(الحج في هذا العام) أمرت حكومة تونس وحكومة الجزائر الفرنسية بمنع الحج في هذا العام لئلا يحمل الحجاج من بلاد الحجاز جراثيم الوباء الموهوم إلى بلادهم فَتَيْبَأ بهم وأرادت حكومة مصر أن لا يحج في هذا العام إلا الأغنياء القادرون على الاحتياطات الصحية؛ إذا نزل البلاء ووقع الوباء واحتيج إلى النفقة الواسعة. فأمرت بإلزام كل مَن يريد الحج بدفع خمسين أو سبعين جنيهًا للحكومة تكون أمانة عندها تنفق عليه منها ما تنفقه بقدر الحاجة وترد إليه ما يبقى بعد عودته إذا عاد وبقي من المال بقية. ضمنت الحكومة للحجاج بإزاء ذلك القيام بجمع شؤونهم في السفر. وقد استكثر الناس هذا القدر من المال واعتقد الأكثرون أن الغرض منه التنفير من الحج والتمهيد لمنعه ولذلك طلب مجلس الشورى من الحكومة أن تنقص منه فلم تقبل، والناس في استياء عظيم من جراء ذلك، وقد كتبوا من جهات متعددة يشكون للحكومة بل لمستشاريها ومديريها من الإنكليز ثقل ذلك المال المفروض، وأكثر الشكوى كانت لمستشار نظارة الداخلية ولكنها لم تغن شيئًا. على أن الوقت لم يفت واللورد كرومر صاحب النقض والإبرام في السودان. ولقد كان في هذا العمل فرصة للإنكليز يمكنون بها ميل المصريين عامة إليهم لو اغتنموها وخففوا من المال المفروض شيئًا. ولعل الذي يمنعهم من تلبية الأهالي وسماع شكاويهم هو لغط أحداث السياسة بالمسألة، ونشر تلك الشكاوي في بعض الجرائد المتطرفة على ما فيها من الطعن بالحكومة الإسلامية التي فرضت ذلك المال بالاتفاق. فكأن مستشار الداخلية خجل من أن يطلب من هذه الحكومة الرجوع عن شيء قررته، وكان هو راضيًا به لأن الأمة التجأت إليه وحده دون الأمير ودون نظار حكومته، بل مع التعريض بذمهم والطعن بدينهم. ولو أراد المصلحة من أشرنا إليه من أحداث السياسة لما نشر في جريدته كلمة من شكاوي الأهالي الجارحة لثلاثة أمور: (أحدها) أن نشرها يثبت أن قلوب الأهالي انحرفت عن الحكومة الخديوية الإسلامية، ولم يبق لها رجاء تتيممه في مصلحة من مصالح دينها ودنياها إلا المحتلون. (ثانيها) أن نشرها يكون صادًّا للمحتلين عن إغاثة الناس؛ لعلمهم بأن ذلك يتضمن إهانة الحكومة على لسان من يفتخر دائمًا بالطعن في الحكومة وفي المحتلين بسبب وبدون سبب، ويرمي الجميع بسوء القصد. فلا يرضى المحتلون أن يغيثوا الأهالي ليفتخر ذلك الحدث الصغير بأنه كان الحامل لهم على ذلك بما لجريدته من قوة التأثير. (ثالثها) أن نشرها في الجرائد ينتهي بإقرار من نشرها وتسجيله كون المحتلين هم الغوث الوحيد للمسلمين، والقائمون بمصالحهم الدينية والدنيوية دون حكومة الأمير الإسلامية، هذا لو أَشْكَوْا الأهالي وأجابوا طلبهم، وعند ذلك لا يبقى للأحداث سبيل إلى الطعن فيهم وهو بضاعتهم التي يعيشون منها. ولذلك تعجب الناس من نشر تلك الشكاوي المفصحة عن تعلق قلوب مسلمي مصر