للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


الاستفتاء في حقيقة
الربا القطعي المحرم لذاته والربا الظني المنهي عنه
لسد الذريعة، والبيع والتجارة
(٤)

ليس في الشريعة الإسلامية مسألة مدنية وقع فيها الخلاف والاضطراب منذ
العصر الأول، ثم مازالت تزداد إشكالاً وتعقيدًا بكثرة بحث العلماء إلا مسألة الربا،
فهي تشبه مسألة القدر في العقائد، فأما ما جاء من النصوص القرآنية في المسألتين
فبيّنٌ كالشمس لا مجال للشبهات فيه، وأما السنة العملية القطعية في مسألة الربا
فهي تنفيذ لحكم الكتاب الإلهي، وأما الأحاديث النبوية القولية فهي قسمان: (الأول)
نص صحيح الرواية قطعي الدلالة في حصر الربا فيما حرمه الله منه في كتابه وهو
(ربا النسيئة) الذي لم تكن العرب تفهم منه غيره؛ لأنه هو المعروف عندهم دون
غيره وهو حديث أسامة المرفوع المتفق عليه (لا ربا إلا في النسيئة) هذا لفظ
البخاري ولفظ مسلم (إنما الربا في النسيئة) و (الثاني) نهي النبي صلى الله عليه
وسلم عن البيوع التي قد تؤدي إليه لسد الذريعة دون ارتكابه (كنهيه صلوات الله
وسلامه عليه وعلى آله عن خلوة الرجل بالمرأة الأجنبية سدًّا لذريعة الزنا
المحرَّم بنص كتاب الله تعالى) وهو حديث عبادة وغيره الذي كرره المفتي الهندي،
وهذا هو الذي سموه (ربا الفضل) .
ولما حرَّم الله الربا في كتابه وتوعد عليه قرن تحريمه بحِلِّ البيع وحِلِّ التجارة
التي هي أعم من البيع، فعُلم من ذلك أن حقيقة الربا المحرم غير حقيقة البيع
والتجارة المحللين، وذلك أن البيع والتجارة معاوضات في الأعيان والمنافع بين
طرفين يتراضيان باختيارهما على المبادلة فيها - وأما الربا المنصوص في القرآن
فليس فيه معاوضة بين متعاقدين في شيئين، بل هو عين يأخذه أحد الطرفين من
الآخر بغير مقابل له من عين ولا منفعة، بل لأجل تأخير قضاء دين مستحق عليه
إلى أجل جديد لعجزه عن قضائه حالاً.
وقد بيَّن بعض العلماء المستقلين في الفهم هذه المعاني كلها؛ ولكن الذين
أولعوا بتكثير الأحكام في الحلال والحرام وضعوا لأنفسهم قواعد للاستنباط ومناطات
للتشريع أدمجوا بمقتضاها الربا المحرم القطعي بالنص الإلهي - المتوعد عليه فيه
بالوعيد الشديد لما فيه من الضرر الفظيع والظلم العظيم - في البيع المنهي عنه لسد
الذريعة، إذ لا ضرر فيه يقتضي الوعيد الشديد بحسب أصول الشرع وحكمة
الحكيم الرحيم فيه، ومنهم من سوَّى بينهما، ولم يكتفوا بذلك، بل وضعوا بآرائهم
أحكامًا جديدة في الربا ليس فيها نص من الشارع قطعي ولا ظني، ولا تتفق مع
أصول الدين ولا حكم التشريع، ولا تعليل النص لتحريم الربا بقوله عز وجل:
{وَإِن تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ} (البقرة: ٢٧٩) كقولهم
إن علة الربا هي كون ما يتبايع به الناس مكيلاً أو موزونًا، فكثَّروا بذلك مسائل
الربا وخرجوا بها عن محيط المعقول والمنقول معًا، فجعلوها من التعبديات التي لا
تثبت إلا بنص صريح قطعي من الشارع وخالفوا بهذا أئمتهم وسلفهم الصالح الذين
كانوا يتقون الجرأة على التحليل والتحريم بالاجتهاد والرأي لما ورد فيه من الوعيد
الشديد في كتاب الله تعالى.
