(كتاب الأربعين في أصول الدين) هذا الكتاب قسم من كتاب جواهر القرآن لحجة الإسلام الغزالي، وقد أجاز أن يكتب مستقلاًّ كما قال في كشف الظنون، فكتب وطبعه في هذه الأيام الشيخ محيي الدين صبري الكردي في قطع كقطع كتاب الإسلام والنصرانية، فكانت صفحاته زهاء ٣٦٠، ويبيع النسخة منه بخمسة قروش. وإنما سماه الأربعين؛ لأنه جعله أربعين أصلاً؛ عشرة في العقائد، و١٠ في الأعمال الظاهرة: وهي العبادات وكسب الحلال وآداب الصحبة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واتباع السنة، و١٠ في تزكية النفس من الأخلاق المذمومة، و١٠ في تحليتها بالأخلاق المحمودة، فهو ملخص من كتابه الإحياء، وفيه من التحقيق لبعض المسائل ما لا نظير له في الإحياء، وهاك نموذجًا منه: *** (تحقيق مسألة القضاء والقدر وفيه وصف الساعة الدقاقة في زمنه) قال: والقضاء هو الوضع الكلي للأسباب الكلية الدائمة، والقدر هو توجيه الأسباب الكلية بحركاتها المقدرة المحسوبة إلى مسبباتها المعدودة بقدر معلوم لا يزيد ولا ينقص؛ ولذلك لا يخرج شيء عن قضائه وقدره. ولا تفهم ذلك إلا بمثال، ولعلك شاهدت صندوق الساعات التي بها تعرف أوقات الصلوات وإن لم تشاهده، فجملة ذلك أنه لا بد فيه من آلة على شكل أسطوانة تحوي مقدارًا من الماء معلومًا، وآلة أخرى مجوفة موضوعة فيها فوق الماء، وخيط مشدود أحد طرفيه في هذه الآلة المجوفة. وطرفه الآخر في أسفل ظَرْف صغير موضوع فوق الآلة المجوفة، وفيه كرة وتحته طاس، بحيث لو سقطت الكرة وقعت في الطاس وسُمع طنينها، ثم تثقب أسفل الآلة الأسطوانية ثقبًا بقدر معلوم ينزل الماء منه قليلاً قليلاً، فإذا انخفض الماء انخفضت الآلة المجوفة الموضوعة على وجه الماء، فامتد الخيط المشدود بها، فحرك الطرف الذي فيه الكرة تحريكًا يقربه من الانتكاس إلى أن ينتكس، فتتدحرج منه الكرة وتقع في الطاس، وتطن وعند انقضاء كل ساعة تقع واحدة، وإنما يتقدر الفصل بين الوقعتين بتقدير خروج الماء وانخفاضه؛ وذلك بتقدير سعة الثقب الذي يخرج منه الماء، ويعرف ذلك بطريق الحساب، فيكون نزول الماء بمقدار مقدّر معلوم بسبب تقدير سعة الذي يخرج منه الماء ويعرف ذلك بطريق الحساب. فيكون نزول الماء بمقدار مقدر معلوم بسبب تقدير سعة الثقبة بقدر معلوم، ويكون أعلى الماء بذلك المقدار به ويتقدر، وانخفاض الآلة المجوفة وانجرار الخيط المشدود بها، وتولّد الحركة في الظرف الذي فيه الكرة وكل ذلك يتقدر بتقدّر سببُه لا يزيد ولا ينقص، ويمكن أن يجعل وقوع الكرة في الطاس سببًا لحركة أخرى، وتكون الحركة الأخرى سببًا لحركة ثالثة، وهكذا إلى درجات كثيرة حتى يتولد منها حركات عجيبة مقدرة بمقادير محددة، وسببها الأول نزول الماء بقدر معلوم، فإذا تصورتَ هذه الصورة، فاعلم أن واضعها يحتاج إلى ثلاثة أمور. أولها: التدبير وهو الحكم بأنه ما الذي ينبغي أن يكون من الآلات والأسباب والحركات، حتى يؤدي إلى حصول ما ينبغي أن يحصل وذلك هو الحكم. والثاني: إيجاد هذه الآلات التي هي الأصول وهي الآلة الأسطوانية لتحوي الماء والآلة المجوفة لتوضع على وجه الماء، والخيط المشدود بها، والظرف الذي فيه الكرة والطاس الذي تقع فيه الكرة وذلك هو القضاء. الثالث: نصب سبب يوجب حركة مقدرة محسوبة محدودة، وهو ثقب أسفل الآلة ثقبة مقدرة السعة؛ ليحدث بنزول الماء منها حركة في الماء، تؤدي إلى حركة وجه الماء بنزوله، ثم إلى حركة الآلة المجوفة الموضوعة على وجه الماء بنزوله، ثم إلى حركة الخيط، ثم إلى حركة الظرف الذي فيه الكرة، ثم إلى حركة الكرة، ثم إلى الصدمة بالطاس إذا وقع، ثم إلى الطنين الحاصل منها، ثم إلى تنبيه الحاضرين واستماعهم، ثم إلى حركاتهم إلى الاشتغال بالصلوات والأعمال عند معرفتهم بانقضاء الساعة، وكل ذلك بقدر معلوم ومقدار مقدر بسبب تقدّر جميعها بقدر الحركة الأولى، وهي حركة الماء. فإذا فهمتَ أن هذه الآلات أصول لا بد منها للحركة، وأن الحركة لا بد من تقديرها ليقدر ما يتولد منها، فكذلك فافهم حصول الحوادث المقدرة التي لا يتقدم منها شيء ولا يتأخر إذا جاء أجلها أي حضر سببها، وكل ذلك بمقدار معلوم {إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً} (الطلاق: ٣) . فالسموات والأفلاك والكواكب والأرض والبحر والهواء، وهذه الأجسام العظام في العالم كتلك الآلات، والسبب المحرك للأفلاك والكواكب والشمس والقمر والكواكب إلى حصول الحوادث في الأرض كإفضاء حركة الماء إلى حصول تلك الحركات المفضية إلى سقوط الكرة المعرِّفة لانقضاء الساعة، ومثال تداعي حركات السماء إلى تغيير الأرض هو أن الشمس بحركتها إذا بلغت إلى المشرق فاستضاء العالم تَيسّر على العالم الإبصار، فيتيسر عليهم الانتشار في الاشتغال، فإذا بلغت المغرب تعذر عليهم ذلك فيرجعون إلى المساكن، وإذا قربت من وسط السماء وسامتَتْ رؤوس أهل الأقاليم، حمي الهواء واشتد القيظ وحصل نضج الفواكه، وإذا بعدت حصل الشتاء واشتد البرد، وإذا توسطت حصل الاعتدال فظهر الربيع، وأنبتت الأرض وظهرت الخضرة، وقس بهذه المشهورات التي تعرفها الغرائب التي لا تعرفها. فاختلاف هذه الفصول كلها مقدرة بقدر معلوم؛ لأنها منوطة بحركات الشمس والقمر و {الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ} (الرحمن: ٥) ، أي حركتها بحساب معلوم- فهذا هو التقدير، ووضع الأسباب الكلية هو القضاء والتدبير الأول الذي هو كلمح البصر هو الحكم، وكما أن حركة الآلة والخيط والكرة ليست خارجة عن مشيئة واضع الآلة، بل ذلك هو الذي أراد بوضع الآلة؛ فكذلك كل ما يحدث في العالم من الحوادث شرها وخيرها نفعها وضرها غير خارج عن مشيئة الله تعالى، بل ذلك مراد الله تعالى ولأجله دبر أسبابه، وتفهيم الأمور الإلهية بالأمثلة العرفية عسير، ولكن المقصود من الأمثلة التنبيه، فدَعْ المثال وتنبّه للغرض، واحذر من التمثيل والتشبيه) اهـ.
(المنار) يرى القارئ أن هذا التحقيق لمسألة القدَر، هو عين ما ذهبنا إليه وحققناه في المنار غير مرة، ولم نكن قد اطلعنا عليه لأحد، ولكننا رأيناه صريحًا من آيات القرآن الكثيرة عند تتبعها وتدبرها، ومنه يعلم أن الجمهور يفهمون القدَر الآن بضد معناه، ونحمد الله أن وفق أبا حامد وهداه إليه من قبل، وآخر ما كتبناه في ذلك نشرناه في المجلد الثاني عشر (راجع ص ١٨٩- ٢٠٠منه) . وما كتبه في الساعة الدقاقة التي كانت مستعملة إلى زمنه، مما كان يتوق الناس إلى معرفته بهذا التفصيل، وقد ارتاب الشيخ أحمد فارس في تسمية هذه الآلة (ساعة) ؛ أن يكون تسميته عربية قال في ص ٢١٨ من كتابه (كَشْف المُخَبّا عن فنون أوربا) : قال مؤلف كتاب (المخترعات العجيبة) : ذكر المؤرخون من الفرنسيس أن أول ساعة عُرِفَتْ في بلادهم، كانت الساعة التي أهداها الخليفة هارون الرشيد إلى شارلمان ملك فرنسة وذلك في سنة ٨٠٧م، وكانت بدعًا في ذلك العصر حتى إنها أورثت رجال الديوان حيرة وذهولاً، والظاهر أنها كانت من الآلات التي يديرها الماء المنحدر، وكان لها اثني عشر بابًا صغيرًا تقع على جرس فيطن بعدد الساعات وتبقى الأبواب مفتوحة، وحينئذ تخرج صورة اثني عشر فارسًا على خيل وتدور على صفحة الساعة، وقلت: بودي لو أعرف اسم الساعة في ذلك العصر، فإني أنكر هذه اللفظة، وأهل الغرب يقولون (منكالة) وهي أنكر اهـ. وقد عرفت من كلام الغزالي أنهم استعملوا لفظ الساعة، وفي الكتاب فوائد كثيرة ومعظمه من الإحياء له، وفيه من التساهل في إيراد ما لا يصح من الأحاديث مثل ما في الإحياء، وكان يرى أن العلم بكل ما ورد من الأحاديث أولى من تركه. *** (ميزان العمل) للشيخ أبي حامد الغزالي أيضًا وهو مختصر في علم النفس والأخلاق على طريق الفلاسفة والصوفية والمتكلمين جميعًا، وهو مختصر لطيف حسن الترتيب والتمثيل، وفيه فوائد كثيرة وتحقيقات مفيدة، وأنفع ما فيه خاتمته، وهي في اختلاف الناس في المذاهب وهذا نصها: بيان معنى المذهب واختلاف الناس فيه لعلك تقول كلامك في هذا الكتاب انقسم إلى ما يطابق مذهب الصوفية وإلى ما يطابق مذهب الأشعرية وبعض المتكلمين، ولا يفهم الكلام إلا على مذهب واحد، فما الحق من هذه المذاهب؟ فإن كان الكل حقًّا فكيف يتصور هذا؟ وإن كان بعضه حقًّا فما ذلك الحق؟ فيقال لك: إذا عرفت حقيقة المذهب لا تنفعك قط؛ إذ الناس فيه فريقان: فريق يقول المذهب اسم مشترك لثلاث مراتب: أحدها ما يتعصب له في المباهاة والمناظرات، والأخرى ما يسار به في التعليمات والإرشادات، والثالثة ما يعتقده الإنسان في نفسه مما انكشف له من النظريات، والكل كامل ثلاثة مذاهب بهذا الاعتبار؛ فأما المذهب بالاعتبار الأول فهو نمط الآباء والأجداد ومذهب المعلم، ومذهب أهل البلد الذي فيه النشؤ؛ وذلك يختلف بالبلاد والأقطار ويختلف بالمعلمين فمن ولد في بلد المعتزلة أو الأشعرية أو الشفعوية أو الحنفية، انغرس في نفسه منذ صباه التعصب له والذب دونه والذم لما سواه، فيقال: هو أشعري المذهب أو معتزلي أو شفعوي أو حنفي، ومعناه أنه يتعصب أي ينصر عصابة المتظاهرين بالموالاة، ويجري ذلك مجرى تناصر القبيلة بعضهم لبعض. ومبدأ هذا العصب حرص جماعة على طلب الرياسة باستتباع العوام، ولا تنبعث دواعي العوام إلا بجامع يحمل على التظاهر، فجعلت المذاهب في تفصيل الأديان جامعًا، فانقسم الناس فرقًا، وتحركت غوائل الحسد والمنافسة، فاشتد تعصبهم واستحكم به تناصرهم. وفي بعض البلاد لما اتحد المذهب، وعجز طلاب الرياسة عن الاستتباع، وضعوا أمورًا وخيلوا وجوب المخالفة فيها والتعصب لها؛ كالعلم الاسود والعلم الأحمر، فقال قوم: الحق هو الأسود، وقال آخرون: لا بل الأحمر، وانتظم مقصود الرؤساء في استتباع العوام بذلك القدر من المخالفة، وظن العوام أن ذلك مهم، وعرف الرؤساء الواضعون غرضهم في الوضع. المذهب الثاني: ما ينطبق في الإرشاد والتعليم على من جاءه مستفيدًا مسترشدًا وهذا لا يتعين على وجه واحد، بل يختلف بحسب المسترشد فيناظر كل مسترشد بما يحتمله فهمه، فإن وقع له مسترشد تركي أو هندي أو رجل جلف بليد الطبع؛ وعلم أنه لو ذكر له أن الله تعالى ليس ذاته في مكان، وأنه ليس داخل العالم ولا خارجه، ولا متصلاً بالعالم ولا منفصلاً عنه، لم يلبث أن ينكر وجود الله تعالى ويكذب به، فينبغي أن يقرر عنده أن الله تعالى مستو