] فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَائِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ [[١] (قرآن مبين) يا أيتها الشبيبة المصرية التي عيونها كلها نور، وقلوبها كلها نار، وأجسامها كلها قوة وصلابة، لماذا تقصرين الهمة على قراءة الأوراق والصحف، ولا توجهين عنايتك بقدر الاستطاعة إلى السياحة؛ للاطلاع على ما خلق الله من الغرائب والمدهشات، وعلى ما عملته أيدي الناس من البدائع؟ الرحلة في طلب العلم أكثر بركة من القراءة في الكتب ما عدا ذلك الكتاب الحكيم. والاغتراب سنة واحدة بنية الاستفادة الحقيقية من المعارف أكثر فائدة من القعود عشر سنين على عمى بين المحابر والدفاتر. فرض الله الحج ورغب فيه كل من استطاع إليه سبيلاً. ومن فوائده العظيمة التجول من بلد إلى بلد ومن قبيلة إلى قبيلة؛ لتتسع الأفكار وتستنير العقول. وهل يقال (عالم) لمن لم يتجول في أرض الله الواسعة؛ ليعرف الحقائق؟ ! إن السياحة المقرونة بالحكمة والتبصر، تظهر عادات الأمم وأخلاقها وفضائلها وعيوبها، ومقاصدها من هذه الحياة وسياستها مع الأقوام. ورُبّ أمور لا تتأتى معرفتها في سنين من مطالعة الكتب تعلم بالتحقيق من طريق الرحلة في أقل من لمح البصر. فسيروا في الأرض، واعلموا أن الشعوب كلها سبقتكم في طلب العلم خارج حدود بلادها، حتى أهل الصين الذين كنا نظنهم أمواتًا، فها هم أولاء الآن خارجون من ديارهم؛ لاقتباس النور حتى من أوطان أعدائهم؛ لينذروا إخوانهم ويوقظوهم من سباتهم الطويل، متى رجعوا إليهم. يا أيتها الشبيبة المصرية، تريدين أن تخرجي من الظلمات إلى النور، فعليك بالعلم، والعلم كله في الكتاب العزيز، وهو مغلق على من لا يسرح نظره في عجائب المخلوقات، إن أقرب طريق لفهم كلام الله هو التأمل في صنع الله، وما خلقه في السماء والأرض. وهل يفسر كلام الله شيء كأعمال الله من الغرائب المؤثرة والفرائد العجيبة! قال الله عز وجل ردًّا على من شك في أن الكتاب الحكيم من عند الله: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الحَقُّ} (فصلت: ٥٣) . * * * ... ... ... ] قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ ... ... ... ... أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ [[٢] ... ... ... ... ... ... ... ... ... (قرآن حكيم) العلم آلة السيادة في كل زمان. به سادت مصركم أم الدنيا على الأمصار كلها، به ساد الإسلام ويسود عن قريب إن شاء الله، وبه تتسامى الأمم اليوم أمام أعينكم. فقد كانت شعوب الألمان والطليان واليابان منحلة أكثر من انحلالكم، ومتفرقة أكثر من تفرقكم، ولكنها أصبحت بفضل العلم تتباهى على إخوانها، وتحكم في القياصرة والجبابرة. وبالعلوم دخلت في جوف الأرض، وأخرجت الكنوز من المعادن، وبها قطعت البحار ونشرت نفوذها على العالمين، وبها طارت في السماء فسبقت النسور والعقبان. إن الله سبحانه عرفناه بالعقل، فكذلك كتابه فهمناه بالعقل، ولولا هبة العقل الربانية لما تمكنا من تفسير الكتاب العزيز. والعقل يزيد كل يوم في العلوم وينميها؛ لأن كل أمة تزيد في الكنوز التي أتت بها سابقاتها. مر على المسلمين زمن كانوا يستعينون فيه على تفسير القرآن بأفكار أرسطو وأفلاطون وبقراط وفيثاغورس وجالينوس وبيدبا من فحول اليونان والهنود وغيرهم. أما نحن الآن ففي وقت لا يكفينا فيه رأي الأقدمين