لقد اطّلعنا على المجلة المدعوة (الشرق والغرب) التي يطبعها المبشرون بمصر وقرأنا العدد الأول الذي صدر في ١ كانون الثاني سنة ١٩١٤ والعدد الثاني الذي صدر في ١٥ من الشهر المذكور، وإذا فيهما - على زعم أولئك المبشرين - تفنيد لما كتبناه في كتابنا الذي سميناه: (العقائد الوثنية في الديانة النصرانية) ، وجميع ما قالوه ينحصر في خمسة أمور: (الأول منها) : تطاولهم واستبحاتهم لكلام البذاء والتطاول. وهذا ليس له عندنا جواب فليفرحوا وليتنعموا به. (الأمر الثاني) : ادّعاؤهم أننا اعتمدنا في كتابنا على أقوال علماء نصارى أوروبيين ملحدين. وهذا نجاوبهم عليه بأن لهم الخيار بما يصفونهم به. أما نحن فنقول بحقهم أنهم علماء مستقلون قالوا الحق الذي وصل إليه علمهم بشأن ديانة المبشرين غير مبالين بمن لا يرضاه منهم. (الأمر الثالث) : عدم تصديقهم باطّلاعنا على الكتب التي ذكرناها في أول الكتاب. وهذا أيضًا لهم الخيار فيه صدقوا أم لم يصدّقوا. ونقول لهم ولمن هم على شاكلتهم: ها هي ذي مكتبتنا حاضرة لكل من يروم الاطلاع عليها، ونزيدهم - وربنا شهيد - إنه عندنا عدة كتب غير التي ذكرناها لم ننقل منها كلمة واحدة؛ لشدة اعتراضاتها على الديانة النصرانية. وجميعها تأليف علماء مسيحيين أوربيين. وإن أحبوا فإننا مستعدون لذكر أسمائها، وأسماء المدن التي طبعت فيها مع أسماء الطابعين. (الأمر الرابع) : قولهم ما نصه بالحرف (فإذا استزادنا حضرته من نقد بقية ما في كتابه فربما عدنا إليه في فرصة أخرى. ولكن ليسمح لنا الآن بهذه النصيحة وهي أن لا يحشر نفسه بين العلماء الباحثين، بل ليدع ذلك لرجال العلم وليبحث له عن شغل يرتزق منه والله يهدي سواء السبيل) . أما من جهة نقدهم لبقية ما في كتابنا فإننا نشكره لهم سلفًا، فإننا لم نأت بكلمة واحدة من عندنا، ولا بكلمة واحدة من كلام علماء المسلمين رضي الله عنهم، بل جميع ما ذكرناه مأخوذ من كتب علماء الغرب المسيحيين خاصة، وأما أمرهم إيانا بأن لا نحشر نفسنا بين العلماء الباحثين بل لندع ذلك لرجال العلم، وأن نبحث عن شغل نرتزق منه! فأجيبهم عنه بأسف عظيم: أن والدي منذ نعومة أظفاري وضعني بمدارس المبشرين، ولم يعلم أن الدارس فيها يخرج محبًّا للكسل والبطالة واللهو والسباحة والتسول، وأكره شيء عليه السعي وراء شغل يرتزق منه، ويفضل الخمول على السعي، والفاقة على الغنى؛ لرسوخ ما علموه إياه في عقله كتعليمهم لتلاميذهم الصغار (فلا تهتموا للغد لأن الغد يهتم بما لنفسه) وكذلك (لا تهتموا لحياتكم بما تأكلون وبما تشربون) وكذلك (انظروا إلى طيور السماء إنها لا تزرع ولا تحصد ولا تجمع إلى مخازن، وأبوكم السماوي يقوتها) . وكذلك فقال يسوع لتلاميذه: (الحق أقول لكم إنه يعسر أن يدخل غني إلى ملكوت السماوات؟ وأقول لكم أيضًا: إن مرور جمل من ثقب إبرة أيسر من أن يدخل غني إلى ملكوت السموات. فأجاب بطرس حينئذ وقال له: ها نحن تركنا كل شيء وتبعناك، فإذًا يكون لنا. وكل من ترك بيوتًا أو إخوةً أو أخواتٍ أو أبًا أو أمًّا أو امرأةً أو أولادًا أو حقولاً من أجل اسمي يأخذ مئة ضعف ويرث الحيوة الأبدية) . وغير ذلك كثير مما هو على هذا النمط، أما لو وضعني بمدارس المسلمين، لكنت لكم من الشاكرين، لأن نصحكم يكون تذكيرًا لي بما درسته فيها من آيات القرآن المجيد، والحديث الشريف، كقوله تعالى:] فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللَّهِ [، وكقوله تعالى: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ} (الجمعة: ١٠) ، وكقوله تعالى: {وَيُمْدِدْكُم بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَل لَّكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَاراً} (نوح: ١٢) ، وقول النبي صلى الله عليه وسلم: (كاد الفقر أن يكون كفرًا) ، وقوله صلى الله عليه وسلم: (اعمل عمل امرئ يظن أنه لن يموت أبدًا، واحذر حذر امرئ يخشى أن يموت غدًا) [١] وقوله صلى الله عليه وسلم: (ما أكل أحد قط خيرًا من أن يأكل من عمل يده) [٢] . وكذلك أيضًا: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم جالسًا مع أصحابه ذات يوم فنظروا إلى شاب ذي جَلَدٍ وقوة وقد بكَّر يسعى فقالوا: ويح هذا لو كان شبابه وجلده في سبيل الله. فقال صلى الله عليه وسلم: لا تقولوا هذا فإنه إن كان يسعى على نفسه ليكفها عن المسألة ويغنيها عن الناس فهو في سبيل الله، وإن كان يسعى على أبوين ضعيفين، أو ذرية ضعاف ليغنيهم ويكفيهم فهو في سبيل الله) [٣] واحسرتاه! ليته وضعني بمدارس تعلم القرآن المجيد، والحديث الشريف، أي تعلم الحكمة، والهمة والرحمة، ولا كان وضعني بمدارس تعلم الكسل والخمول والبلادة وحب التسول والفاقة وبغض المجد وكره الغنى. (الأمر الخامس) : اعتراضهم على بعض علماء المسلمين الكرام وتصريحهم باسم الأمير صاحب التآليف المشهورة المبنية على آيات القرآن المجيد والحديث الشريف، ويكفهم ردًّا على اعتراضهم وتحاملهم ما أبدوه من العداوة والبغضاء للحق وأهله. أما اعتراضهم على آيات القرآن المجيد؛ كقولهم ما نصه بالحرف: (ولا نحن نطلب من إخواننا المسلمين أن يبينوا لنا كيف يصح القول بأن هامان كان وزيرَ فرعون، وأن مريم العذراء كانت أخت موسى وهارون، على ما يستفاد من القرآن، ولا غير ذلك من المشاكل التي يستحيل التوفيق بينها وبين التاريخ) . على رِسلِكُمْ يا أيها المبشرون الزاعمون إنكم لا تقولون إلا الحق المبين: فما معنى ذكر مثل هذه المسائل وما مدخلها مع تفنيدكم لكتابنا؟ أَمَا آن لكم أن تتركوا المغالطات والسفسطات والتمويهات وتمقتوها؟ أما آن لكم أن تتركوا التشدق بما يعود عليكم بالخيبة والخذلان؟ واللهِ لو كان قصدكم الاستفهام حقيقةً لَمَا كنا نتأثر باعتراضاتكم وتشدقاتكم، ولكن نعلم أن قصدكم بها إغواء عباد الله تعالى وتشكيك عوامّ المسلمين في دينهم. ومع ذلك نقول لكم يا مرحبًا! سلوا عما تشاءون من المشاكل التي تظنون استحالة التوفيق بينها وبين التاريخ الذي كتبته أيدي الصادقين. ونقول لكم - مع أننا نعلم أنكم قصدتم بالتجاهل الإغواء وتشكيك عباد الله تعالى -: إن المقصود من أخوية مريم العذراء هو أخوية تشبيه لا أخوية ولادة من أب وأم، وهذا التشبيه كثير ومشهور في اللغات الشرقية، ولقد جاء مثله في إنجيل متى ففي الفصل الثاني عشر من عدد ٤٦ إلى ٥٠: (وفيما يكلم الجموع إذا أمه وإخوته قد وقفوا خارجًا طالبين أن يكلموه فأجاب وقال للقائل له: من هي أمي ومن هم إخوتي؟ ثم مد يده نحو التلاميذ وقال: ها أمي وإخوتي؛ لأن من يصنع مشيئة أبي الذي في السموات هو أخي وأختي وأمي) وجاء مثله في إنجيل مرقص (راجع الفصل الثالث من عدد ٣٢ إلى ٣٤) . وهكذا أخوة مريم لهارون عليهما السلام أي كأخوة المسيح عليه السلام لمن أشار إليهم بيده. وكما يشبهون الصالح بأحد المشهورين بالتقوى والعفاف في الأيام الخالية كذلك يشبهون الشرير المشهور بالخيانة في القرون الماضية كقولهم: (أخو الحارث بن ظالم) وهكذا. ولنا على الأعداد التي ذكرناها من الإنجيل سؤالات عديدة نود الاستفسار عنها من حضرة المبشرين الذين انتقدوا إطلاق لقب (أخت هارون) على مريم ولكن خوفًا من أن يتوهم أحد المسيحيين الشرقيين بأننا نقصد الحط من المعتقدات النصرانية كما توهموه لمّا قلنا عن البلغاريين وحلفائهم إنهم كفار ظالمون لاستباحتهم سفك دماء نساء وبنات وأولاد المسلمين ودفنهم جرحى العساكر العثمانية تحت التراب وهم أحياء يقاسون ألم الجراح وألم الموت خنقًا، وإحراقهم النساء المسلمات، وغير ذلك من الأعمال الوحشية التي لم يرو التاريخ صدور مثلها حتى ولا من القبائل المتوحشة في إفريقية. لذلك نكتفي بهذين السؤالين مؤملين من حضرتهم إفادتنا عنهما وهما: (١) إنهم يقولون عن مريم العذراء عليها السلام أنها لم تلد أحدًا غير المسيح عليه السلام، والأناجيل تقول: إنه كان لها أولاد، فهل نصدق كلامهم ونضرب بكلام الإنجيل عرض الحائط أم نصدق كلام الإنجيل ونكذب كلامهم. (٢) يظهر من كلام الإنجيل أنها أي أمه لم تكن مؤمنة به ولا صانعة إرادة مرسلة كتلاميذه، ولولا ذلك لَمَا تبرأ منها هي ومن معها من إخوته أشار نحو الحاضرين بأنهم هم إخوته وأخواته وأمه. فلو كانت مؤمنة به لما فعل هذا لأن فيه إهانة عظيمة لها، كما هو المتبادر من عبارة الإنجيل لكل من يقرؤه. ومعلوم أننا نحن لا نؤمن بهذه القصة التي سموها إنجيلاً، بل نؤمن بأن أمه كانت مؤمنة تقية، وأنه كان برًّا بها كما حكى الله عنه في قوله: {وَبَراًّ بِوَالِدَتِي} (مريم: ٣٢) . وقد أرسلنا إليهم كتاب (تاريخ الفحشاء) هدية كي يتسلوا به إلى أن نختصر بعض فصول كتابنا الذي سميناه (مقام عيسى المسيح عليه السلام في النصرانية والإسلام) لتنشر في المنار الأغر أدام الله شمس صدقه منيرة سماء العدل والمدنية. وأما اعتراضهم على مسألة تحديد تعدد الزوجات، وأقوال الصوفي المتنصر وغير ذلك مما ذكروه بمجلتهم فسنرد عليه في الفصول الآتية إن شاء الله تعالى. محمد طاهر التنير (المنار) : نشرنا هذه النبذة ويتلوها الفصل الأول من الكتاب الذي أشار إليه الكاتب، وقد تصرفنا في العبارة بعض التصرّف فإن في الأصل شدة في العبارة لا حاجة إليها. وسنعلق على الفصل الآتي كلامًا نبين فيه الغرض من نشر أمثال هذه المقالات. ((يتبع بمقال تالٍ))