قاعدة السلف في التحريم الديني
قال الله تعالى: {وَلاَ تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ
لِّتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الكَذِبَ لاَ يُفْلِحُونَ} (النحل:
١١٦) وقال عز وجل: {قُلْ أَرَأَيْتُم مَّا أَنزَلَ اللَّهُ لَكُم مِّن رِّزْقٍ فَجَعَلْتُم مِّنْهُ حَرَامًا
وَحَلالاً قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ} (يونس: ٥٩) وقال جل جلاله:
{قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الحَقِّ وَأَن
تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَن تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ} (الأعراف:
٣٣) وقال تبارك اسمه: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} (الشورى: ٢١) يعني أن شرع الدين هو حق الله تعالى وحده حتى أن جمهور
الأئمة المحققين على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يحرِّم على الأمة شيئًا
برأيه، وأن ما ثبت عنه من تحريم شيء غير منصوص في القرآن فهو استنباط
من القرآن بما أراه الله تعالى فيه بإذن الله له فيه بمثل قوله: {إِنَّا أنزَلْنَا إِلَيْكَ
الكِتَابَ بِالحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ} (النساء: ١٠٥) وقوله:
{وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} (النحل: ٤٤) مثال ذلك تحريمه
صلى الله عليه وسلم الجمع بين المرأة وعمتها أو خالتها في النكاح أخذه صلى الله
عليه وسلم من تحريم الجمع بين الأختين لعلمه بأن علتهما وحكمتهما عند الله تعالى
واحدة، وتحريمه الشرب والأكل في آنية الذهب والفضة أخذه من قوله تعالى:
{وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلاَ تُسْرِفُوا} (الأعراف: ٣١) بجعل الإسراف فيما يلابس الأكل
والشرب كالإسراف فيهما كما يظهر لنا، وأما نهيه صلى الله عليه وسلم عن أكل
ذوات الناب والمخلب من الوحش والطير المخالف لنصوص القرآن من حصر
محرمات الطعام في أربع، فهو للكراهة لا للتحريم كما فصلناه في تفسير {قُل لاَّ
أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ} (الأنعام: ١٤٥) الآية فكل ما
زاده الفقهاء على ما ذكر بقياس جميع أنواع استعمال الذهب والفضة على الأكل
والشرب ينافي هذا الاستنباط على مخالفته للنص، فمن اعتقده فله أن يعمل به في
نفسه؛ ولكن ليس له جعله حكمًا عامًّا للأمة، فيكون تشريعًا لم يأذن به الله، وهو
مما عدَّه الله تعالى شركًا في آية (الشورى: ٢١) وفي معناها قوله تعالى في أهل
الكتاب: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللَّهِ} (التوبة: ٣١) روى
أحمد والترمذي وابن جرير في حديث إسلام عدي بن حاتم وكان نصرانيًّا أنه
سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ هذه الآية، فقال له: إنهم لم يعبدوهم، فقال
صلى الله عليه وسلم: (بلى إنهم حرَّموا عليهم الحلال، وأحلوا لهم الحرام
فاتبعوهم، فذلك عبادتهم إياهم) وله ألفاظ أخرى، وقال الربيع: قلت لأبي العالية:
كيف كانت تلك الربوبية في بني اسرائيل؟ قال: إنهم ربما وجدوا في كتاب الله ما
يخالف قول الأحبار، فكانوا يأخذون بأقوالهم وما كانوا يقبلون حكم كتاب الله تعالى.
وقال الرازي في تفسيره بعد ذكر هذا الحديث والأثر في الآية: قال شيخنا
ومولانا خاتمة المحققين والمجتهدين رضي الله عنه: قد شاهدت جماعة من مقلدة
الفقهاء قرأت عليهم آيات كثيرة من كتاب الله تعالى في بعض المسائل، وكانت
مذاهبهم بخلاف تلك الآيات، فلم يقبلوا تلك الآيات ولم يلتفتوا إليها، وبقوا ينظرون
إلي كالمتعجب، يعني كيف يمكن العمل بظواهر هذه الآيات مع أن الرواية عن
سلفنا وردت عن خلافها، ولو تأملت حق التأمل وجدت هذا الداء ساريًا في عروق
الأكثرين من أهل الدنيا اهـ.
