للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


مقاومة رجال الدين لأجل الإصلاح

وصَّى الله - تعالى - جميع الأنبياء عليهم الصلاة والسلام {أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ
وَلاَ تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} (الشورى: ١٣) ولكن رجال الدين من كل أمة فرقوا دينهم ,
وكانوا شيعًا ومذاهب يضلل بعضها بعضًا , فكان هذا التفريق مسقطًا للدين من نظر
الحكماء والفلاسفة , فقام رجال الدين يناصبون أهل العلم العقلي والحكمة العداء ,
حتى كانت الأمم قبل الإسلام تعتقد أن الدين والعقل ضدان لا يجتمعان , وخصمان
لا يتفقان , وسرت هذه الوساوس من تلك الأمم لبعض المسلمين , وصارت تقوى
بينهم كلما ضعف العلم والدين، ولما تنبه أهالي أوربا بعد الحروب الصليبية إلى أن
ضعفهم في العلوم والمعارف وما يتبعها من الصنائع وأسباب العمران كله أو جله
من سوء سيرة رجال الدين فيهم شنوا عليهم الغارة الشعواء , وظهر فيهم حزب
الإصلاح الذي استتبع من الحروب ما أوجب ذلك الانقلاب العظيم في أوربا , وعنه
نشأت مدنيتها العظمى التي نشاهد من آثارها ما يحير الأفكار , ويكاد سنا ضوئه
يذهب بالأبصار.
ولما رأى رجال الدين من بعد أن مقاومة العلم ومقاومة المدنية يعودان
عليهم وعلى الدين بالوبال , ويؤذنان سلطتهم بالزوال؛ ساروا مع العلم والمدنية ,
وكانوا من أكبر أنصارهما , وجمعوا بين علوم الدين والدنيا , ثم فاضت العلوم
الغربية على الشرق , وانتشرت فيه بواسطة دعاة الدين المسيحي من الأوربيين ,
فكان هذا سببًا لعناية الإكليروس الشرقي بالعلوم العصرية اقتداءً بالإكليروس الغربي
لا سيما الكاثوليك الذين كانوا من قبل أعدى أعداء العلم والعقل , ولم يبق لهم ذنب في
نظر العارفين بأحوال الوقت وما تقتضيه من أمتهم الذين يلقبون بالمتنورين إلا
أمران: أحدهما صرف أموال الأوقاف العظيمة على معاهد العبادة كالديور ورجال
الكهنوت الذين لا عمل لهم ينفع الأمة؛ لأنهم انقطعوا للتحنث والتعبد , وثانيهما
تفريق كل فرقة بين التابعين لها وبين سائر الفرق , وتضليل بعضهم بعضًا مع أنهم
أبناء دين واحد , بل وتكفير بعضهم بعضًا للخلاف في مسائل هي أشبه
بالفرعية منها بالأصلية الأساسية , وقد شن هؤلاء المتنورون بسبب هذه الأمور
الغارة الشعواء على رجال الدين , وطلبوا منهم أن ينفقوا أموال الأوقاف على
معاهد التربية والتعليم , وأكثروا من الكتابة في هذا الموضوع في الجرائد
السورية والأميركية والمصرية لا سيما جريدة (الرائد المصري) و (السيار)
و (المناظر) وكم كتبوا وخطبوا ونظموا القصائد في حث رجال الدين على
التأليف بين الطوائف , وإطفاء نيران التحمس والغلو في التعصب.
ومن هؤلاء من جعل كلامه عامًّا للمختلفين في الأديان لأن البلاد لا تعمر إلا
باتفاقهم على عمارتها , ومنهم من جعل كلامه لأهل الدين النصراني المختلفين في
المذاهب فقط , وقد رأينا في جرائد أميركا السورية الأخيرة خبر نهضة عظيمة في
هذا الأمر تستحق التدوين والذكر , وإننا ننشر هنا أهم واقعة حدثت لهم فيها وهو ما
كان في احتفال (جمعية الشبان المارونيين) ليعتبر به الجاهلون بالتاريخ
والأحوال الحاضرة الذين يتوهمون ويقولون , بل ويكتبون في جرائدهم أن سائر
أهل الأديان يقدسون رجال الدين ولا ينتقدون عليهم بشيء، يعني أننا قد خرجنا
بالمنار عن آداب أهل الأديان كلها لطلبنا من علمائنا إصلاح التعليم والجمع بين
علوم الدنيا والآخرة كما هو مقتضى الإسلام , والسعي في جمع كلمة المسلمين التي
فرقها اختلاف المذاهب لا سيما أهل السنة والشيعة. ثم قام دعاة الوطنية يفرقونها
أيضا باختلاف الأجناس والبلاد , ومع أننا نتكلم في المنار بكل أدب واحترام , ونعتقد
أن تعليق آمال الأمة بعلمائها وإقناعها بأن سعادتها في أيديهم هو التعظيم الأكبر لهم ,
وأننا - ولله الحمد - لم نذكر أحدًا من علمائنا الكرام بسوء , وقد جرينا على آداب
السنة السَّنية في الانتقاد على من كتب في مصنف له أن الاقتصاد في المعيشة وتربية
الأولاد وتدبير المنزل ليست من الأمور الواجبة على النساء , وذلك أننا لم نصرح
باسم القائل , ولا باسم كتابه كما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يذكر
الإنكار حتى على المنبر من غير تصريح باسم فاعله وذلك بمثل: ما بال قوم يفعلون
كذا , فليحاسب أنفسهم الذين يخوضون في الإنكار على المعروف عن غيره بصيرة
ليعلموا هل يعملون لمرضاة قوم وإسخاط آخرين , أم ابتغاء مرضاة الله واتقاء
سخطه؟ والله ولي المتقين , وهاكم الآن أيها القراء الكرام بعض ما جاء في جريدة
الأيام التي تصدر في نيويورك: