في أول سنة من مبعوثيته وقعت حادثة ٣١ مارث الشهيرة، فحوصر المجلس من قِبل العسكر بحجة الارتجاع عن الدستور، وهددوا المبعوثين بالرصاص حتى إنه قتل أحدهم (محمد بك أرسلان) مبعوث اللاذقية رميًا بالرصاص في باب المجلس، ومنهم من رمى نفسه من أحد النوافذ العالية حتى تحطم خوفًا على نفسه من القتل، وفر كثير من المبعوثين حفظًا لحياتهم، وبقي المترجم - رحمه الله تعالى - مع بضعة أشخاص ثابتي الجأش، غير مبالين بتلك القوة الهائلة التي تهددهم، وهم يخابرون المراكز بالتلفون ويذكرون الوقعة وما هم فيه، حتى كادت تلك القوة أن تقضي على بقية المبعوثين، ثم خرج المترجم يخترق صفوف العساكر بلا اكتراث، حتى وصل إلى منزله وانفض الجمع. هذا الثبات في مثل هذا الموقف الحرج مما يدل على شجاعته وقوة يقينه. على أثر هذه الحادثة التي شاع خبرها حتى بلغ الرومللي مكبرًا , زحف محمود شوكت بجيوشه ليضرب الآستانة؛ لحماية الدستور، ولينكل بالارتجاعيين وينتقم ممن أثاروا هذه الفتنة، فأرسلت الحكومة إذ ذاك هيئةً مؤلفةً من الأعيان والمبعوثين لمقابلة الباشا وإبلاغه حقيقة الحال، فكان صاحب الترجمة من أعضاء تلك الهيئة الموقرة، فاستقبلوه في (إياستفانوس) من ضواحي الآستانة، وأوقفوه على جلية الخبر الشائع، ولطفوه في سمعه حتى سكت غضبه وسكن جأشه ودخل بغير إزعاج لأحد. وفي أثناء تلك المدة - أعني الدورة الأولى لمجلس المبعوثين - أصدر المترجم جريدةً عربيةً في الآستانة، سماها (الحضارة) بشركة شاكر بك الحنبلي , ثم انسحب هذا الأخير منها إذ تعين متصرفًا للواء عكا بعد إنذار الحكومة له. وكان السبب في إنشاء تلك الجريدة أنه لما بلغ الاتحاديون ما بلغوا من الأثرة والاستبداد وتسميم الأفكار بالجرائد التي أنشأوها لبث أفكارهم السوءى، وتصويرهم المحال بصورة الحقائق - تأسس الحزب الحر المعتدل لمعارضتهم، وكان معظم مؤسسيه من مبعوثي العرب، وحزب الائتلاف وكان معظم مؤسسيه من الترك، ثم امتزج الحزبان باسم حزب الحرية والائتلاف، وكان المترجَم من مؤسسي الحزبين المذكورين لمعارضة حزب الاتحاد والترقي، فأصدر جريدته (الحضارة) باللغة العربية للمحافظة على مبدئه الثابت، وهو الاعتدال المحض حتى كان رفاقه يلومونه لشدة هذا الاعتدال والتروى، وحتى إن كبار الاتحاديين كانوا يعجبون من اعتداله مع معارضته لرأيهم، وكان كثير منهم يقول: ليت جميع المعارضن مثل هذا الحر المعتدل. ... ... ... ... * والفضل ما شهدت به الأعداء * وفي أثناء تلك المدة أيضًا وقع اضطراب واختلال في الروملي، فعينت الحكومة يومئذ لجنةً من الأعيان والمبعوثين للكشف عن أحوال تلك البلاد، وكان المترجم - رحمه الله - من أعضاء تلك اللجنة. وفي أثناء مدته نشبت الحرب في طرابلس الغرب , فصعد المترجم منبر الخطابة في المجلس وهيج الخواطر وحرك السواكن ثم أجهش في البكاء، فقال له بعض الحاضرين من المبعوثين: لا تبكِ فإننا سنستردها، فقال: أنا لا أبكي على طرابلس الغرب، ولكنني