وأقول: قد ذكرت في (رسالة اختلاف الأمة وسيرة الأئمة) التي بيَّنت فيها
مزايا كتابَي المغني والشرح الكبير في الفقه الإسلامي، ثم جعلتها خاتمة لكتاب
(يسر الإسلام وأصول التشريع العام) أن أئمة الأمصار وغيرهم من علماء السلف لم
يكونوا يجزمون بتحريم شيء على سبيل القطع وجعله تشريعًا عامًّا إلا إذا ثبت
عندهم بنص قطعي الرواية والدلالة، وأوردت الشواهد من سيرتهم في ذلك، ثم
إنني وجدت نصًّا لفظيًّا صريحًا في الموضوع أعم مما ذكرت، وهو ما في كتاب
الأم للإمام الشافعي رضي الله عنه فإنه قال في مسألة (سبايا الملك) من (كتاب
سير الأوزاعي) ما نصه (ص٣١٩ ج٧) .
(قال أبو حنيفة رحمة الله تعالى: إذا كان الإمام قد قال: من أصاب شيئًا فهو
له - فأصاب جارية لا يطؤها ما كان في دار الحرب، وقال الأوزاعي: له أن
يطأها، وهذا حلال من الله عز وجل بأن - ولعله قال: فإن - المسلمين وطئوا مع
رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أصابوا من السبايا في غزاة بني المصطلق قبل أن
يقفلوا، ولا يصح للإمام أن ينفل سرية ما أصابت ولا ينفل سوى ذلك إلا بعد
الخمس؛ فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم أسوة حسنة كان ينفل في البدأة الربع،
وفي الرجعة الثلث.
(قال أبو يوسف: ما أعظم قول الأوزاعي في قوله: (هذا حلال من الله)
أدركت مشايخنا من أهل العلم يكرهون في الفتيا أن يقولوا هذا حلال وهذا حرام، إلا
ما كان في كتاب الله عز وجل بينًا بلا تفسير. حدثنا ابن السائب عن ربيع بن خيثم
وكان أفضل التابعين أنه قال: إياكم أن يقول الرجل إن الله أحل هذا أو رضيه،
فيقول الله له: لم أحل هذا ولم أرضه، ويقول إن الله حرَّم هذا [١] ، فيقول الله:
كذبت لم أحرم هذا ولم أَنْهَ عنه. وحدثنا بعض أصحابنا عن إبراهيم النخعي أنه
حدث عن أصحابه أنهم كانوا إذا أفتوا بشيء أو نهوا عنه قالوا: هذا مكروه، وهذا لا
بأس به، فأما أن نقول: هذا حلال وهذا حرام، فما أعظم هذا؟) اهـ.
هذا ما نقله الشافعي عن أبي يوسف، ثم نقل عنه أن ما قاله الأوزاعي من
حِل السبية فهو مكروه، وهو تفسير لقول أبي حنيفة (لا يطؤها ما كانت في دار
الحرب) ولم يستحل أحدهما أن يقول: هذا حرام، وقد ردَّ الشافعي هذا القول
وصحح قول الأوزاعي؛ ولكنه لم ينكر ما نقله أبو يوسف عن السلف في التحليل
والتحريم؛ وإنما صحح قول الأوزاعي بأن دار الحرب لا تحرِّم ما أحلَّ الله من
السبي والغنائم في أول سورة الأنفال وفي آية الخمس منها، ثم قال: (فإن الخمس
في كل ما أوجف عليه المسلمون من صغيره وكبيره بحكم الله إلا السلب للقاتل في
الإقبال الذي جعله رسول الله صلى الله عليه وسلم لمن قتل اهـ. وتراجع عبارته
هنالك، فإنما غرضنا هنا أن الشافعي موافق مقر فيما يظهر لما نقله أبو يوسف من
سيرة السلف في اجتناب التحليل والتحريم إلا ما كان في كتاب الله بينًا بنفسه لا
يحتاج إلى تفسير، والشافعي ممن قالوا: إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقل في
الدين شيئًا إلا من كتاب الله تعالى، على أنه لا يضيره أن يخالفه هو أو غيره
بالتحريم الديني بالقياس.
فالحق أن القياس غير حجة في التعبديات ولا إثبات عبادة ولا تحريم ديني لم
يرد به نص صريح من الشارع كما بيَّنا في التفسير وغيره ولا سيما كتاب (يسر
الإسلام وأصول الشرائع العام) .
