للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


فتوى ابن حجر في تحريم الاجتماع للموالد
وغيرها من البدع

كتبنا غير مرة في بيان مفاسد هذه الاجتماعات التي يسمونها الموالد. وقد
سمعنا وقرأنا في الجرائد أن مولد السيد البدوي (رحمه الله تعالى) الذي احتفل به
في هذه الأيام قد حشر له من الخلائق أكثر من ألف ألف؛ أي أكثر من ضعفي
حجاج بيت الله الحرام، وأن أسواق الفحش والفجور في رواج لم يُعهد له نظير؛
لأن ثروة المصريين كل عام في مزيد، وتمسكهم بالدين كل يوم في نقص. وقد
أحببنا أن ننشر لهم فتوى في الموالد لأشهر فقهاء الشافعية في عصره - وأكثر
المصريين شافعية - وهي موافقة لسائر المذاهب؛ لأن الدليل الذي ذكره متفق عليه
ولأنه لو كانت المسألة خلافية لما أطلق القول بحكمها، ليعرف من لم يكن يعرف أن
حضور بعض العلماء العصر في هذه الموالد لا يدل على حِلِّها، وإنما يدل على
عصيانهم لله تعالى وعدم الاعتداد بعملهم ولا بعلمهم. وهي بحروفها كما في ص
١١٢ من الفتاوى الحديثية:
وسئل -نفع الله به- عن حكم الموالد والأذكار التي يفعلها كثير من الناس في
هذا الزمان، هل هي سنة أم فضيلة أم بدعة؟ فإن قلتم إنها فضيلة؛ فهل ورد في
فضلها أثر عن السلف أو شيء من الأخبار؟ ، وهل الاجتماع للبدعة المباح جائز أم
لا؟ وهل إذا كان يحصل بسببها أو بسبب صلاة التراويح اختلاط واجتماع بين
النساء والرجال، ويحصل مع ذلك مؤانسة، ومحادثة، ومعاطاة غير مرضية شرعًا
(تحل) وقاعدة الشرع: (مهما رجحت المفسدة حرمت المصلحة) وصلاة
التراويح سنة ويحصل بسببها هذه الأسباب المذكورة فهل يمنع الناس من فعلها أم لا
يضر ذلك؟
فأجاب بقوله: الموالد والأذكار التي تفعل عندنا أكثرها مشتمل على خير
كصدقة، وذكر وصلاة وسلام على رسول الله -صلى الله عليه وسلم - ومدحه،
وعلى شر، بل شرور لو لم يكن منهما إلا رؤية النساء للرجال الأجانب (لكفى)
وبعضها ليس فيها شر لكنه قليل نادر ولا شك أن القسم الأول ممنوع للقاعدة
المشهورة المقررة: (إن درء المفاسد مقدم على جلب المصالح) فمن علم وقوع
شيء من الشر فيما يفعله من ذلك فهو عاص آثم، وبفرض أنه عمل في ذلك خيرًا
فربما خيره لا يساوي شره ألا ترى أن الشارع - صلى الله عليه وسلم - اكتفى في
الخير بما تيسر وفطم عن جميع أنواع الشر حيث قال: (إذا أمرتكم بأمر
فائتوا منه ما استطعتم وإذا نهيتكم عن شئ فاجتنبوه) فتأمله تعلم ما قررته من أن الشر
وإن قل لا يرخص في شئ منه والخير يُكتفى منه بما تيسر. والقسم الثاني سنة
تشمله الأحاديث الواردة في الأذكار المخصوصة والعامة كقوله: (لا يقعد قوم يذكرون
الله تعالى إلا حفتهم الملائكة وغشيتهم الرحمة ونزلت عليهم السكينة، وذكرهم الله
تعالى فيمن عنده) رواه مسلم وروى أيضًا أنه قال لقوم يذكرون الله ويحمدونه على
أن هداهم للإسلام: (أتاني جبريل -عليه الصلاة والسلام - فأخبرني أن الله تعالى
يباهي بكم الملائكة) .
وفي الحديث أوضح دليل على فضل الاجتماع على الخير والجلوس له، وأن
الجالسين على خير كذلك يباهي الله بهم الملائكة وتنزل عليهم السكينة وتغشاهم
الرحمة ويذكرهم الله تعالى بالثناء عليهم بين الملائكة، فأي فضل أَجَلُّ من هذه. وقول
السائل - نفع الله به - وهل الاجتماع للبدع المباحة جائز؟ جوابه: نعم، هو جائز
قال العز بن عبد السلام رحمه الله تعالى: البدعة فعل ما لهم يعهد في عهد النبي
- صلى الله عليه وسلم - وتنقسم إلى خمسة أحكام: يعني الوجوب والندب ... إلخ.
وطريق معرفة ذلك أن تعرض البدعة على قواعد الشرع، فأي حكم دخلت فيه
فهي منه، فمن البدع الواجبة تعلم النحو الذي يُفهم به القرآن والسنة، ومن البدع
المحرمة مذهب نحو القدرية، ومن البدع المندوبة إحداث نحو المدارس والاجتماع
لصلاة التراويح، ومن البدع المباحة المصافحة بعد الصلاة، ومن البدع
المكروهة زخرفة المساجد والمصاحف أي بغير الذهب وإلا فهي محرمة، وفي
الحديث (كل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار) وهو محمول على
الحرمة لا غير، وحيث حصل في ذلك الاجتماع لذكر أو صلاة التراويح أو
نحوها محرم وجب على كل ذي قدرة النهي عن ذلك وعلى غيره الامتناع من حضور
ذلك وإلا صار شريكًا لهم، ومن ثم صرح الشيخان بأن من المعاصي
الجلوس مع الفساق إيناسًا لهم) اهـ.
وعبارته تشعر أنه لم يكن في هذه الموالد على عهده من المنكرات عشر
معشار ما فيها اليوم؛ إذ لم يكن الفسق مباحًا في عصر من العصور كما هو اليوم مع
عموم الجهل بالدين وكثرة الدراهم والدنانير، فكيف لو رأى زماننا هذا.
وإذا كان الاجتماع للذكر أو صلاة التراويح يحرم إذا هو اشتمل على محرم، ويجب
النهي عنه لمن قدر فيكف لا يجب على شيخ الأزهر النهي عن مثل المولد الأحمدي
الذي صار موسمًا للفحش والفجور وكبائر الذنوب، والذي يمتنع لأجله طلب العلم
في الجامع الأحمدي ليكون مأوى للنساء ينامون مع الرجال ليلاً ونهارًا وللأطفال
يبولون فيه ويغوطون وللمجانين يصيحون فيه ويصخبون. وإنما خصصنا شيخ
الأزهر بالذكر؛ لأنه أقدر رجل في مصر على إبطال هذه البدع والفواحش والله
الموفق.