بالإنكليز من جريدة الأحداث التي تتَّجر بذمهم. قالوا: إذا كانت الجريدة لا ترجو نفع تلك الشكاوي فهي ساعية في هدم سياستها الأولى، وهي لا يمكن أن تنجح بغيرها، وإن كانت لا ترجو نفعها، وإنما تنشر صور تلك الشكاوي لعلمها بأن نشرها يغيظ المحتلين، ويحملهم مع الحكومة على الإصرار؛ فهي لا تقصد نفع المسلمين ولا تسعى في تسهيل الحج عليهم. وأصحاب الرأي يعلمون أن تلك الجريدة لا يهمها كَثُرَ الحجاج أو قلُّوا، وإنما سبب الصياح والعويل شيء واحد وهو جذب قلوب الأهالي إلى الجريدة وإيهامهم أنها أشد غَيْرة عليهم وعلى دينهم من غيرها، وهذا مقصد يتلاشى أمامه التفكير في نتيجة النشر هل تكون تسجيل مدح الإنكليز والطعن بحكومة الأمير أو تكون الإصرار على تنفيذ ما أمرت به الحكومة. والذي لا ريب فيه أن نشر تلك الشكاوي الجارحة كلها كان ضارًّا وما كان يتصوَّر له وجه منفعة قط. أما نحن الذين لا يهمنا إلا تسهيل سبيل الحج لأنه عبادة لله تعالى - ونحن دعاة دين لا دعاة سياسة - فلم ينقطع أملنا من سمو الأمير ومن حكومته لأننا نعلم أنهم لم يأمروا بما أمروا به ليصدُّوا الناس عن سبيل الله. كيف وحكومة مصر لا تقاس بحكومة إسلامية أخرى كحكومة تونس مثلا؛ لأن أكبر شرف لها عند المسلمين أنها تسيّر ركبًا مخصوصًا للحج وتقدم كسوة الكعبة فهي مساهمة للدولة العلية في خدمة الحرمين الشريفين وهي جارة البلاد المقدسة. فحكومة عزيز مصر لا يسهل عليها أن يخدش هذا الشرف ولا أن ينتقص. ولكنها أمرت بما أمر به لتمنع الفقراء عن الحج خوفًا عليهم وعلى البلاد في هذا العام فإذا لاحظت الآن أن الأغنياء قلّما يحجون لأنهم مشتغلون بتمتعهم، وهم أحرص الناس على حياة وأن الخير في جميع الأمم إنما يكون غالبًا في الطبقة المتوسطة، وأن أهل هذه الطبقة هم أقرب إلى الصحة من الأغنياء لقلة الإسراف وقلة الوهم والوساوس، ولكن يثقل على الأكثرين منهم أن يعطي أحدهم الحكومة خمسين جنيهًا أو سبعين غير ما يأخذه معه وما يتركه لأهله وعياله من النفقة - وإذا لاحظت مع هذا أيضًا أن الأمة كلها مستاءة من ثقل هذه الفريضة، وتشكو منها وتطلب تخفيفها وكل الحكومات العادلة والدستورية تحترم الرأي العام - فلا غرو أن يأمر مولانا الأمير - أعزه الله - باجتماع مجلس النظار ثم يصدرون أمرًا آخر بتخفيف ما فرض أوّلاً إلى نصفه مثلا، والنسخ معهود في الشرائع السماوية وفي القوانين الوضعية بالأولى. يجب أن يكون الأمير وحكومته محل الرجاء وغاية ما نرجو من حرية المحتلين أن لا يعارضوا في مثل هذا الأمر الديني وما كانوا معارضين. إذا كان غرض الحكومة أن يكون ركب الحج في هذا العام مؤلفًا من أهل اليسار فما كان أجدر الموسرين بالانتظام في هذا السلك الدريّ الذي لا خرز بين درره ولآلئه، ونخص بالذكر المترفين الذين يؤخرون الحج لما يكون فيه من الزحام وقلة العناية بالنظافة لصعوبتها مع كثرة السواد من الفقراء. ولو هزّت الأريحيّة الإسلامية بعض النظّار إلى الحج لكان فيمن يحج منهم هذا العام أسوة حسنة لكثير من الأغنياء ولكان أجره بذلك عند الله مضاعفًا ومقامه في نفوس المصريين رفيعًا مشرفًا، وإذا لم يبادر عدد كبير من الأغنياء إلى الحج لإحياء شعائره وحفظ شرف مصر الديني فلا سلام على الأغنياء. ولا زادهم الغنى إلا تعاسة وشقاء. *** (الجامعة الدينية والجامعة الوطنية) بينا رأينا في الجامعتين مرات كثيرة وأحسن ما كتبناه في ذلك وأوضحه مقالة مسهبة في المجلد الثاني من المنار عنوانها (الجنسية والدين الإسلامي) أثبتنا فيها بالبرهان المعقول أن تمسك المسلمين بدينهم واعتصامهم بعروة جامعته هو المؤلف الوحيد بين مصالحهم ومصالح من يساكنهم في بلادهم، والحامل لهم على موادّة من ليس على دينهم ففيه معنى الوطنية التي يطلبها بعض عقلاء المسيحيين في الشرق لعلمهم بأن سعادته في تأليف بين شعوبه المتفرقين في الدين تفرقًا كثيرًا. ومن هؤلاء العقلاء بعض أصحاب الجرائد السوريّة المسيحية في سوريا ومصر وأمريكا ومما نعتقد فيه الإخلاص من هذه الجرائد (المناظر) ، ويعرف أصدقاؤنا في مصر أننا كثيرًا ما فضلناها على غيرها من الجرائد العربية، ونوّهنا بموضوعاتها النافعة. ومن الناس المشتغلين بالصحافة من يلغط بالوطن والوطنية بغير علم ولا هدى منهم الذي يلقب في المنار بحدث السياسة؛ فإنه خلق وطنية لا يعرفها أحد سماها (الوطنية الحقة) ومعناها أن يبغض المصريُّ المسلم كل من ليس مصريًّا؛ لأنه ليس وطنيًّا وإن كان كالمصري في لغته ودينه وجنسيته السياسية، وهي (العثمانية) وأن لا يحبَّ القبطيَّ المصري لأنه مسلمًا. فهذه الوطنية الباطلة التي لا يتصور فيها العاقل إلا المَضَرَّة هي التي تحمل عليها في المنار حملاتنا المعروفة، وإننا نرى جميع الكتاب من المسلمين والمسيحيين يوافقوننا على محاربة هذا الهذيان الضار. وقد اتفق لبعض الكاتبين السوريين في البرازيل أنْ كتب في (المناظر) كتابة في الدعوة إلى الوطنية، ونبذ التعصبات الدينية، ثم اتفق له أن رأى في المنار كلمة في (حدث السياسة) ووطنيَّته فظن أنه المَعْنيُّ وطفق يرد علينا ملقبًا إيانا (بكهل السياسة) وعساه يطلع على هذه النبذة فعلم أنه ليس المَعْنيّ بالحدث وإننا لسنا من السياسة في شيء، وإننا إن كنا ندعو المسلمين إلى النهوض باسم الإسلام، فإنما ندعوهم إلى العلم والتعليم والتربية التي تقضي بها حالة العصر لا على السياسة وأحزابها وعصبياتها وملوكها وأمرائها، نرى المسلم في تركيا وروسيا والهند والجلوه ومصر وتونس والجزائر وفي سائر الأقطار متأخرًا في العلم والتهذيب والعمل النافع. ونرى أن للتقاليد تأثيرًا في هذا التأخير فهو يتوهم أن ذلك من الدين ونحن نعلم أن الدين ضده فنحن ندعوه باسم الإسلام الحقيقي إلى