وبهذا أخذ علماء الأصول في تعريفهم للفرض أو للإيجاب بأنه خطاب الله
المقتضي للفعل اقتضاء جازمًا، وتعريفهم للحرام بأنه خطاب الله المقتضي للترك
اقتضاء جازمًا، وقد مثلنا لهذا في تلك الرسالة وغيرها بأن آية البقرة في الخمر
والميسر تدل على طلب تركهما دلالة ظنية راجحة؛ ولكن رسول الله صلى الله عليه
وسلم لم يجعلها تشريعًا عامًّا موجبًا لتركهما على الأمة حتى إذا ما أُنزلت آيات سورة
المائدة الصريحة في الأمر باجتنابهما تركهما جميع الصحابة رضي الله عنهم، وصار
رسول الله صلى الله عليه وسلم يعاقب من شرب الخمر، وكذلك خلفاؤه من بعده.
(فإن قيل) إن ما ذكرت مخالف لقول جمهور علماء الامة من أن الأدلة
القطعية إنما تشترط في العقائد وأصول الدين، وإن الأحكام العملية تثبت بالأدلة
الظنية، وإن علماء الأصول أدخلوا القياس في تعريف الإيجاب بأنه خطاب الله
المقتضي للفعل اقتضاء جازمًا، وتعريف التحريم بأنه خطاب الله المقتضي للترك
اقتضاء جازمًا بقولهم إنه دليل على خطاب الله تعالى المقتضي لذلك.
(قلت) إن القياس الأصولي المعروف ليس من خطاب الله تعالى الذي ذكره
الإمام أبو يوسف وغيره في موضوعنا، ولا مما هو أعم منه، وليس دليلاً عليه
أيضًا وأما ما أدخلوه في القياس الجلي من الأحكام التي نص الشارع على علتها أو
قطع فيها بنفي الفارق فمنكر وحجية القياس شرعًا لا يسمونه قياسًا، بل يدخلونه في
معاني النص من منطوق أو مفهوم، ويجد القارئ تفصيل هذا البحث في كتاب
(يسر الإسلام وأصول التشريع العام) وإنما ذكرناه هنا مقدمة تمهيدية وسيعاد عند
ذكر المسائل العملية المتعلقة بالربا في آخر هذا البحث، إذا تمهد هذا أقول:
ربا الجاهلية المحرَّم بالقرآن
كان الربا معروفًا عند العرب في الجاهلية بالمعنى الذي ذكرناه، وسننقل
الشواهد عليه فليس هو من الاصطلاحات الشرعية الحادثة في الإسلام، وقد ذكره
تعالى في سورة الروم المكية التي نزلت قبل الهجرة ببضع سنين بالذم مقرونًا بمدح
الزكاة قبل فرض الزكاة الذي كان في السنة الثانية من الهجرة وقبل تحريمه (الربا)
بالنهي الصريح عنه في أواخر سني الهجرة، ثم بالوعيد الشديد عليه في آخر ما
نزل من القرآن؛ وإنما جاء في السور المكية بيان أصول الواجبات والمحرمات
بوجه إجمالي (كآية الأعراف: ٣٣) .
قال تعالى في سورة الروم: {وَمَا آتَيْتُم مِّن رِّبًا لِّيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلاَ
يَرْبُو عِندَ اللَّهِ وَمَا آتَيْتُم مِّن زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ المُضْعِفُونَ} (الروم:
٣٩) .
ثم قال في سورة آل عمران: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافاً
مُّضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (آل عمران: ١٣٠) قال بعض العلماء: إن
تحريم الربا كان سنة ثمان أو تسع من الهجرة، وأسقط النبي صلى الله عليه وسلم
ربا الجاهلية في حجة الوداع سنة عشر.
ثم نزلت آيات سورة البقرة المشتملة على الوعيد الشديد قبل وفاة النبي صلى
الله عليه وسلم بقليل، فكانت مع آية الوصية العامة بالتقوى المتصلة بها آخر ما
نزل من القرآن كما رواه البخاري في كتاب البيوع وكتاب التفسير من صحيحه،
وقد روي أنه صلى الله عليه وسلم مكث بعدها سبع ليالٍ، وقيل تسعًا، وقيل ٢١
كما ذكره الحافظ في الفتح، وروى أحمد وابن ماجه نحو هذا عن عمر رضي الله
عنه، وزاد عليه أنه صلى الله عليه وسلم لم يقل فيها شيئًا.
