للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: جمال الدين القاسمي


تاريخ الجهمية والمعتزلة [*]

بسم الله الرحمن الرحيم
هذا بحث جمع من تاريخ الجهمية والمعتزلة ما يحق أن يأخذ نفسه بتحققه من
أُنعم عليه بشرف المنزلة، وفُضِّل بالأدب والعلم، والأخذ من الفنون بسهم.
دعاني إلى العناية به ما رأيت - لما أفضت بنا النوبة في قراءة صحيح
البخاري إلى كتاب التوحيد والرد على الجهمية - أن كلام الشراح عليه موجز،
وأن ليس في الأيدي كتاب جمع تاريخهم وأحرز.
جمعت ما تيسر من شئونهم، ثم أشفعته بطرف من أخبار المعتزلة لتوافق
الفرقتين في معظم المسائل المعروفة عنهم، وفي تلقيب كلٍّ غالبًا بلقب الأخرى.
كثر ما يمر بقارئ التفاسير وشروح السنة ومؤلفات أصول الدين والفقه
ومطولات التاريخ وكتب المقالات، ذكر الجهمية والمعتزلة؛ ذلك لأنهما كانتا أول
من ظهر من الفرق الإسلامية في صدر حضارة الإسلام بقواعد الأصول، والعمل
على الجمع بين المنقول والمعقول، وفتح لأولي العلم بابالنظر والتأويلات،
وانتصب للمجادلات والمناظرات، وزحزح الواقفين عند ظواهر الرواية، إلى
منازل تأويل الدراية، وأشاع في الخافقين الآراء الغريبة في أصول الدين، وفي
تأويل آيات الصفات في الكتاب المبين، بله ما اتفق لبعض الجهمية من إخافة
أمراء زمانهم بالخروج على عمال بني أمية الظالمين، وإنكارهم لأعمالهم
الجائرة، ونصبهم الحروب معهم الأعوام المتطاولة، رغبة في تحكيم الكتاب
والسنة والتقرب من الشورى كما سنقصه، ولله أمر التاريخ فإنه {لاَ يُغَادِرُ
صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصَاهَا} (الكهف: ٤٩) .
قد يُظن أنا نريد الكلام على الجهمية والمعتزلة من جهة عقائدهم ومحاكمتهم
فيما لها وعليها، كلا، فقد حكاها أرباب المقالات والمصنفون في الملل والنحل، ما
بين عادٍّ لها فحسب، وما بين عادٍّ ورادٍّ، وهكذا كبار المتكلمين، وجهابذة السلفيين،
في مؤلفات لا يبلغها الإحصاء، لا سيما المطولات منها [١] .
لا يزال الحوار بين هاتين الفرقتين ومن خالفهما غضًّا طريًّا كلما سنحت
مسائلهم، وما أكثر سنوحها للمفسر والمحدث والمتكلم الأصولي، ذلك بأن مسائلهم
متشعبة من وجوه ما يراد بالآيات والأخبار المأثورة في أبواب مسائلها، وهي
مرجع المستدلين كل حين.
نعم أشرنا إلى جمل من عقائدهم تتميمًا للمقصد من التعريف بأحوالهم، إلا أن
المقصد هو سرد ما أورده المؤرخون من الحوادث التاريخية والوقائع التي جرت من
جرَّائِهِم.
وما عدا ذلك فإنما ذكر تكميلاً إيقاظًا واعتبارًا، ولا غرو فهذا البحث من
المباحث الضافية الذيول، الواسعة الأنواع.
وهذا تفصيل ما تضمنته المقالة في دائرة بحثين:
البحث الأول: في الجهمية
وفيه مطالب:
١- من هي الجهمية؟
٢- ذكر الجهم زعيم الجهمية.
٣- خروج الجهم مع الحارث بن سريج على بني أمية، ودعوتهما إلى الكتاب
والسنة والشورى.
٤- مقتل الجهم بن صفوان والحارث بن سريج.
٥- مَن وهِم في عام قتل جهم وسببه وتصحيح ذلك.
٦- فلسفة جهم أو مذهبه في الأصول، وتأثيره في العقول.
٧- مناظرة الجهم مع بعض السنية وإفحامه إياه، وما علق على هذه
المناظرة.
٨- تلقيب الجهمية بالجبرية.
٩- التنبيه لما وقع من خلل النقل عن الجهمية وغيرهم.
١٠- تمثل الشعراء بمذهب الجهمية.
١١- بيان أن مذهب الجهم متلقى عن الجعد بن درهم، وشيء من أنباء الجعد
وقتله.
١٢- نبذة من أخبار خالد بن عبد الله القسري قاتل الجعد أستاذ الجهم.
١٣- حمل الأثرية على الجهمية والإغراء بهم.
١٤- رأي الأثرية في الجهمية.
١٥- رأي الجهمية في الأثرية.
