للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: عبد العزيز محمد


أميل القرن التاسع عشر

(٢٢) من هيلانة إلى أراسم في ٦ يوليه سنة - ١٨٥
كأني أيها الحبيب بساعة الوضع قد اقتربت , وإني وإن كنت لا أزال في
كفاية من جودة الصحة لكن ما أشد خوفي من هول تلك الساعة وما تأتي به
من الشدائد والمحن التي كان شهودك فيها وحده كافلاً بتخفيف آلامها عني.
رباه كيف لا تكون بقربي أيها العزيز أراسم؟ وأخص وقت تكون فيه المرأة
كالعشقة (شجرة اللبلاب) لزامًا لمن تحبه وتعلقًا به إنما هو أمس، ذلك اليوم
المعروف بالعناء والخطر.
في الليلة الماضية رأيت رؤيا تحيرت في تأويلها , رأيتني أزور قبر
والدتي لابسة الحداد! فعظمت دهشتي لما رأيته هناك من شجر الورد والآس
وغيرهما من الأزهار لأني لم أكن أوصيت بغرسها , ولما رأيت أن يدًا
مجهولة قد عنيت بآخر منزل لمن كنت أحبها فزينتْه بهذه الأزهار هاجت
أشجاني وانهطلت عَبراتي وأحسست بالبكاء في نومي وقلت في نفسي: ليت
شعري مَن هذا الذي عرف كيف يتحبب إليَّ ويسترضيني عنه , ثم تبينت من
جملة وقائع متتابعة مبهمة أنك أنت الذي غرستها فغرقت في شبه لُجة من
الفناء في حبك , وما عسى أن أصف لك مما خطر في ذهني إذ ذاك؟ فقد تمثلت
لي جميع الأحوال التي تلاقينا فيها لأول مرة , وما انعقد بيننا من روابط الحب
الأولي تمثلاً ليس كالذي يحصل عند ذكر المرء حوادث ماضية، بل كما
يحصل في الحلم، حيث تتشكل فيه الأشياء الحية وغير الحية بأشكالها الحقيقية،
فما قولك في هذه الرؤيا؟ ! أما أنا فلو كنت من الموسوِسات لاعتقدت
أن فيها إنذارًا ببعض المصائب.
أبشرك أيها الحبيب بأن أول مكتوب يأتيك مني بعد هذا سأكتبه إليك
وأنا أم , وإني كلما افتكرت في ذلك تعروني هزة الفرح ونشوة الطرب ,
فالآن أودعك وأقبلك بكل ما في نفسي من قوى الحب والشوق اهـ.
شذرات مقتطفة من جريدة أراسم
(٢٣) تحرر في ٦ يوليه سنة - ١٨٥
دخلت فراشة في مخدعي من السجن من حيث لا أعلم , ومكثت ربع
ساعة تحاول الخروج من الشباك يدعوها إلي ذلك ما وراءه من الضياء
والفضاء والحياة بما تسمعه من الأصوات في جو السماء , ولكنه على ضيقه
كان محكم الإقفال فانقضت عليه بنت الهواء أولاً على جهل منها بحقيقة
زجاجه اللطيف حاسبة أنه لا وجود أمامها , ثم أخذت تصادمه وتلتصق به
وتقاومه , وكلما ردتها صلابته خائبة أعادت عليه الكرة.
هكذا يكون شأن الإنسان مع العقبات المعنوية التي تعترضه في طريق
حياته لا يحسب لها حسابًا لأنها لا تكاد تكون شيئًا يذكر، فهي كسُمك لوح من
الزجاج مثلاً، لكن هذا الشيء الذي لا يذكر كوهم أو عقيدة أو معنى غير
صحيح أو مغالطة؛ كافٍ في إعاقة عقله عن التحليق بجناحيه في سماء
الحرية فلا يجدي معه اشتداد العقل في اقتحام عقبة , كما لم يُجدِ تلك
الحشرة اصطدامها بالزجاج وإيهاء جناحيها.
فلما رأيتها قد عجزت عن الخروج فتحت لها الشباك , وقلت لها: امضي
أيتها المسكينة في سبيلك , وطيري بجناحيك كما كنت في خالص الهواء
وحرارة الشمس فهذا يكفيك من مسجون في حجرته اهـ.