نبذ الوهم أو تحصيل العلم ليجاري مجاوريه في سبيل الحياة، ولا يمكن أن ندعوه هذه الدعوة باسم الوطنية بأن مجلتنا ليست سياسية ولا تجارية ولا زراعية لتحث أهل الوطن الواحد على الاتفاق في ترقية هذه الأمور باسم الوطن، على أننا لا نقصر في الدعوة إلى التأليف، بل هو أمر عرفنا به ولا نعرف كاتبًا عربيًّا كتب فيه ما كتبنا. *** (التعصب الديني والجرائد والمجلات) التعصب الديني بمعنى الاعتصام به، والاستمساك بعروته فضيلة هي أُم الفضائل، والتعصب بمعنى إيذاء المتدين لمن يخالفه في دينه رذيلة تتولد منها مصائب كثيرة لا سيما إذا أنشئت لهذا التعصب جرائد ومجلات تدعو إليه وتحركه، والتعصب بالمعنى الأولى قوي عند المسلمين لا يساويهم فيه أحد حتى في هذا الطور الذي هم فيه الآن طور الضعف والتأخر، والتعصب بالمعنى الثاني لا يسلم منه أهل مِلَّة ولكنه عند المسلمين أضعف منه عند غيرهم ولا سيما النصارى. انظر ترى المسلمين أكثر من تسعة أعشار أهل القطر المصري، ولكنه ليس لهم جريدة دينية ولا مجلة مِلِّية إلا المنار وهو حديث العهد فيهم. والنصارى لهم فيه عدة جرائد ومجلات دينية على قلة عددهم. واقرأ هذه الجرائد والمجلات تجدها ملأى بدعوة المسلمين إلى النصرانية والطعن بالإسلام ولا ترى في (المنار الإسلامي) دعوة للنصارى إلى ترك دينهم والدخول في الإسلام، وقد مرّت عليه ثلاث سنوات من أول نشأته وهو مُعْرِض عن الرد على المعترضين والقادحين في الإسلام، على كونهم يرسلون إليه كتبهم وجرائدهم؛ لأننا لم نكن نرى المسلمين مبالين بها فأحببنا بقاء ذلك السكون بالسكوت عنهم. ولكننا لما رأينا سوء تأثير بعض الكتب والمجلات فتحنا في المنار بابًا لرد شبهات المسيحيين، التزمنا فيه الأدب والحجة وما كنا معتدين. أليس عجيبًا أن تسعة ملايين من المسلمين في مصر ومئات من الملايين في غيرها لا تعرف لهم إلا مجلة دينية واحدة، ويوجد في كل قطر من أقطارهم جرائد ومجلات كثيرة لأولئك الشراذم الذين يساكنونهم وهم أقل منهم عددًا ومالاً وتمسكًا بالدين؟ نعم، إن هذا عجيب وأعجب منه أن جرائد الشراذم الصغيرة تعتدي على تلك الملايين الكثرة، وتطعن بدينهم وتدعوهم إلى تركه واتِّبَاع دينها. وإن تعجب فهناك ما هو أعجب من الأمرين، وهو أن المسلمين يشتركون بتلك الجرائد ويعضدونها بإقبالهم عليها! ! وهم يعلمون أن النصارى لا يكادون يشتركون بجريدة صاحبها مسلم إن لم تكن دينية إلا لغرض شخصي ونحوه! ! وأما المجلة الدينية الإسلامية الوحيدة وهي (المنار) فليس لها من المشتركين المسيحيين إلا اثنان من القبط (وكان لهم ثالث اشترك ثلاث سنين ولم يدفع شيئًا من قيمة الاشتراك فرمج اسمه) وخمسة من السوريين، وفي ذلك عبرة للمعتبرين. ومن العبر التي هي إحدى الكُبَر، ما جاءت به (الجامعة) في الأيام الأُخر، وهو أنها تصدت للطعن في الإسلام، وفي