هذا، وإن ومن أصول التشريع أن الوعيد الشديد لا يكون إلا على كبائر
الإثم والفواحش التي يعظم ضررها ومفاسدها؛ ولكن المفتي الهندي الحنفي اعتمد
في فتواه قول من قال من فقهاء مذهبه وغيرهم: إن لفظ الربا فيها مجمل بيَّنه النبي
صلى الله عليه وسلم بنهيه عن بيع الأجناس الستة إلا يدًا بيد مثلاً بمثل كما تقدم
شرحه، ومقتضاه أن من صرف قطعة الريال من الفضة بالأربع القطع المساوية لها
في الوزن مع تأخير القبض يكون ظالمًا محاربًا لله ولرسوله بنص القرآن وملعونًا
مرتكبًا لإحدى كبائر الموبقات بنص الأحاديث الصحيحة الواردة في حظر الربا -
فهل يُعقل هذا في دين الرحمة وسنة نبي الرحمة؟ فنحن نورد ما يخالف رأيه
والأقوال التي احتج بها، ثم نلخص الموضوع في مسائل معدودة، فنقول:
أقوال أئمة الفقه والتفسير والحديث في الربا والبيع
قد تقدم أن الاساس الذي بنى عليه المفتي الهندي الفاضل فتواه هو أن لفظ
الربا في آية البقرة مجمل لا يُعلم المراد منه إلا ببيان الكتاب أو السنة، وأن هذا
البيان هو حديث عبادة وأبي موسى وغيرهما في بيع الأشياء الستة كما تقدم،
ولذلك كان ربا القرآن هو عين الربا المراد بهذا الحديث لا معنى له غيره.
والحق أن القول بأن لفظ الربا في الآيات مجمل، قول ضعيف مرجوح، وأن
أكثر علماء الأمة المجتهدين والمنتسبين إلى المذهب المشهور على خلافه، فزعمه
اتفاقهم عليه باطل، بل ذكره بعضهم احتمالاً وردَّ الآخرون هذا الاحتمال وجزموا
ببطلانه، وأنه على فرض كونه مجملاً لا يصح أن يكون حديث عبادة في بيع
الأشياء الستة يدًا بيد مثلاً بمثل بيانًا له؛ لأن هذا الحديث في الصرف وما في معناه
ولا تنطبق عليه نصوص الآيات في أحكامها ولا في حكمتها، ولا في تعليلها، ولا
في وعيدها، فهو قد خرج بها عن موضوعها من كل وجه، وجمهور علماء السلف
والخلف على أن الربا في جميع الآيات مراد به ربا الجاهلية، وأنه كان في تأخير
الديون المؤجلة، فإن شمل غيرها فإنما يشمله بعموم اللفظ، ونحن نورد الشواهد
على صحة قولنا من الكتب المشهورة المعتبرة حتى كتب بعض الحنفية أنفسهم الذين
اعتمد المفتي الهندي على أقوال بعضهم دون بعض، ثم نحقق أصل الموضوع كما
وعدنا، وإن كنا قد سبقنا إلى هذا التحقيق في تفسيرنا للآيات من زهاء ربع قرن
كما يراه القارئ في الجزء الثالث من تفسير المنار، فعسى أن يكون ما نحققه أتم
وأبين بما فيه من التطبيق ورد الشبهات والرجوع إلى أصول التشريع.
(١) ما قاله الإمام الشافعي في البيع:
ذكر بعض العلماء عن الإمام الشافعي أن لفظ (البيع) في القرآن مجمل بيَّنته
السنة، وقالوا عنه: إن لفظ (الربا) مجمل مثله، نقل ذلك المفتي الهندي عن
الرازي، وأنه اختاره؛ ولكن الشافعي ذكر في الأم أن لفظ (البيع) عام أُريد به
الخاص، ويُحتمل أن يكون مجملاً، وترجيحه للأول هو المصرح به في كتب فقهاء
الشافعية، وهذا نص عبارته في كتاب البيع (ص٢ج٣) :
أخبرنا الربيع قال أخبرنا الشافعي رحمه الله قال قال الله تبارك وتعالى: {يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنكُمْ} (النساء: ٢٩) وقال الله تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ البَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} (البقرة:
٢٧٥) (قال الشافعي) وذكر الله البيع في غير موضع من كتابه بما يدل على
إباحته، فاحتمل إحلال الله عز وجل البيع معنيين، أحدهما: أن يكون أحل كل بيع
تبايعه المتبايعان جائزي الأمر فيما تبايعاه عن تراضٍ منهما، وهذا أظهر معانيه.