وحدهم، فقد استدار الزمان وحدثت حوادث، وظهرت أقضية وأمور جديدة تستوجب البحث فيما قاله أهل هذا الوقت مثل: لايبنيتس وأوجست كونت وسبنسر من فطاحل الألمان والفرنسيس والإنجليز وغيرهم. القرآن المجيد كثيرًا ما يحتاج مفسره إلى العلوم البشرية؛ لأن المعارف الدنيوية والتجارب المفيدة والمباحث الدقيقة توضح آياته، كما توضحها الاجتهادات العقلية والفيوضات الروحية، فكيف تترقى العلوم (العصرية) وتبقى التفاسير على طريقها القديم في الطب والفلك والكيمياء وباقي العلوم والفنون التي لا تحصى ولا تعد، بعد أن أفنى ابن آدم حياته فيها. ترقي العلوم العصرية يضر بالأديان الباطلة، ولكنه من أكبر الفوائد للمسلمين؛ لأن كثيرًا من الآيات القرآنية المبهمة لا تلبث أن يظهر معناها عندما تظهر حقائق علمية جديدة، كانت خفية على بني الإنسان. سمعت مرة إنجليزيًّا من المهديين إلى الإسلام يقول: هل يتأتى لجميع فلاسفة العالم أن يثبتوا غلطة واحدة في القرآن الكريم، ولو ارتكنوا على كل ما في أيديهم من العلوم العصرية؟ لا يتأتى لهم ذلك. ولو وجدوا فيه خطأ صغيرًا ما كانوا إلا مظهريه، ولكن أنى لهم ذلك، والعلوم كل يوم في تبديل وتغيير، وكل لحظة تظهر معان باهرة لآيات ما كنا لنفهم معناها إلا بعد تقدم العلوم. فلنضرب لكم مثلاً: كان الفلكيون يدعون أولاً أن الأرض ثابتة والشمس متحركة، ثم قالوا: بل الأرض متحركة والشمس ثابتة، ثم جاءوا اليوم يقولون: علمنا الآن أن كلًّا في فلك يسبحون، وأن الشمس حقيقة تجري لمستقر لها، فمن ذلك تتأكد أن العلوم تتغير وتترقى، والقرآن ثابت لا يتأثر بالحوادث، فإن وجد في الكتاب الحكيم شيء لا نفهمه، وجب علينا أن ننتظر رقيّ العلوم، ولا نشك لحظة في صحة القرآن. قصدت في سياحة من سياحاتي مدينة بونتارليه؛ لمقابلة الدكتور جرينيه المسلم الفرنساوي الشهير؛ الذي كان في السابق عضوًا في مجلس النواب. قابلته لأجل سؤاله عن سبب إسلامه فقال لي: إني تتبعت كل الآيات القرآنية التي لها ارتباط بالعلوم الطبية والصحية والطبيعية، وهي التي درستها من صغري، وأعلمها جيدًا، فوجدت هذه الآيات منطبقة كل الانطباق على معارفنا الحديثة فأسلمت؛ لأني تيقنت أن محمدًا عليه السلام أتى بالحق الصراح من قبل ألف سنة، من غير أن يكون له معلم أو مدرس من البشر، ولو أن كل صاحب فن من الفنون أو علم من العلوم قارن كل الآيات القرآنية المرتبطة بما تعلمه جيدًا، كما قارنت أنا لأسلم بلا شك إن كان عاقلاً خاليًا من الأغراض. هذا المثل أوردته لمن يريد أن يعتبر. فإن الدكتور (جرينيه) لو اقتصر في فهم القرآن على ما جاء في أغلب التفاسير القديمة المحشوة بكثير من الخزعبلات بفضل النساخ الدساسين لما اعتنق الإسلام، ولكنه عوّل على معلوماته المستنبطة من آخر اكتشافات باستور وكوخ وأقرانهما الذين وصلوا بالميكروسكوب وباقي الآلات المعظمة إلى نقط دقيقة، ما كان الجنس البشري ليحلم بها في منامه قبل عشرات من السنين. وكذلك علماء الفلك مثلاً من غير أهل الإسلام، لو بحثوا بحثًا دقيقًا في الآيات الباهرات لظهرت لهم أنوار عظيمة، ولعلموا أمورًا كثيرة خفيت عليهم حتى الآن. وإني أرى أن علماءنا الفلكيين لو فسروا الآيات الحكيمة بالمعارف التي اكتسبوها من دروس الإفرنج، لازدادوا يقينًا ولأدهشوا معلميهم وأساتذتهم وأبعدوا عن أذهانهم شبهات كثيرة. ولا يبعد شيء من