أئمته الأعلام، من طريقة خدمة العلم دون الدين، ودعوى إرادة النصيحة للمسلمين، وهي تجد مع هذا من يشترك فيها منهم بل يزعم صاحبها أنه كان بين أنياب الفقر، ومخالب الضنك والعسر، إلى أن تحرش بالمسائل الإسلامية، وناطح بقرنه أعلام المِلَّة الحنيفية، فأقبل عليه المسلمون، وهم من كل حَدَب ينسلون، ومازالت تتوالى عليه منهم (الاشتراكات) ، حتى زال عَنْهُ بمالِهم (الضنك والعسرات) ، والعبرة في هذا على تقدير صدقه ظاهرة، وأما العبرة على تقدير تمويهه وتعظيمه لشأن نفسه وبراعته في الإعلان عن جامعته فهي أن المسلمين في اعتقاد هذا الرجل قد بلغوا من الجهل والحماقة مبلغًا يستزلهم فيه بمثل هذا الكلام إلى مكافئته على الطعن بدين الإسلام. وأكبر من هذا وأعجب مما سبقه كُله أن من جرائد المسلمين في مصر وسوريا من قرّظ كتابه الذي لَفَقَهُ في الطعن بالإسلام وأئمته، ووجه أنظار المسلمين إليه، وحثهم عليه، أليس من الألغاز والمعمَّيات التي يصعب حلّها على الأكثرين أن جريدة بيروتية إسلامية تقرظ كتابًا يطعن في الإسلام ويحرف كلام أئمته ليقنع المسلمين بما يقول ويزعم أن الجمع بين الرياسة الدينية والمدنية في خليفة المسلمين قاض بهدم الإسلام وتأخر أهله عن جميع الأمم ويُصرّح بأنه يجب على المسلمين إزالة هذا المعنى في الخلافة وجعل السلطان رئيسًا مدنيًا كملوك أوربا، إلى آخر ما أشرنا إليه في باب الشبهات وسنوضحه بمقالة مخصوصة؟ بلى إن هذا من عجيب (غرارة) المسلمين المشروحة في الاجتماع الثامن لجمعية أم القرى المنشور في هذا الجزء أو من عجائب تساهلهم. مع هذا كله يقولون إننا متعصبون وإنهم متساهلون، كأنه يتعذر علينا أن نرضيهم ونحن مسلمون، {وَلَن تَرْضَى عَنكَ ... } (البقرة: ١٢٠) ولا ننكر أن أصحاب الصحف المعتبرة كالهلال والمقتطف والمقطم والأهرام غير راضين عن خطأ الجامعة وفتحها أبواب التعصب على المسلمين وهم يبعدون عن جعل صحفهم دينية. *** (الفلسفة القديمة وابن رشد) فلسفة المتقدمين من اليونان والعرب الذين جروا على آثارهم قد نسخت بالفلسفة الحديثة، ولم يبق للبشر حاجة فيها إلا من الجهة التاريخية فلا ينبغي تضييع الوقت بالاشتغال بنظرياتها العقيمة إلا لأفراد يتفرغون لحفظ تاريخ العلوم ليعرفوا نسبة الماضي إلى الحاضر وهؤلاء الأمراء لا يوجدون إلا في الأمم الراقية التي أحاطت بالعلوم والفنون العصرية التي عليها مدار العمران لأن حفظ سلسلة الفلسفة والعلم من الأمور التي يسمونها كمالية وأمامها مرتبتا الأمور الضرورية والأمور الحاجيّة. ولا يخفى أن أهل هذه البلاد لا يزالون في المرتبة الأولى فلا يجوز أن تشتغل أفكارهم بالمرتبة الكمالية لأن ذلك تضييع للوقت وإفساد للفكر، فالاشتغال بنشر فلسفة ابن رشد وأمثاله بين القارئين وترغيبهم فيها ضارٌّ بهم ولو كان ضروريًا أو حاجيًّا لطلبوه بسائق المنفعة