أبكي على الروملي وسورية والحجاز والعراق. من تأمل هذه الجملة الجوابية منه يعلم أنه قد لمح من وراء حجب الغيب ما سيكون في المستقبل استنباطًا حدسيًّا من سوء تدبير من بيدهم الحل والعقد، وقد اتفق مثل هذا لغيره من أصحاب الروية، والحدس، فوقع ما توقعوه، ولله الأمر من قبل ومن بعد. في مدة إقامته في الآستانة سواء كان مبعوثًا أو لم يكن، كان بيته مجمع الفضلاء والأدباء على اختلاف لغاتهم، والكبراء مع تفاوت رتبهم، يستمدون من آرائه السديدة، عرف هذا من شاهده بالعيان حتى كانت جلساته على مراتب، لكل فريق وقت يقضيه، فيأتي فريق آخر حتى تنقضي الساعة السابعة بل الثامنة من الليل. وكان مع كل هذا لا يأخذه ملل ولا ضجر ولا سآمة مما يدل على سعة صدره، وحسن مجلسه. في أواخر هذه الدورة للمجلس حصلت مناقشة بشأن المادة ٣٥ من القانون الأساسي، ووقع الخلاف الشديد حتى آل الأمر إلى فض المجلس وتجديد الانتخاب ثانيةً، فعاد المترجم - رحمه الله تعالى - إلى وطنه وزيارة أهله وذويه، فأوحت الحكومة الاتحادية إلى جميع المراكز، وأوعزت للحكومات أن يكون انتخاب المبعوثين ممن لا يخالف رأيهم، وكانت تواصل التلغرافات والمندوبين للمراكز بالوعد والوعيد، والتخويف والتهديد، ولهذه الأحوال وشدة الضغط ما تمكن الأهالي من انتخاب المترجم؛ لأن حريتهم سلبت حتى امتنع كثير من التصويت. على أثر ذلك سافر إلى الآستانة للقيام بأشغال الجريدة، فانعقد المجلس من مبعوثين صار تعيينهم من قِبل الاتحاديين في الباطن، وإن كان في الظاهر بالانتخاب. ثم تغلب حزب الائتلاف على حزب الاتحاد وتشكلت الوزارة، ففضوا ذلك المجلس الجديد، فعاد المترجَم إلى وطنه، فوقعت حرب البلقان، فصرف النظر عن الانتخاب إلى أن تضع الحرب أوزاراها. في ذلك الأوان سافر إلى مصر فانتخب من حزب اللامركزية المؤلف هناك رئيسًا للمؤتمر الذي انعقد في باريس؛ لأجل مطالبة الحكومة التركية بإصلاح بلاد العرب وإعطاء هذه الأمة المهضومة حقها القانوني المهضوم، وقد طبعت مقررات المؤتمر والخطب التي ألقيت فيه، فلا حاجة إلى بيان ذلك. وفي أثناء إقامته في باريس كان محل إعجاب الجميع في اعتداله، فإذا طالعت تلك المقررات المطبوعة، وتلوت ما فاه به - رحمه الله - حكمت له بذلك الاعتدال، وبأن ذلك الإعجاب به كان بحق، وحسبك شهادة الأجانب، فإن جريدتي المانان والطان - وهما من أكبر الصحف الفرنسية وأشهرها - قالتا كما نقلته الجرائد المصرية والسورية في ذلك الحين: (إن السيد عبد الحميد أفندي الزهراوي كان للمؤتمر بمثابة الدماغ من الجسد) وذلك بمناسبة ترؤسه للمؤتمر وحسن إدارته له. وكان مدة إقامته في باريس موضع التبجيل والاحترام، واجتمع بالمسيو بيشرن ناظر خارجية فرنسة في مقر النظارة، فأعجب به غاية الإعجاب وأنزله منزلة الإكرام. بعد إتمام وظيفة المؤتمر انفض أعضاؤه وبقي المترجَم - رحمه الله تعالى - هناك مع نفر من رفاقه، مطالبين بالإصلاح العربي، فاضطرت الحكومة الاتحادية