(٢٤) تحرر في ٨ يوليه سنة - ١٨٥
كثيرًا ما شاهدت ساحل البحر بين حركتي المد والجزر , وأبصرت على
سطح رماله المبللة الرطبة آثار كثير من الأقدام ومن العجلات ونعال الخيل
ورسومًا غريبة في بابها نقشتها على صفحاتها أيدي الأطفال , وأسماء كتبت
بأطراف العصي وغير ذلك من الآثار الكثيرة المتنوعة , فلما مدَّ البحر محاها
جميعًا فلم يبق منها شيء يدل على سبق وجودها , كذلك شأن العدل والزمن
فإن لهما كالبحر مدًّا وجزرًا , فاعملوا ما شئتم من تأليف الكتب وتحرير
الصحف وإقامة الأبنية ووضع القوانين , وارسموا مقاصدكم على الرمال، كل
ذلك يغمره مد العدل في يوم , بل في ساعة واحدة، فالبحر يقول في مده: إني
أعود إلي ما تركت من مكاني , والشعب يقول في مده: إني أسترد ما اغتصب
من حقوقي اهـ.
(٢٥) تحرر في ٩ يوليه سنة - ١٨٥
كان فيما سلف من القرون رجل من الفاتحين دمر الممالك ودوخ الأقيال,
ثم مات بعد أن تم له النصر في كثير من وقائعه وغزواته فوضعه رجال دولته
على سرير فخيم محفوف بأكمل مظاهر الأبهة والجلال مع أنه بالموت قد خلع
من ملكه , وأنزل من عرش سلطانه , فاتفق أن تهافتت على أنفه ذبابة فلم
تستطع يداه ذودها عنه على ما كان منهما من إدارة شئون الممالك وقمع
نخوة الجبابرة , يا عجبًا للوصول إلي الغاية التي وصل إليها ذلك الرجل يوطأ
العدل والحرية بالمناسم وتهضم حقوق الأمم! اهـ.
(٢٦) تحرر في ١٠ يوليه سنة - ١٨٥
أرادت دجاجة أن تغطي بجناحيها أفراخًا تفقص عنها البيض وكبرت
فقلن لها: لسنا في حاجة إلي عنايتك فإنك تزهقين أنفسنا بثقلك , فكان جوابها
على ذلك أن قالت لهن: مه فإنكن لا تدرين في ذلك شيئًا , أما عدم احتياجكن
إلي فهذا ممكن , وأما أنا فلا أستغني عنكن: أولاً لأنه يلذ لي أن ألقي ثقلي
على شيء فإن هذا يكثر من أهميتي , وثانيًا لأني آكل ما أعد لكُنَّ من الحب.
أليست هذه الحكاية تمثل الحكومة مع الشعوب التي بلغت من درجات
التقدم ما يكفيها في الاستقلال بحكم نفسها اهـ.
(٢٧) تحرر في ١٢ يوليه سنة -١٨٥
كانت ليلتي هذه هائلة فظيعة , فإني كنت في بعض ساعاتها أرى من
خواطري ما كان يمثل أمامي كما تمثل الأشباح فهل أنا صائر إلي الجنون؟
لقد رأيتها.. هي بنفسها لا في حلم , بل في يقظة لكنها أخفى من النوم
بألف مرة.
رأيت هيلانة نائمة على سريرها , وكنت ألاحظ نَفسَها المختنق , وأجس
نبضها الذي دلني على أنها محمومة. واعجبًا أخالني سمعت صوتًا.
ويلاه إنها تئن وتتألم وأنا بعيد عنها.
إنما يدرك ثقل وطأة السجن ويحس بضيقه في مثل هذه الساعات التي
تغلب على الإنسان فيها حيرته وتزهق نفسه , ولقد كنت أريد أن أكون قدوة
لزوجتي في الثبات والصبر فهذه أول مرة غلبني فيها السجن على عزمي فانثنى
رأسي , وانجرح فؤادي مما ألاقيه من نقم القانون البشري.
لو كان حقًّا ما يقال من أن في قدرة الأموات أن يزوروا من كانوا
يحبونهم في هذه الحياة الدنيا , لوددت أن أموت في هذه الساعة حتى أراها
اهـ.
((يتبع بمقال تالٍ))