كتبنا في الجزء الأول والجزء الثاني من هذه السنة نبذتين عن الثورة التي نجمت في بلاد مكدونية قلنا في الأولى: إن المسألة عشواء، والحكم فيها غامض؛ لأن أهل هذه البلاد وغيرهم من النصارى في بلاد الدولة طامعون بالاستقلال، وأوربا عون لهم، ولأن غرض روسيا غير معروف، وعليه المدار في هذه المسألة. وقلنا في الثانية: إننا اطمأننا من جهة روسيا بعض الاطمئنان، وبنينا ذلك على ما كان نقل من ترك روسيا لمنشوريا بسبب الحاجة إلى المال. وتوقعنا من تقرب إنكلترا إلى فرنسا وزيارة ملك الأولى لرئيس الثانية أن يتفقا على عدم إسعاد روسيا على حرب تركيا إذا كانت تريد ذلك وتمهد له بالثورة. وقلنا أيضًا: إنه إذا كان اتكال بغاة مكدونية على البلغار والصرب فلا خطر على الدولة العلية؛ لأنها قادرة على تدويخ هاتين بسهولة، وإن هي لم تستفد من تدويخهما شيئًا لتعصب أوربا. ثم تحولت الأحوال، وظهر لنا من الوقائع ما لم نكن نحتسب. ظهر لنا أن روسيا لا تترك منشوريا وهي أول ثمرة تذكر بتلك الملايين التي أنفقتها في مد خطوط الحديد إلى الشرق الأقصى، ووراءها من المقاصد الاستعمارية والتجارية ما وراءها. ثم علمنا أن توجيه عناية الروس الكبرى إلى تلك البلاد، ومزاحمة اليابان بالمناكب في ربوعها قد حرك في نفوس اليابانيين الإباء والحميَّة فصاروا يهجسون بمحاربتها حتى قال قائلهم: إننا قد جارينا أوربا في كل علم وكل عمل وجاريناها في القوى البرية والبحرية حتى صرنا في مقدمة دولها العظمى، وهي مع ذلك ترانا دونها ذهابًا مع التقاليد الماضية التي تفضل الجنس الأبيض على الجنس الأصفر فلا وسيلة لإقناع أوربا بمساواة الجنسين إلا بمحاربة روسيا، فإظهار شرفنا ببرهان ساطع يخطف أبصار أمم المدنية لا يكون إلا بهذه الحرب، وما أرى هذه الهواجس إلا من وسوسة الإنكليز الذين يعتمدون عليها في إغراء بعض الشعوب ببعض، وكانت أنفع لهم من أساطيلهم التي يفاخرون بها. هذا شاغل كبير لروسيا عن القصد إلى حرب الدولة العثمانية، فإن محاربة الترك تضطر روسيا إلى توجيه جميع قواها إلى الشرق الأدنى، وهي لا تأمن حينئذ من اليابان، ولكنها إذا وجهت جميع قواها إلى الشرق الأقصى لمحاربة اليابان فإنها لا تخاف من الترك اعتداءً، ولا تخشى لأنهم أمسوا كما قال الشاعر العربي: لكن قومي وإن كانوا ذوي عدد ... ليسوا من الشر في شيء وإن هانا يجزون مَن ظلم أهل الظلم مغفرة ... ومن إساءة أهل السوء إحسانًا كأن ربك لم يخلق لخشيته ... سواهم من جميع الخلق إنسانا فهذا هو السبب فيما ظهر لنا من رغبة روسيا أولاً وآخرًا في مبادرة الدولة إلى الإصلاح، وفي سكوتها عن عقاب قاتل قنصلها الأول؛ لأن قاتله من الألبانيين الذين كانوا متمردين على الدولة، وفي اكتفائها بعقاب قاتل قنصلها الثاني، ومن عاونه بأشد العقوبات، ونفي والي موناستير إلى طرابلس الغرب، وفي نصحها للبلغار بعدم مساعدة الثائرين. ولو كانت تريد سوءًا لوثبت إليه بما فتح لها من المنافذ وما أشرعت لها الفتنة من الطرق. ويقال: إن بين السلطان والقيصر اتفاقًا سريًّا نذكر موضوعه بعد. يعجب الواقفون على أخبار الثورة من سلوك البلغار مع سلوك روسيا فإنهما يسيران متدابرين فيما يتراءى للناظرين، روسيا تسعى في إطفاء النار، والبلغار تذكيها وتحضها وتمد االبغاة في غيهم حتى أن ضباط عساكرها ينسلون من معسكرهم لإدارة الثورة إدارة عسكرية منتظمة، وذلك لا يكون إلا بإيعاز من حكومتهم أليس في هذا السلوك مثار للريب؟ أيعقل أن تنحرش بلغاريا الضعيفة بالأسد التركي إلا إذا كانت واثقة بأن وراءها أسدًا أو أسودًا؟ إذا لم يكن الأسد الروسي الذي أعطى هذه البلاد استقلالها هو الذي يحميها من قرنه التركي فعلى أي الأسود تعتمد؟ الأقرب عندي أن يكون الخوف اليوم في موضع الرجاء بالأمس. فإننا لما كنا نسيء الظن بروسيا أحسنَّا الظن بالإنكليز حتى توقعنا أن يكون الغرض من زيارة ملكهم لفرنسا الاتفاق معًا على عدم الرضى من روسيا بمحاربة تركيا لكيلا تساعدها فرنسا على ذلك، ولما ترجح عندنا الآن أن روسيا لا تريد حربًا ولا تضمر غدرًا انعكس الرأي الأول، وظننا السوء بإنكلترا، وتوقعنا أنها قد اتفقت مع فرنسا على النفخ في نار الثورة، وإغراء البلغار بإمدادها، ووعدها بالمساعدة على ضم مكدونية إليها كلها أو بعضها. وهل يتيسر لهما الوفاء بالوعد إذا لم تكن روسيا والنمسا معهما؟ لا حاجة لنا بالبحث في الجواب، ولكننا في حاجة إلى التأمل في معاملة أوربا لنا، وماذا يجب علينا. إن سلوك أوربا الجديد في حل المسألة التي يسمونها الشرقية ويعنون بها الإسلامية سلوك عجيب، وأعجب صوره، وأغرب أشكاله ما كان من نتيجة محاربة الدولة العلية لليونان، فقد جعلت أوربا الدولة البادئة بالعدوان المغلوبة في ميدان الطِّعان - هي الفائزة بالنتيجة إذ جعلت ولي عهدها حاكمًا على ولاية عظيمة من بلاد الدولة المنتصرة (وهي جزيرة كريت) على أن تكون هي الحافظة والحامية لتلك الولاية. وما يدرينا لعلهم يريدون الآن سلخ ولايات مكدونية من الدولة بمثل تلك الطريقة. وهكذا يقطعون في كل مرة عضوًا من جسم الدولة يغذون به من يرونه أولى به حتى لا يبقى إلا الرأس والقلب فيسهل على الرؤوس الاتفاق على الإيقاع به. إننا نرى دول أوربا عابثة في كل حين باستقلال الدولة، ففي كل حادثة لهم أوامر تُطاع ومناهي تُجتنب، والدولة راضية، وكل ما تجنيه من الظفر في بعض الأحيان لا يخرج عن مراوغة في تنفيذ بعض الأوامر أو إرجائها، وكلما تم للدولة ضرب من ضروب هذا الظفر الوهمي هتف المغرورون مع الغارين: نحن أصحاب السياسة المثلى والكلمة العليا، فإذا انتهى أجل الإرجاء، وحل اليأس محل الرجاء، سكتوا واجمين. أو خادعوا أنفسهم معتذرين. يقول الأوربيون: إن الذي أذل تركيا وذللها لهم هو ظلمها لمَن ليس على دينها من رعيتها لا سيما النصارى: ولنا أن نقول: إن وجدنا سامعًا: إذا كانت هذه الدولة تظلم المخالفين لها في الدين فلماذا يهرب اليهود من مشرق أوربا (روسيا) ومغربها (أسبانيا) إلى بلادها؟ أمن المعقول أن يهرب الناس من ظل العدل إلى هاجرة الظلم؟ وإذا زعمتم أنها تظلم النصارى خاصة فكيف يعقل أن تظلم المخالف الذي يجد أنصارًا أقوياء ينتقمون له، وتدع من لا ولي له ونصير؟ وإذا كانت أوربا تعبث باستقلال الدولة وتقتات عليها في سياستها الداخلية حبًّا بالعدل بالمظلومين، فما بال هذه الرحمة لا تحرك لهم عاطفة على اليهود الذين يستحر القتل فيهم بأيدي النصارى لأنهم يهود؟ ليس موقفنا مع أوروبا موقف جدال وحجاج، ولكنه موقف قوة وضعف فالقوة تفعل والضعف ينفعل. لماذا كنا ضعفاء وعندنا جيش يشهد له الأعداء بأنه في مقدمة جيوش الأمم الحربية بسالة وشجاعة وتدريبًا؟ يقول قوم: إن ضعفنا محصور في قلة المال، ونقول: إن عند الدولة من الذخائر ما يساعد على كل عمل تريده، وعندها من موارد الثروة ما إن أحسنت استغلاله واستعماله كانت من أغنى الدول. ويقول آخرون: إن ضعفنا محصور في الجهل دون سواه، ونقول إن الأمة جاهلة ولكن عند الدولة من الرجال من لا ينقصهم شيء من علوم الإدارة والسياسة، والصواب أن ضعفنا كله معلول لعلة واحدة وهي السلطة المطلقة. صاحب السلطة المطلقة أقدر على الإصلاح إذا هو علم وأراد، ولكنه قلما يريد. ولم نر أمة من الأمم صلح حالها وارتفع شأنها بسرعة كالأمة اليابانية التي نهضت بهمة عاهلها (الميكادو) على أنها هي الأمة الوحيدة التي ارتقت بملكها وسائر الأمم المرتقية إنما نهضت بأنفسها، وأصلحت حال حكامها وأوقفتهم عن حدودهم. قد بينا في السنة الأولى أركان الإصلاح التي يجب على الدولة العلية إقامتها بعد بيان أسباب الضعف ومناشئ الخلل من تاريخ الدولة الرسمي (تاريخ جودت باشا) ، ويعتذر بعض الناس عن السلطان بأن مداراة دول أوربا في الخارج ومناهضة حزب الترك الأحرار في الداخل لم يدعا له وقتًا يصرفه في إصلاح المملكة. ونقول في الجواب: أما حزب الأحرار فالصادقون من أهله تؤمن غائلتهم بمجرد الشروع في الإصلاح، والمحتالون على المناصب والرواتب علاجهم الإعراض عنهم وعدم المبالاة بهم مهما قالوا وفعلوا. وأما دول أوربا فلا مفر من عدوانها وافتئاتها على الدولة وعبثها باستقلالها في بلادها إلا بالقوة. فأول عمل يجب على السلطان وجوبًا فوريًّا هو الإسراع بإصلاح القوة البحرية، وزيادة القوة البرية حتى تكون القوتان في المكانة الأولى، ولا أستحيي أن أقول: إنه يجب أن يكون قصده في عمله هذا إلى جعل قوة الدولة في البر والبحر كقوة دولة فرنسا سواء. ولا يمكن القصد إلى هذا العمل العظيم إلا بعد السماح ببيع تلك الكنوز من ذخائر الملوك الذهبية والجوهرية إلا ما كان أثرًا تاريخيًّا يفيد بقاؤه العلم. فإذا أنف السلطان من بيع تلك القناطير المقنطرة من أواني الذهب والفضة ومن الجواهر التي لا صناعة فيها يضن بها التاريخ، وكان لا يجد المال لهذا الإصلاح إلا ببيعها فإن دولته ستفقدها من يوم من الأيام، ويكون قد أبى بيعها بعز الدولة لبيعها بذُلّها وهوانها (لا قدر الله تعالى) . ومن الناس من يزعم أن دول أوربا لا تمكن السلطان والدولة من زيادة القوة وإبلاغها درجة الكمال، فإذا هي شعرت بأنه يقوي البحرية ويعمم التعليم العسكري في الولايات فإنها لا تمهله أن تقتسم بلاده وتعجله بحل عقدة المسألة الشرقية. ونحن نقول: إذا كان من الثابت عند السلطان أن أوربا لا تمكنه من الإصلاح؛ لأنها تريد أن تحتج بالخلل على تمزيق الدولة وتقطيعها قطعًا يسهل عليها ابتلاعها، وأنه إذا حاول تقوية دولته لتتمكن من الاستقلال ظاهرًا وباطنًا، فإن دولها تتفق حينئذ على الإيقاع بها مرة واحدة، فأي مرجح للرضى بالتقطيع إربًا إربًا على الاستبسال والتعرض لإحدى الحُسنيين: حفظ الاستقلال أو موتة الأبطال؟ يقال: إنه كان من رأي رجل الدولة العظيم فؤاد باشا أن تمنح الدولة العلية جميع ولاياتها النصرانية في أوربا استقلالاً إداريًّا وأنه صرح في وصيته المشهورة بأن هذه الولايات لا بد أن تفصل من جسم الدولة في المستقبل، فإذا أعطتها الاستقلال الإداري النوعي باختيارها فإنها تقبل مع الشكر والحمد كل ما تشترطه عليها الدولة، وإلا فإن كل ولاية منها لا تنفصل إلا بعد أن تسفك الدولة في سبيلها دماءً عزيزة، وتنفق أموالاً غزيرة فيكون انفصال كل منها ضعفًا على ضعف، وقد علمت الدولة صدق هذه الفراسة باليقين، وذاقت مرارتها بالفعل، فما بالها تُلدغ من الجُحر الواحد مرتين؟ ! يجب على الدولة أن تهتم بالإصلاح اهتمامًا صادقًا، وأن تنشر لواء العدل والمساواة في الحقوق على رءوس جميع رعاياها، وأن تبدأ بما قلناه من ترقية قوتيها البحرية والبرية، وتبذل في سبيل ذلك كل رخيص وغال، فإن علمت أن أوربا تحُول دون ذلك وأنها قادرة على أن تحول، وأنه لا يرضيها الآن ما كان يرضيها من قبل كالعمل بالقانون الأساسي فليس أمامها إلا سلوك إحدى طريقتين لحفظ حياتها المستقبلة: (الطريقة الأولى) : أن تجعل ولاياتها كالولايات المتحدة في أمريكا تستقل كل ولاية في إدارتها الداخلية ويكون حكامها منها، ولا مجال هنا للخوض في كيفية هذا الاستقلال وشروطه، فالدولة والسلطان أعلم منا به وبسعادة البلاد المتمتعة به. نعم إن الحكم المطلق ألذ وأشهى؛ ولذلك لم نطلب من السلطان ترك هذه اللذة والتنازل عن هذه الشهوة إلا إذا كان غير واثق بدوامهما. (الطريقة الثانية) : أن يتفق مع روسيا - إذا رضيت - على أن تعيد إليه بمساعدة فرنسا مصر والسودان، وتحالفه محالفة حربية على الاستقلال التام في الولايات التركية والعربية، وأن يعطيها في مقابلة ذلك الآستانة وما شاءت من الولايات المسيحية في أوربا، ويعدها بالمساعدة المعنوية على امتلاك الهند، ثم يجعل التخت في دمشق الشام، ويعتني بعد ذلك ويجدّ في عمران البلاد العربية التي أهملها أو خربها سلفه من السلاطين ويجعل اللغة العربية لغة الدولة الرسمية، ويجتهد في استعراب الترك أجمعين، ويؤلف منهم ومن عرب العراق ونجد والحجاز قوة عسكرية منتظمة ويقيم الشرع. فإذا هو فعل ذلك يكون له ملك عظيم وعز منيع ويأمن غائلة الخارجين بدعوى الخلافة. فإذا لم ترض فرنسا بإعادة مصر عثمانية محضة فليكتف ببلاد الأناطول والأكراد والعراق وسوريا وبلاد العرب. فإذا وفقت دولته لترك الجنسية التركية والتعصب لها وأصلحت هذه البلاد وعززتها فإن ملكها يكون بها عظيمًا، ويتيسر لها بعد ذلك القيام بعمل عظيم. وإذا بقيت الدولة على حالها فخير مستقبلها مع أوربا أن يتركوا لها بلاد الترك الخُلص المسلمين تحكمها باستقلال أو تحت حماية، وشرها (وقاها الله من شرها) أن يُمحى أثرها بالتدريج حتى لا يبقى لها عين ولا أثر.