للتحيل على جلبهم، فأرسلت مِن قِبلها مدحت باشا شكري البك، الكاتب العمومي لمركز الاتحاديين، والمرحوم عبد الكريم الخليل للسعي لإرضائهم ورجائهم؛ خدعةً ومكرًا منها، فعادا بالخيبة وما نالا غايةً ولا مقصدًا، فأعادوهما ثانيةً وأدنوا لهما بوعد جماعة المؤتمر بإجابتهم إلى ما يلزم من الإصلاحات للبلاد العربية، فوعدا وأقسما بالأيمان على ذلك، فحضر عندها المترجَم إلى الآستانة اعتمادًا على أيمانهم الكاذبة المبنية على الخداع والمكر، وعين عضوًا في مجلس الأعيان ليشرف على إنجاز وعدهم، فبقي ينتظر تلك المواعيد الفارغة (وناهيك بمهارة الأتراك بالمواعيد) إلى أن نشبت الحرب العامة بسوء تدبير الرؤساء الذين أهلكوا الحرث والنسل، وضيعوا ذلك الملك العظيم من أيديهم، وكان من لوازم ذلك إعلان الإدارة العرفية في البلاد، فجعل جمال باشا قائدًا عامًّا في سورية بصلاحية واسعة لتنفيذ أوامر الجمعية الخادعة بالإصلاح الذي كانت تنويه، وهو الانتقام من مُتنوري أبناء العرب ونابغيهم، واتخذوا الحرب فرصة لتنفيذ ما تكنه صدورهم من الضغائن على هذا الجنس الشريف. صلب المترجم بدمشق الشام مع جملة من وجهاء البلاد السورية بلا محاكمة ولا سؤال عن شيء، وذلك ليلة السبت رجب سنة ١٣٣٤ هجرية , و٢٣ نيسان سنة ١٩١٦ ميلادية، وكان لسان حاله يقول: يا جزع نح وابك واندب جثة خلقت ... من يوم (قالوا بلى) للضنك والمحن وحي أهلاً وجيرانًا وآونةً ... حي الرفاق وحي سائر الوطن حبًّا بصالحهم أصبحت فديتهم ... ليقطفوا ثمرًا من راحتي جني *** (صفاته) رحمه الله كان مستجمعًا لصفات الكمال، وقورًا، ذا ذهن حاد وفكرة واسعة وذاكرة عجيبة، يتوقد ذكاءً، وملامحه أكبر دليل على ذلك، واسع الصدر سليمه، لين الجانب، بطيء الغضب، لا يقابل أحدًا بمكروه، لا يمل من جليسه كيف ما كان، ولا جليسه من محادثته، يعاشر كل إنسان على قدر علمه، أكثر أحاديثه في مجالسه بما يعود بالفائدة، لا يستغيب أحدًا، ولا يحب أن يُغتاب أحد بحضوره، قليل الكلام الفارغ، كثير التفكر، أبي النفس، شجاعًا، شديد الصبر على الشدائد، قوي اليقين بربه تعالى، كريم الخلق، جميل الخلق والهيئة، يحبه من يراه لأول وهلة، عفيف النفس، لا يبالي بزخارف الدنيا، بعيد عن الكلف، شديد البحث والتدقيق في المسائل، يتتبع الأدلة والمستندات، وقافًا عند الحق، يحب أن تكون الحجة مع غيره ما أمكن، معتدلاً في شؤونه كلها، متمسكًا بمبادئه، محافظًا عليها، عرف ذلك منه كل من عاشره حق المعاشرة. *** مكتوباته، رحمه الله كتب في مواضيع عديدة كلها فوائد، منها ما حوته جريدته (الحضارة) التي أصدرها في الآستانة ثلاث سنين، ومنها مقالات في التربية كان ينشرها في جريدة (ثمرات الفنون) البيروتية قبل إعلان الدستور، ومنها ما نشرته المؤيد، والمعلومات العربية، والجريدة، والمنبر، وخلافها من الجرائد المصرية والسورية، وكتب في مجلة المنار عدة مقالات، وله كتاب (نظام الحب والبغض) نشر منه في المنار عدة فصول، وما