وقرروه في مدارسهم. نعم إن ابن رشد عالم متكلم إسلامي كما هو فيلسوف، فما كتبه في نسبة الفلسفة إلى الدين ينبغي أن يطلع عليه المشتغلون بعلم الكلام في الأزهر وغيره من المدارس الدينية وذلك هو كتابه (فصل المقال) المطبوع بمطبعة المؤيد، ولا بأس للمتوغل في علم الكلام من النظر في كتابه تهافت التهافت بعد النظر في كتاب تهافت الفلاسفة للإمام الغزالي وكلاهما مطبوع بمصر في كتاب واحد وثمنه بخس. ولا يصح لعاقل أن يعتمد في فلسفة ابن رشد - إذا هو أرادها - على تلخيص مثل صاحب الجامعة من كلام رنان أو من الكتب العربية فإن صاحب الجامعة شاب لم يتعلم إلا مبادئ علوم المدارس في مدرسة كفتين فهو لا يفهم هذه الفلسفة ولا هو حسن القصد في بيان ما يفهمه كما علم من مقالة (الأسباب والسنن) المنشورة في هذا المنار، ويعلم مما سننشره في إثبات أن دين الإسلام مبني على العقل كما صرح القرآن الكريم وقد زعم صاحب الجامعة أن الإمام الغزالي وابن رشد يقولان بخلاف ذلك أي بخلاف ما ينطق به كتاب الله تعالى (حاش لله) . *** (القوى الأدبية في الشرق) يقول من يدعي القيام بإحياء الآداب في الشرق بلسان صديق له مجهول: إن الشرق في حاجة إلى القوى الأدبية، ولم يبين ما هي تلك القوى بالنص ولكنه بينها بالفحوى، وهي الكذب وسوء الظن والخوض بالأعراض ومكافأة المحسن بالإساءة والنميمة والبهتان للتفريق بين الصديق وصديقه، والرصيف ورصيفه، والأستاذ وتلميذه. أما الكذب فمنه نسبته ما كتبه في هذا الموضوع لغيره من أن العبارة والأسلوب والفحوى تشهد كلها بأن ذلك له، وإلا فمن هو ذلك الكاتب الذي يسمع عندنا القول من فلان، ويسمع نقيضه منه عند ذلك المدعي؟ ومنه أنه حكى عنا من الطعن في بعض الأصحاب والرصفاء ما نعلم أنه لم يقع، ونقيس عليه ما حكاه عنهم فنعلم أن كل ما قاله كذب.. إلخ. وأما سوء الظن فمنه أنه جزم بأن الذي أفشى سره المنبئ بسوء قصده وبعزمه على الاستمرار في عمله السيئ هو ذلك الأديب الذي ينوّه به ويمدحه ويدافع عنه والحقيقة أن السر إنما ظهر من قطر غير القطر المصري فكان على محبي الآداب في الشرق أن لا يجاري ظنه السيئ في صديق له، ويحمل عليه تلك الحملة المنكرة. وأما الخوض في الأعراض؛ فمنه أنه أوهم أن صديقه الذي أساء الظن به كان مستخدمًا قبل ما هو فيه الآن من العمل التجاري في موضع لا ينبغي التصريح به وإنما يشار إليه بالنقط...... مع أن الرجل لم يكن مستخدمًا إلا في شركة الأسواق. وأما مكافأة المحسن بالإساءة فمنها - وهو أظهرها - معاملته المشار إليها آنفًا مع صديقه الذي كان متفانيًا في مساعدته، ومنها معاملة غيره من المحسنين بما لا حاجة إلى التصريح به ويعرفه من يعرف الرجل وسيرته. وأما النميمة والبهتان فمنها زعمه أن فلانا كان يقول في فلان كذا ويذم عمله وكذلك الآخر ولو كان كل ذلك صحيحًا لوجب كتمانه، فكيف