحديث الضعيف إذا لم يكن في الباب
شىء يدفعه فهو الذي يرجحه على القياس، وليس المراد بالضعيف عنده الباطل ولا
المنكر ولا ما في روايته متهم بل الحديث الضعيف عنده قسيم الصحيح، فإذا لم
يجد في الباب أثر يدفعه، ولا قول صاحب ولا إجماع على خلافه كان العمل به
عنده أولى من القياس وليس من الأئمة إلا وهو موافقه على هذا الأصل من حيث
الجملة، فإذا لم يكن عند الإمام أحمد نص ولا قول للصحابة أو أحد منهم ولا أثر
مرسل أو ضعيف عدل إلى.
(الأصل الخامس) وهو القياس فاستعمله للضرورة، وقال الشافعي: إنما
يُصَار إليه عند الضرورة، وقال الإمام أحمد في رواية أبي الحارث: ما تصنع
بالرأي والقياس وفي الحديث ما يغنيك عنه، وقد يتوقف في الفتوى لتعارض الأدلة
عنده أو لاختلاف الصحابة فيها، وقال أبو داود: سمعت أحمد سئل عن كثير مما
فيه الاختلاف في العلم فيقول: لا أدري. انتهى كلام ابن القيم ملخصًا. فهذا ما
أشرنا من قولنا: مذهبنا مذهب الإمام أحمد.
وأما ما ذكرتم من ذم من قلَّد الإمام أحمد وغيره وأطلقتم الذم فليس الأمر على
إطلاقكم، فإن تريدوا بذم التقليد تقليد من أعرض عما أنزل الله وعن سنة نبيه
صلى الله عليه وسلم أو من قلد بعد ظهور الحجة له أو مَن قلد مَن ليس أهلاً أن يؤخذ
بقوله أو من قلد واحدًا من الناس فيما قاله دون غيره، فنعم المسلك سلكتم، وإن
تريدوا بذلك الإطلاق منع الناس لا ينقل بعضهم عن بعض ولا يفتي أحد لأحد إلا
مجتهد فقد قال تعالى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ} (النحل: ٤٣) ،
قال علي بن عقيل صاحب الفنون ورءوس المسائل: يجب سؤال أهل الفقه بهذه
الآية، وقد أمر الله بطاعته وطاعة رسوله وأولي الأمر وهم العلماء أو العلماء
والأمراء، وأرشد النبي صلى الله عليه وسلم من لا يعلم إلى سؤال من يعلم فقال في
حديث صاحب الشجة ( ... ألا سألوا إذ لم يعلموا، فإنما شفاء العي السؤال)
وأيضًا فأنَّى تُدْرَك هذه في هذه الأزمنة التى قلَّ العلم في أهلها، وقلَّ فيها
المجتهدون وقد صرَّح العلماء أن تقليد الإنسان لنفسه جائز، وربما كان واجبًا.
وكذا في أول الجزء الثاني من (إعلام الموقعين) ذكر القول في التقليد،
وانقسامه إلى ما يحرم القول فيه والإفتاء به، وإلى ما يجب المصير إليه وإلى ما
يسوغ من غير إيجاب (فأما النوع الأول) فهو ثلاثة أنواع:
(أحدها) الإعراض عما أنزل الله وعدم الالتفات إليه اكتفاء بتقليد الآباء.
(الثاني) تقليد من لا يعلم المقلد أنه أهل أن يؤخذ بقوله.
(الثالث) التقليد بعد قيام الحجة وظهور الدليل على خلاف قول المقلد، وقد ذَمَّ
الله هذه الأنواع الثلاثة من التقليد في غير موضع من كتابه - ثم ذكر آيات في ذم
التقليد - إلى أن قال: وهذا القدر من التقليد هو مما اتفق السلف والأئمة الأربعة على
ذمه وتحريمه.
وأما تقليد من بذل جهده في اتباع ما أنزل الله وخفي عليه بعضه، وقلد فيه
من هو أعلم منه، فهذا محمود غير مذموم ومأجور غير مأزور كما سيأتي بيانه عند
ذكر التقليد الواجب والسائغ إن شاء الله تعالى.
وقال أيضًا في أول الجزء الأول (من إعلام الموقعين) قلت: وهذه المسألة
فيها ثلاثة أقوال لأصحاب أحمد.
(أحدها) أنه لا يجوز الفتوى بالتقليد؛ لأنه ليس بعلم، والفتوى بغير علم حرام
هذا قول أكثر الأصحاب.