أكمله لموانع سياسية، ومنها رسالة في الفقه والتصوف، وهي التي نوهنا بها قبلاً، وأخرى في الإمامة، ورسالة ترجمة السيدة خديجة، سلك فيها مسلكًا غريبًا لطيفًا، أبدع فيه كل الإبداع، وأتى بكل ما يستطاع، من طالعها حق المطالعة يقف على مقدرة هذا المترجم واطلاعه وسلامة ذهنه وسلامة قلمه ودقة فكره ونزاهة سره، ولا سيما الأبحاث الأخيرة منها، وقد طبعت بمطبعة المنار، وكانت نيته أن يجعلها الحلقة الأولى لسلسلة تاريخية، فحالت دون ذلك أشغال قامت مانعًا عن إخراج هذا الفكر إلى حيز الوجود، ومنها رسالة في النحو، وأخرى في المنطق، وغيرها في علوم البلاغة: المعاني والبيان والبديع، وكتاب في الفقه بأسلوب قريب المأخذ سهل العبارة يدعم مسائله بالأدلة الدامغة [١] ، وله محاضرات كان يلقيها في بيروت وحمص أيام ذهابه إلى الآستانة وعودته منها. وله مكتوبات غير ما ذكر، بقيت مسودةً بخطه، اغتالتها أيدي الأتراك عندما أرسل من الآستانة إلى (عاليه) مركز الديوان العرفي الذي أسسه جمال باشا المخذول. وله شعر لطيف في كل باب من أبواب الشعر، ومساجلات مع بعض أصحابه، ومراسلات كلها رقاق. من ألطف شعره، القصيدة العصماء في موضوعها وحسن أسلوبها ورقة معناها، وقد أثبتُّها برمتها ليقف المطالع على رسوخ قدمه - رحمه الله تعالى - وبعد أفكاره وحسن يقينه واعتقاده، وهي هذه: لا تكذبنا يا بصر ... لا تخدعينا يا فكر إن الحقائق تحت طي النـ ... ـشر فوق المنتظر لكن برؤيتها دعاوي النـ ... ـاس تعبي من حصر وسوى سراب لم يروا ... والآل كم غر النظر أنى التصور يا حجا ... للسر في هذي الصور الكون مبني على الـ ... ـحركات كل في قدر مجموع ذر يقتضي ... كل لها ضم الأخر والأرض تجمعنا فنحـ ... ـسب أنها إحدى الكبر والشمس تعربنا لنا ... فنظنها المعنى الأغر صور تغيّر لا نعي ... صفةً لها غير الغير ويجل مصدر أمرها ... عن أن تحيط به الفكر هو مصدر بوجوده ... تقضي اشتقاقات الأثر وتحيرت في ذاته ... وصفاته فطن غرر والخبرة المثلى التبا ... عد عن دعاوٍ للخبر كم مدّعٍ لمعارف ... علياء عرف بالنكر ما أنت يا إنسان هل ... تدري دماغك لم شعر أفأنت تدرك مَن جميـ ... ـع الكون عنه قد ظهر لم ذي الدعاوي يا فتى ... أأحاط منك به البصر أأحاط منك به الحجى ... خُبرًا كما هو فانسبر أعرفت من قبل المؤثـ ... ـر كل تفصيل الأثر أعرفت هذا الفضا ... ء وما به من كل ذر دع عنك دعوى واستمع ... قولاً مفيدًا مختصر الناس عثّر في الغرو ... ر ولاجئون إلى الغرر ويرى بنو الإنسان أنـ ... ـهمو خلاصة ما فطر دعوى بها يسلون ما ... يلقون من تعب وضر فهمو رهان الكدح ما ... داموا وتلك هي السير ذو الحال نائب من مضى ... والعمر جملته خبر سيان ذي الأنعام في ... حاج الحياة وذا البشر فتسل فيما اسطعت أن ... فكرت فيما قد حضر واعبر على المقياس من ... ماض إلى ما ينتظر واعلم بأن المفلحيـ ... ـن بذي الحياة أولو العبر والكون ظرف جواهر ... والسر فيه ما ظهر