يصرح به محبي آداب الشرق وهو إفك صريح وبهتان عظيم، وهذه النميمة والبهتان قد عزيت إلى أسماء صريحة. *** (أحوال العالم الإسلامي) الدولة العلية في اضطراب من زلازل الفتن في مكدونية، وإلحاح الدول عليها بوجوب الإصلاح، ومن مطالبة إنكلترا لها بالإذن لسفنها الحربية أن تمر في الدردنيل والبوسفور عند الحاجة كما أذنت لبعض السفن الروسية. والدولة المراكشية في خطر عظيم من خارج يُدعى (أبا حمارة) خرج على السلطان يحاول نزع الملك منه. وقد كَبُرَتْ فتنةُ هذا الخارج وقويت عصبيته لأن الأهلين نفروا من السلطان عبد العزيز لما يرون من ميله إلى الأجانب وتنافسه في زخرف مدنيتهم. ولا شك أن السلطان عبد العزيز لم يسلك طريق الحكمة فيما وجه إليه وجهه من تغيير حال بلاده أو صلاحها كما يقولون، وقد كنا نصحنا له ولحكومته بالاستعانة بالدولة العلية على الإصلاح العسكري والعلمي بطلب رجال من العثمانيين المسلمين يقومون بالإصلاح - والمنار يرسل دائمًا إلى ناظر خارجيته ولكن هذا التقاطع بين ملوك المسلمين وأمرائهم هو أصل كل بلاء ابتلوا به. هاتان الدولتان الإسلاميتان مضطربتان وبقية البلاد الإسلامية وَادِعَةٌ ساكنة ليس فيها شيء يؤثر، ولا حادث يذكر، اللهم إلا الهند ومصر، فأما الهند فقد احْتُفِلَ فيها من عهد قريب بتتويج ملك الإنكليز وتسميته إمبراطور الهند وهذا الاحتفال يسمونه (الدربار) ويكون في مدينة (دلهي) عاصمة الهند الأولى، وتلا هذا الاحتفال احتفال آخر بمؤتمر التربية الإسلامية وهو خير ما يعمله المسلمون في هذا العصر لأنه أنفع الأشياء لهم، وأما مصر فقد احتفل فيها ثلاثة احتفالات عظيمة في مدة قريبة أحدها الاحتفال بدار الآثار والعاديات المصرية، وثانيها الاحتفال بالخزان الذي بني في أسوان وثالثها احتفال المؤتمر الطبي الدولي المصري وإننا نتكلم عن الأخيرين بموجز من القول. *** (المؤتمر الطبي الأول بمصر) الغرض من هذا المؤتمر دراسة أمراض البلهاريسيا ولا شك أن مصر خير مكان يصلح أن يؤمه أطباء أوربا لهذا البحث، وقد اشتركت فيه الدول العظيمة رسميًّا، وأرسلت مندوبين عنها يحضرونه، وقد افتتح المؤتمر عزيز مصر العباس في الملهى الخديوي (الأوبرا) في ١٩ رمضان (١٩ديسمبر) الماضي فخطب خطبة فرنسية رحب فيها بأعضاء المؤتمر وشكر الحكومات والمجامع العلمية التي لبّت دعوة حكومته وأرسلت مندوبيها إلى المؤتمر ومما قاله: (يجدر بي أن أفتخر بأن بلادي قد اهتمّت اهتمامًا حقيقيًّا بالسير في سبيل التقدم وفيما هو صالح ونافع لنوع الإنسان ولذلك جعلت مساعيَّ مواجهة دائمًا إلى المحافظة على سيرها في هذا السبيل) . وقد تكلم الناس في أمرين: أحدهما كون خطبة الأمير بالفرنسية دون لغة حكومته الرسمية (العربية) ، وجهل هؤلاء أن هذا الاحتفال لو كان في روسيا لما خطب القيصر فيه إلا بالفرنسية التي يفهمها كل