(والثاني) أن ذلك يجوز فيما يتعلق بنفسه فيجوز له أن يقلد غيره من العلماء
إذا كانت الفتوى لنفسه ولا يجوز أن يقلد العالم فيما يفتي به غيره، فهذا قول ابن بطة
وغيره من أصحابنا.
(والقول الثالث) إنه يجوز ذلك عند الحاجة وعدم المجتهد وهو أصح
الأقوال، وعليه العمل، قال القاضي: ذكر أبو حفص في تأليفه، قال سمعت أبا
علي الحسن بن عبد الله النجاد يقول: سمعت أبا الحسن بن بشار يقول: ما أعيب
على رجل يحفظ لأحمد خمس مسائل استند إلى بعض سواري المسجد يفتي الناس
بها. انتهى كلام ابن القيم ملخصًا.
وقال في الإقناع وشرحه في شروط القاضي: وأن يكون مجتهدًا إجماعًا ذكره
ابن حزم، وإنهم أجمعوا أنه لا يحل لحاكم ولا مفت تقليد رجل لا يحكم ولا يفتي إلا
بقوله لأنه فاقد للاجتهاد، ولو كان اجتهاده في مذهب إمامه إذا لم يوجد غيره
لضرورة، كما قال في الإفصاح: إن الإجماع انعقد على تقليد كل من المذاهب
الأربعة، وإن الحق لا يخرج عنهم [٤] ثم ذكر أن الصحيح في هذه المسألة أن قول
من قال: إنه لا يجوز إلا تولية مجتهد فإنه ما عنى به ما كانت الحال عليه قبل
استقرار ما أقرت عليه هذه المذاهب، وقال الإمام موفق الدين أبو محمد عبد الله بن
أحمد المقدسي في خطبة المغني: النسبة إلى إمام في الفروع كالأئمة الأربعة ليست
بمذمومة، فإن اختلافهم رحمة واتفاقهم حجة قاطعة [٥] واختار في الإفصاح
والرعاية أو مقلدًا، قال في الإنصاف: وعليه العمل من مدة طويلة، وإلا تقطعت
أحكام الناس، وكذا المفتي، قال ابن بشار: ما عيب من يحفظ لأحمد خمس مسائل
يفتي بها، ونقل عبد الله (يفتي غير مجتهد) ذكره القاضي وحمله أبو العباس ابن
تيمية على الحاجة. انتهى كلام صاحب الإقناع وشرحه.
وقال في الإنصاف: قال الشيخ تقي الدين أحمد بن تيمية في شروط القاضي:
ويجب تولية الأمثل فالأمثل، وعلى هذا يدل كلام أحمد وغيره، فيولى للعدم
أعدل المقلدين، وأعرفهما بالتقليد، قال في الفروع: وهو كما قال انتهى كلام
الإنصاف ملخصًا.
وأما ما ذكرتم: عن الأئمة وقول أبي حنيفة: إذا قلتُ قولاً وفي كتاب الله
وسنة رسول الله ما يخالف قولي فاعملوا به واتركوا قولي، وقول الشافعي: إذا
صح الحديث على خلاف قولي فاضربوا بقولي الحائط واعملوا بالحديث، وكذا ما
ذكرتم عن الأئمة رضي الله عنهم أنهم صرَّحوا بعرض أقوالهم على الكتاب والسنة
فما خالف منها رُدَّ، وقد تقدم في أصول أحمد أنه إذا صح الحديث لم يقدم عليه قول
أحد، فهذا قد تقرر عندنا ولله الحمد والمنة.
وأما قولكم: إن مرادنا بقولنا لا ننكر على أتباع الأئمة الأربعة ولو أشركوا
وابتدعوا فنعوذ بالله من ذلك، بل ننكر الباطل، ونقبل الحق ممن جاء به، فإن كل
أحد يؤخذ من قوله ويترك إلا سيد الأولين والآخرين صلى الله عليه وسلم.
(وأما قولكم) : والمختار أن العمل بالحديث بحسب ما بدا لصاحب الفهم
المستقيم فننظر في صحة الحديث، وإذا صح نظرنا في معناه ثانيًا فإذا تبين فهو
الحجة. انتهى كلامكم، فهل أنتم مجتهدون أم تأخذون من أقوال المفسرين وشُرَّاح
الحديث وأتباع الأئمة الأربعة، فإن كان الثاني فأخبرونا عن أكثر من تأخذون عنه
وترضون قوله من علماء أهل السنة وفقنا الله وإياكم إلى ما يرضيه، وجنبنا
وإياكم العمل بمعاصيه، وسامحنا وإياكم عند الوقوف بين يديه، وجعل أعمالنا
مقبولة لديه، والله أعلم، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.