(والثاني) أن يكون الله عز وجل أحل البيع إذا كان مما لم ينه عنه رسول
الله صلى الله عليه وسلم المبين عن الله عز وجل معنى ما أراد، فيكون هذا من
الجمل التي أحكم الله فرضها بكتابه وبيَّن كيف هي على لسان نبيه، أو من العام
الذي أراد به الخاص، فبيَّن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أُريد بإحلاله منه وما
حرَّم، أو يكون داخلاً فيهما، أو من العام الذي أباحه إلا ما حرَّم على لسان نبيه
صلى الله عليه وسلم منه وما في معناه، كما كان الوضوء فرضًا على كل متوضئ
لا خُفين عليه لبسهما على كمال الطهارة، وأي هذه المعاني كان فقد ألزمه الله تعالى
خلقه بما فرض من طاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن ما قبل عنه فعن
الله عز وجل قبل؛ لأنه بكتاب الله تعالى قبل، (قال) فلما نهى رسول الله صلى
الله عليه وسلم عن بيوع تراضى بها المتبايعان استدللنا على أن الله عز وجل أراد
بما أحل من البيوع ما لم يدل على تحريمه على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم دون
ما حرَّم على لسانه.
(قال الشافعي) فأصل البيوع كلها مباح إذا كانت برضا المتبايعين الجائزي
الأمر فيما تبايعا إلا ما نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم منها، وما كان في
معنى ما نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم محرم بإذنه داخل في المعنى
المنهي عنه، وما فارق ذلك أبحناه بما وصفنا من إباحة البيع في كتاب الله تعالى
اهـ.
(٢) ما نقله الحافظ في عموم لفظ البيع:
قال الحافظ ابن حجر في شرح أول كتاب البيع وقول الله تعالى: {وَأَحَلَّ
اللَّهُ البَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} (البقرة: ٢٧٥) وقوله: {إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً
تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ} (البقرة: ٢٨٢) من صحيح البخاري ما نصه: (والبيوع جمع
بيع، وجُمع لاختلاف أنواعه، والبيع نقل ملك إلى الغير بثمن، والشراء قبوله،
ويُطلق كل منهما على الآخر، وأجمع المسلمون على جواز البيع، والحكمة تقتضيه
لأن حاجة الإنسان تتعلق بما في يد صاحبه غالبًا، وصاحبه قد لا يبذله له، ففي
تشريع البيع وسيلة إلى بلوغ الغرض من غير حرج، والآية الأولى أصل في جواز
البيع، وللعلماء فيها أقوال أصحها أنه عام مخصوص؛ فإن اللفظ لفظ عموم يتناول
كل بيع فيقتضي إباحة الجميع لكن قد منع الشارع بيوعًا أخرى وحرمها، فهو عام
في الإباحة مخصوص بما لا يدل الدليل على منعه، وقيل: عام أريد به الخصوص،
وقيل: مجمل بينته السنة، وكل هذه الأقوال تقتضي أن المفرد المحلى بالألف واللام
يعم، والقول الرابع: إن اللام في (البيع) للعهد، وأنها نزلت بعد أن أباح الشرع
بيوعًا وحرم بيوعًا فأريد بقوله: {وَأَحَلَّ اللَّهُ البَيْعَ} (البقرة: ٢٧٥) أي الذي
أحله الشرع من قبل، ومباحث الشافعي وغيره تدل على أن البيوع الفاسدة تسمى
بيعًا، وإن كان لا يقع بها الحنث لبناء الأيمان على العرف، والآية الأخرى تدل على
إباحة التجارة في البيوع الحالة، وأولها في البيوع المؤجلة اهـ.
(للبحث بقية)
((يتبع بمقال تالٍ))