على العرش، وأنه يرضيه عبادة خلقه ويفرح بها، فيثيبهم ويدخلهم الجنة عوضًا وجزاء، وإن احتمل أن يذكر له ما هو الحق المبين يكشف له، فالمذهب بهذا الاعتبار يتغير ويختلف، ويكون مع كل واحد على حسب ما يحتمله فهمه. المذهب الثالث: ما يعتقده الرجل سرًا بينه وبين الله عز وجل، لا يطلع عليه غير الله، ولا يذكره إلا مع من هو شريكه في الاطلاع على ما أُطْلِعَ أو بلغ رتبة (من) يقبل الاطلاع عليه ويفهمه، وذلك بأن يكون المسترشد ذكيًّا، ولم يكن قد رسخ في نفسه اعتقاد موروث نشأ عليه وعلى التعصب له، ولم يكن قد انصبغ به قلبه انصباغًا لا يمكن محوه منه، ويكون [*] مثاله ككاتب كتب عليها ما غاص فيه، ولم يكن إزالته إلا بحرق الكاغد وخرقه، فهذا رجل فسد مزاجه ويُئِسَ من صلاحه، فإن كل ما يذكر له على خلاف ما سمعه لا يقنعه بل يحرص على أن لا يقتنع بما يذكر له ويحتال في دفعه ولو أصغى غاية الإصغاء، وانصرفت همته إلى الفهم لكان يشك في فهمه، فكيف إذا كان غرضه أن يدفعه ولا يفهمه؟ فالسبيل مع مثل هذا أن يُسْكَت عنه، ويُترك على ما هو عليه، فليس هو بأول أعمى هلك بضلالته، فهذا فريق من الناس. وأما الفريق الثاني: وهم الأكثرون فيقولون المذهب واحد هو المعتقد، وهو الذي ينطق به تعليمًا وإرشادًا مع كل آدمي كيفما اختلفت حاله، وهو الذي يُتَعصب له؛ وهو إما مذهب الأشعري أو المعتزلي أو الكرامي، أو أي مذهب من المذاهب والأولون يوافقون هؤلاء على أنهم لو سئلوا عن المذهب أنه واحد أو ثلاثة، لم يجز أن يذكر أنه ثلاثة، بل يجب أن يقال: إنه واحد، وهذا يبطل تعبك بالسؤال عن المذهب إن كنت عاقلاً، فإن الناس متفقون على النطق بأن المذهب واحد، ثم يتفقون على التعصب لمذهب أبيهم أو معلمهم أو أهل بلدهم، ولو ذكر ذاكر مذهبه فما منفعتك فيه، ومذهب غيره يخالفه، وليس مع واحد منهم معجزة يترجح بها جانبه. فجانب الالتفات إلى المذاهب؛، واطلب الحق بطريق النظر لتكون صاحب مذهب، ولا تكن في صورة أعمى تقلد قائدًا يرشدك إلى طريق، وحواليك ألف مثل قائدك يناودن عليك بأنه أهلكك وأضلك عن سواء السبيل، وستعلم في عاقبة أمرك ظلم قائدك، فلا خلاص إلا في الاستقلال. خذ ما تراه ودع شيئًا سمعت به في طالع الشمس ما يغنيك عن زحل ولو لم يكن في مجاري هذه الكلمات إلا ما يشكك في اعتقادك الموروث؛ لتنتدب للطلب فناهيك به نفعًا؛ إذ الشكوك هي الموصلة إلى الحق، فمن لم يشك لم ينظر، ومن لم ينظر لم يبصر، ومن لم يبصر بقي في العمى والضلال، نعوذ بالله من ذلك، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم اهـ.
(المنار) ليعتبر بهذا من ترتعد فرائصهم من ذكر الدعوة إلى الكتاب والسنة والنعي على التقليد الأعمى الذي يصرف صاحبه عن الاهتداء بهما، وليعلموا أنه ما نبغ عالم في الإسلام إلا وكان منتهى شوطه وجوب الرجوع إلى الكتاب والسنة والاهتداء بهما استقلالاً، وللغزالي في ذلك كلام كثير بين تصريح وتلويح دارى فيه دولة المتعصبين، وناهيك بما تقدم لنا نقله عنه من كتابه القسطاس المستقيم. وثمن هذا الكتاب أربعة قروش صحيحة. *** (الرسالة اللدنية ورسالة ما لا بد منه للمريد) الأولى لأبي حامد الغزالي يتكلم فيها عن العلم اللدني والإلهام والوحي والنفس والروح والقلب. والثانية للشيخ محيي الدين بن عربي في آداب سالك طريق التصوف، وقد طبعهما الشيخ محيي الدين الكردي معًا. وثمنهما قرشان صحيحان.