ذلك على أبناء وادي النيل النبهاء؛ لأنهم ورثوا مجد آبائهم الأولين من أقوام الفراعنة الذين أفاضوا علومهم على ناشري ألوية المعارف في المشارق والمغارب؛ من كهنة الهند وحكماء الصين وفلاسفة اليونان؛ ولأنهم ورثوا في آن واحد معارف المسلمين الثمينة وخزنوها في أزهرهم الأنور؛ ليردها الطلبة العطاش من أنحاء المسكونة. فلتمكُّن أبناء العرب المصريين في أيامنا هذه من لغات الأجانب ومن لغتهم العربية المبينة، يتأتى لهم أن يرتقوا مقامًا عاليًا بين الإفرنج والمسلمين؛ كأنهم الترجمان بين الأضداد، والرابطة بين الأقران والأصفياء. والعلوم العصرية التي يسهل الحصول عليها في أقرب من لمح البصر، متى وجد التوفيق، وقصد بها الاستعانة على فهم الكتاب المجيد، لا يصعب بثها في أقطار المسلمين القدسية الطاهرة التي يؤمها المسلمون من كل فج عميق، ولارتباطنا بها بأقوى الروابط بعد رابطة الدين، وهي رابطة الجنسية ورابطة اللغة. الشبيبة المصرية التي نراها الآن ضعيفة، لا حول لها ولا قوة في أعمال القطر ستكون بعد عشر سنين أو خمس عشرة سنة متربعة في مراكز الحكومة، وقابضة على زمامها من غير شريك ومعارض، فيلزمها أن تستعد لوظيفتها هذه العالية من الآن؛ للاتفاق على نوع العمل وعلى طريق السير فيه. إنما لا يمكن ذلك إلا إذا قامت طائفة مباركة أعضاؤها على السواء من طلاب العلوم العصرية، ومن طلاب علوم الدين الإسلامي الحنيف، واستعدت تلك العصابة العصامية؛ لتتولى السيادة العلمية في مستقبل الأيام ولترأس كنقابة عامة أدبية جميع أجزاء الأمة المحمدية المشتغلين بالعلوم والفنون والمعارف. فليتضافر لذلك من الآن طلبة الأزهر وطلبة كل المدارس الأخرى، ويمزجوا علومهم وأفكارهم العالية وإحساساتهم الشريفة، فإن القوة تأتي من الاتحاد، ويجيء الضعف من الافتراق والانحلال، وعلى الأقل يجب فتح باب (الجامعة المصرية) بكل الوسائل لمن كان من فرسان العلوم الشرعية وباب (الجامعة الإسلامية الكبرى) لمن كان من فرسان العلوم (الإفرنجية) فتترعرع من اليوم الطائفة القويمة، وبعد قليل من السنين تخرج الشعب المصري إن شاء الله من الظلمات إلى النور ومعه إخوانه من عرب وعجم؛ لأن الإسلام جسم واحد، متى صلح عضو منه صلحت باقي الأعضاء. فهكذا تدرجت قبلكم الشبيبة الألمانية؛ لخلاص شعوبهم من الجهل والضعف، فسافرت واغتربت وتعبت، ثم اتحدت على مبادئ متينة أساسها خدمة الأوطان وخدمة اللغة الألمانية. فبأعمالها تكونت الوحدة الجرمانية الكبرى التي ترهب الآن كل متكبر عنيد، وقد تبعتها الشبيبة الإيطالية ثم اليابانية، فعملت عملها، فكونوا مثلهم واتصلوا إلى أرقى مما وصل إليه الجميع. فإن تحصلتم على العلوم لأجل تنوير معاني الكتاب الكريم، وطهرتم نفوسكم بمحاسن الآداب المحمدية في آن واحد، استفدتم وأفدتم، وسهل الله لكم الأعمال، وأعلى شأنكم بين العباد، وإلا فإن بقيتم على حالتكم منقسمين {كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} (المؤمنون: ٥٣) هذا متمسك بالجمود على القديم العقيم، وذاك بالتهافت على الجديد المبني على الفاسد، فلا تلوموا إلا أنفسكم إذا أزمنتم فيما نحن فيه من الارتباك والفوضى. {إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ} (الرعد: ١١) . ... ... ... ... ... ... ... القاهرة في ٢٢ رجب الحرام ... ... ... ... ... ... ... محمود سالم