الذين يخاطبهم، وثاني الأمرين أن مختار باشا الغازي لم يحضر المؤتمر ولم ترسل الدولة العلية مندوبًا آخر من الأطباء، ويقال إن هذا المؤتمر لا يرضي الدولة العلية لأن من شأن مثله أن يكون في البلاد المستقلة وكأنها ترى أو الواجب أن يكون المؤتمر ** إلا بدعوة الحكومة المصرية بنفسها. *** (الخزان - أو - سدّ أسوان) إقامة السدود على الأنهار لحفظ الماء الذي يحتاج إليه في ريّ الأرض قديم في البشر، وكان العرب من السابقين إليه تصوّرًا وعملاً فسد مأرب في بلاد سبأ مشهور أمره، وكان في دولة العبيديين في مصر من تصوّر بناء سدٍّ للنيل، ولم يبرز ذلك للفعل، ثم إن نابليون الأول تصور هذا العمل وأراده وتكلم فيه من بعده كثير من المهندسين، ولم يتم إلا في زمن هذا الأمير (العباس) وبأيدي الموظفين في حكومته والمقاولين في بنائه من الإنكليز، وقد وضع الحجر الأول من سد أسوان في ١٢ فبراير (شباط) سنة ١٨٩٩ وضعه دوق كنوت أخ ملك الإنكليز ووضعت زوجته الحجر الأخير منه في ١٠ديسمبر (ك١) سنة ١٩٠٢ وقد كتب على كل من الحجرين بالإنكليزية اسم واضعه والتاريخ وكون السنة سنة كذا من حكم سموّ (الخديوي عباس حلمي) . طول السد من الشرق إلى الغرب ألفا متر، وسمكه من أسفله نحو ثلاثين مترًا ومن أعلاه ٧ أمتار، ويزيد ارتفاعه عن سطح الماء عند انخفاضه على ٢٠مترًا، وفيه ١٨٠مصبًّا للماء سعة المصب نحو ٣ أمتار من الأمام ومتران من الوراء في الغالب ولها أبواب تفتح وتغلق بحسب الحاجة لحبس الماء وإطلاقه، ويبلغ ما يمسكه السد من الماء مليارًا و ٦٥ مليون متر مكعب أو مليار أو ١٤٠ مليون طن، وهي تفتح وتغلق بالآلات الكهربائية، وأما منافع السد المقدرة فهي عظيمة جدًّا منها إحياء أرض واسعة تقدر بمئات الألوف من الفدادين، ومنها التمكن من زرع نحو نصف مليون فدان مرتين في العام، وذلك مما لا يزرع الآن إلا مرة واحدة ومنها سد العجز الذي يكون من انخفاض النيل في بعض السنين. ومن تتمة منفعة هذا السد أنه بني في أسيوط قناطر كالقناطر الخيرية عددها ١١١ قنطرة عرض كل قنطرة خمسة أمتار وارتفاعها من قاع النهر إلى السطح ١٢ متر ونصف، وسمكها عند القاعدة ٢٦ مترًا وفائدتها إصلاح الري فيما تحت أسيوط من الوجه القبلي. أما الاحتفال بفتح الخزان فقد كان في رمضان الماضي، ودعت الحكومة إليه وكلاء الدول وكبار الموظفين والوجهاء وكثيرًا من الإفرنج، وكان الأمير دعا دوق كنوت وزوجه، وابتدأ الاحتفال ناظر الأشغال العمومية حسين فخري باشا بخطبة فرنسية ذكر فيها وجه الحاجة إلى السد بالإجمال والعناية في بنائه فأجابه الأمير بخطبة فرنسية وجيزة اعترف فيها بعظمة العمل وأثنى على الناظر وأعوانه الموظفين الذين شكر لهم همتهم في مساعدته وقال (وإنه ليسرني كثيرًا أن أرى حكومتي تتبع أعز رغائبي وأخص أملي فتبذل كل الجهد في جلب الخير والسعادة للبلاد) .