١٦- تفريط الجهمية في السمع وسواهم في العقل.
١٧- بيان أن انقسام الناس إلى التجهم، يشبه انقسامهم إلى التشيع، وذلك
ثلاث درجات.
البحث الثاني في المعتزلة
وفيه مطالب
١- التعريف بالمعتزلة.
٢- سبب تلقيبهم بالمعتزلة.
٣- تلقيب المعتزلة بالجهمية.
٤- انتشار مقالة الجهمية بواسطة كبار المعتزلة.
٥- ظهور دولة الجهمية (المعتزلة) في عهد المأمون ودعواه إلى مذهبهم وما
جرى على أئمة الرواية في مسألة خلق القرآن.
٦- أول من صنف من المعتزلة في محاجة الأثرية.
٧- تلقيب المعتزلة بالقدرية وسبب التسمية بذلك.
٨- أول من تكلم في القدر.
٩- رجال الجهمية والمعتزلة (القدرية) ممن روى لهما الشيخان البخاري
ومسلم في صحيحيهما.
١٠- بيان أن الجهمية والمعتزلة لهم ما للمجتهدين.
١١- شبهة الأثرية في اضطهاد الجهمية، والجهمية في اضطهاد الأثرية، لما
دالت لكلٍّ الدولة، وفيه اعتذار بقلم الجاحظ.
١٢- ما نتج من تعصب الجهمية والأثرية، وبيان آفة الغلو في التعصب.
١٣- حظر الأئمة المحققين رمي فرق المسلمين بالكفر والفسق.
١٤- بيان أنه لا تضليل لمن أصاره اجتهاده إلى التأويل.
١٥- ما وصى به الأئمة من إطراح أقوال العلماء بعضهم في بعض، ومن
التماس الحكمة أينما وجدت.
هذا ما قدر جمعه على ضيق الوقت في بعض شهور، وراجعت لأجله عدة
أسفار، واقتبست ألطف ما أُثر عن الكبار، ولم تكن موالاة البحث والتنقيب بأشق
من العناية بالتنقيح والترتيب، بيد أن التذرع للحقائق يُستسهل دونه كل صعب،
ولا لذة تضاهي لذة العلم والحكمة واستنارة القلب، والفضل لله سبحانه فيما هدى
وألهم، فلا نحصي ثناء عليه، نسأله أن يعلمنا ما لم نكن نعلم.
البحث الأول في الجهمية
وفيه مطالب
(١)
من هي الجهمية؟
الجهمية: فرقة من فرق المسلمين، انتحلت مذهب الجهم بن صفوان الآتي
ذكره في مسائله المدونة في كتب المقالات والكلام، ثم توسعت بعد ذلك شأن
المذاهب كلها التي استفحل أمرها، وكثرت رجالها، وتفرعت مسالكها، وتنوعت
مصنفاتها، ولم تك قبل على شيء منها، وقد يظن أنها أمست أثرًا بعد عين، مع
أن المعتزلة فرع منها، وهي في الكثرة تعد بالملايين على ما ستعرف، على أن
المتكلمين المتأخرين المنسوبين للأشعري يرجع كثير من مسائلهم إلى مذهب
الجهمية، كما يدريه المتبحر في فن الكلام، والمُوازن بين أقوال هؤلاء وأقوال
السلف، ولذا قلنا في المقدمة قبلُ: إن الخلاف بين الجهمية وغيرهم لا يزال
غضًّا طريًّا كلما سنحت مسائلهم، ولعل لقب الجهمية غلب على المعتزلة من
عهد المأمون كما سنوضحه. والله أعلم.
(٢)
ذكر زعيم الجهمية وطرف من أنبائه
الجهم هذا: هو ابن صفوان، من أهل خراسان، ينسب إلى سمرقند وترمذ،
ومحتده الكوفة. ويكنى أبا محرز. وكان مولى لبني راسب من الأزد، أخذ الكلام
عن الجعد بن درهم، وكان فصيحًا، اتخذه الحارث بن سريج التميمي أيام قيامه
بخراسان كاتبًا له كما سنفصله، وكان يقص في بيت الحارث في عسكره وكان
يخطب بدعوته وسيرته، فيجذب الناس إليه، وكان يحمل السلاح ويقاتل معه،
وكان صاحب مجادلات ومخاصمات في مسائل الكلام التي يدعو إليها، وكان أكثر
كلامه في الإلهيات.
يقول بعض من أرَّخَه: لم يكن لجهم نفاذ في العلم، يعني بالعلم: علم الحديث
والأثر، فإن الجمهور كان منكبًّا على تحمل الحديث وآثار الصحابة ومروياتهم، إلا
فئة المتكلمين، وفي مقدمتهم الجهم وإخوانه، فلم يكن لهم عناية برواية الحديث ولا
تحمُّله، وكانوا يرون العلم ما هم فيه من علم الكلام، ولذا كانوا يلقبون حملة الأثر
بالحشوية، كما سيأتي.
أول ظهور مذهب جهم كان بترمذ، فإنه أظهره فيه للملأ وأشاعه وحاور فيه،
ثم أقام ببلخ، فكان يصلي مع مقاتل بن سليمان في مسجده، ثم نُفي إلى ترمذ، ولما
اتصل بالحارث بن سريج لم يزل معه إلى أن قُتلا، كما سنفصله.
هذا ما قاله الأئمة من مجمل حال الجهم بن صفوان كالإمام أحمد في كتاب
الرد على الجهمية، والبخاري في كتاب خلق الأفعال، والطبري في تاريخه،
والإمام ابن حزم في الفصل، وابن عساكر وابن الأثير في تاريخهما، وابن
حجر في الفتح.
قلت: ومقاتل بن سليمان الذي كان يصلي في مسجده الجهم، هو مقاتل
البلخي المفسر المشهور، الذي قال فيه الشافعي: (الناس عيال في التفسير على
مقاتل) . وحكى العباس بن مصعب في تاريخ مرو أن مقاتلاً كان يقص في
الجامع بمرو، فقدم جهم إلى مقاتل، فوقعت العصبية بينهما، فوضع كل منهما على
الآخر كتابًا ينقض عليه [٣] .
وعن أبي حنيفة رحمه الله قال: (أفرط جهم في نفي التشبيه، حتى قال:
إنه تعالى ليس بشيء، وأفرط مقاتل في معنى الإثبات حتى جعله مثل خلقه) نقله
الحافظ الذهبي في ميزان الاعتدال، وفي حكاية العباس بن مصعب ما يدل على أن
الجهم كان من المؤلفين في مذهبه.
(٣)
خروج الجهم مع الحارث بن سريج على أمراء بني أمية
ودعوتهما إلى الكتاب والسنة والشورى
يمر بقارئ حوادث المائة الثانية للهجرة النبوية أخبار عن الحارث بن سريج
عجيبة تدل على حرصه على نشر العدل، وتحرقه من الظلم وأهله، ورغبته في
العمل بأحكام الكتاب والسنة، وفي القضاء على سلطة الاستبداد وجعل الأمر شورى،
وإن نصبه الحرب مع بني أمية، واتخاذه الجهم بن صفوان وزيرًا في بث الدعوة
كتابة وخطابة، إنما كان لهذه المقاصد الحسنة.
وملخص ما ذكره الطبري وابن الأثير وابن خلدون أن الحارث هذا كان
عظيم الأزد بخراسان [٤] ، وأنه خلع سنة (١١٦) ولبس السواد، ودعا إلى كتاب
الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم والبيعة للرضا. وأنكر سيرة هشام بن عبد الملك
وأعماله، ونزل الفارياب وأتى بلخ، واستولى عليها وأقام بها عاملاً، وسار إلى
الجوزجان، وغلب عليها وعلى الطالقان ومرو الروذ. ثم أقبل إلى مرو بيضة
خراسان في ستين ألفًا ومعه فرسان الأزد وتميم ودهاقين بلاد العجم. واقتتلوا مع
أمير مرو قتالاً شديدًا، حتى انهزم أصحاب الحارث، ولم يبق معه إلا زهاء ثلاثة
آلاف، ثم عاد الحارث إلى بلاد الترك، وأقام بها اثنتي عشرة سنة، ثم روسل
بالعود إلى خراسان، فأخذ الأمان وعاد سنة (١٢٦) ولما قدم مرو لقيه الناس
بكشمهين قال لهم: (ما قرت عيني منذ خرجت إلى يومي هذا، وما قرت عيني إلا
أن يطاع الله) .
قال ابن جرير الطبري: كان الحارث بن سريج يجلس على برذعة وتثنى له
وسادة غليظة، ولما لقيه نصر بن سيار وأنزله أجرى عليه كل يوم خمسين درهمًا،
فكان يقتصر على لون واحد، وطلق أهله وأولاده، وعرض عليه نصر أن يوليه
ويعطيه مائة ألف دينار، فلم يقبل، وأرسل إلى نصر: (إني لست من هذه الدنيا
ولا من هذه اللذات ولا مِن تزوُّج عقائل العرب في شيء، وإنما أسأل كتاب الله عز
وجل والعمل بالسنة واستعمال أهل الخير والفضل، فإن فعلت ساعدتك على عدوك) .
وقال الحارث لنصر: (خرجت من هذه المدينة - مرو - منذ ثلاث عشرة
سنة إنكارًا للجور، وأنت تريدني عليه) .
هذا كلام الحارث في مشربه نفسه، وفي رأيه في سياسة الشعب، وصدعه
في وجوه إصلاحه، وبه يعلم منزلة عقله، ونبله وفضله، وغيرته وتقواه، رحمه
الله.
(البقية تأتي)
((يتبع بمقال تالٍ))