للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


الحياة الزوجية
(١)

{وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً
وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُون} (الروم: ٢١) .
{وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ} (البقرة:٢٨) .
الأزواج تلد الأفراد، ومن الأفراد والأزواج تتألف الأمم والشعوب، يجتمع
فردان فيكونان زوجًا، ولفظ الزوج يطلق على كل واحد منهما؛ لأن الزوجية
تحققت به للآخر كما تحققت بالآخر له؛ فالزوجان كونا حقيقة الزوجية؛ فهما حقيقة
واحدة ظهرت في صورتين، وروح واحدة انبثت في جسدين، وبناء واحد أقيم
بركنين، بل هما حقيقة الإنسانية الكاملة، وكل واحد منهما جزء لها، لو وجد وحده
لما وجدت الإنسانية، ولو هدم بناء وحدتهما بعد وجوده لما بقيت لها بقية {خَلَقَكُم
مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً} (النساء: ١) .
هؤلاء الرجال والنساء الكثيرون هم الأمة؛ فالأمة أثر الزوجية وحياتها
العزيزة تابعة للحياة الزوجية؛ فإذا كانت البيوت التي يعمرها الأزواج ويبثون منها
الأفراد في عيشة راضية وحياة طيبة خرج منها أولئك الأفراد أحياء، وكونوا بيوتًا
يكون مجموعها بلادًا، ومدائن، وقرى، ومزارع يطلق على عمارها لفظ الأمة
والمكوَّن من الأجزاء الحية يكون حيًّا بحياتها، فالحياة الزوجية الطيبة هي الأصل
في حياة الأمة، والنظر في الأصل مقدم على النظر في الفرع.
الفطرة البشرية هادية إلى الزوجية بكمال معناها، وإلى أثرها في نفس
الزوجين؛ وفي آلهما، وفيما يرزقان من الولد، فهي تسوق كل رجل إلى طلب
الازدواج بامرأة، وكل امرأة إلى قبول الاتحاد مع رجل، وهي التي تربط قلبيهما
وتمزج نفسيهما وتوحد مصلحتيهما، وتجعل الصلة بينهما أقوى من كل صلة بين
اثنين في هذا العالم، حتى يسكن كل منهما إلى الآخر عند كل اضطراب، ويأنس
به ما لا يأنس بالأهل والأصحاب، وهي التي تنقل المودة منهما إلى أهل كل منهما
حتى تكون كل عشيرة عونًا للأخرى على دفع مضار الحياة، وجلب منافعها، وهي
التي تربي عاطفة الرحمة فيها بالتعاون على تربية الولد فتنمو هذه الرحمة فيهما حتى
ينتفع بها من يعجز منهما عن مساعدة الآخر في الشؤون المشتركة لضعف أو
عجز؛ فيرى عاطفة الرحمة قد نابت عن عاطفة سكون النفس إلى الإنتاج، وعن
الإحساس بالحاجة إلى التعاون.
لكن الإنسان قد أُعطي من القوى ما يمكِّنه من التصرف في الميل الفطري،
فيحوله عن جادته، ويسلك به المجاهل والشعاب؛ فيضل ويردى؛ لذلك بغى
الرجال على النساء في عصور لا يعرف التاريخ أولها، واعتزوا عليهن بالقوة حتى
ألزموهن بالكيد والمكر، والكذب والخلابة، والتصنع والدهان؛ فأشقوهن وشقوا
معهن في أنفسهم وفي أولادهم؛ فساءت حالة البيوت؛ وساءت بها حالة الأمم
والشعوب؛ فجاء الدين مرشدًا إلى الرجوع بالفطرة إلى جادتها، بل العناية بتكميلها
وترقيتها، ثم بغى الناس في الدين، كما بغوا في الفطرة حتى عميت علينا تعاليم
أكثر الأديان، وحسبنا ما حفظناه من هداية القرآن.
يندفع الرجل لهضم حقوق المرأة بدافع الإحساس والشعور بقوته عليها
وحاجتها إليه؛ ودافع الاعتقاد بأنه سيدها وهي خادمته المسخرة، أو متاعه المملوك،
فأما الشعور بالقوة فهو آلة البغي في البشر، ولولا أن للرجل شعورًا آخر بحاجته
إلى المرأة، وميله إليها يعارض ذلك الشعور الدافع إلى البغي عليها فيكسر من
سورته- لكان البلاء أعظم والشقاء أشد. وكان يجب عليه أن يجعل عقله مؤدبًا
للشعور الدافع إلى الشر، ومؤيدًا للشعور السائق إلى الحسنى، لولا ما يعرض للعقل
من الخطأ في الاعتقاد فيخرج به عن الصواب؛ إذ يعتقد أن له الحق في أن يعامل
المرأة بما يسوقه إليه طبعه الفاسد، ورأيه الباطل، ولا سعادة في الزوجية ولا للأمة
إلا إذا صح اعتقاد الرجال؛ فعلموا أن المرأة هي شطر الحقيقة الإنسانية والرجل هو
الشطر الآخر، وأنه يجب أن يكون كل منهما متممًا لعمل الآخر في الوجود فيما
يشتركان فيه، وعونًا له على ما تختلف فيه وظيفتهما مع ملاحظة جهة الوحدة، كما
تساعد إحدى اليدين أختها، وتتم كل من الرجلين سعي صاحبتها، وكما يؤدي العقل
وظيفة الفكر، والقلب وظيفة الشعور والوجد، وكما تسمع الأذن، وتبصر العين.
والغرض من عمل كل عضو واحد وهو مصلحة الشخص؛ فإذا قام بناء الزوجية
على هذا الأساس كان بناء الأمة الذي يتألف من الأزواج، والأفراد التي ينسلها
الأزواج لتكون أزواجًا في البيوت متفرقة، وأمة في البيوت مجتمعة بناء محكمًا
رصينًا.
إذا فسد الشعور القلبي، والاعتقاد العقلي في الأمة؛ فنقضت ما أبرمته الفطرة
من ميثاق الزوجية حتى صارت المعاملة بين الأزواج كالمعاملة بين التجار والصناع
والأُجراء؛ يؤدي كل واحد من حقوق الآخر ما يمكنه من استخدامه مع ظلم القوي
للضعيف، ومكر الضعيف وخداعه للقوي - فالواجب المبادرة إلى معالجة هذا
المرض، فإن انتشاره في الأمة وباء مجتاح، وخسران لا يرجى معه نجاح؛ لأن
من يضيع حقوق أشد الناس صلة به، بل من كان متممًا لمعناه وحقيقته ومسوقًا هو
إلى حبه بمقتضى غريزته - فكيف يرجى أن يقوم بحقوق من لا يتصل به إلا بصلة
بعيدة هي فرع تلك الصلة القريبة؟ وإذا لم يقُم كل فرد من الأفراد بما عليه من
الحقوق الخاصة والعامة فكيف تتكون الأمة وتتحد على دفع الأذى، وتتعاون على
المصالح حتى تبلغ المدى؟
معالجة النفوس أعسر من معالجة الأبدان، ومعرفتها أغمض وأدق،
والإحساس بالأمراض الروحية أخفى من الإحساس بالأمراض الجسدية، لذلك كانت
الأمراض الروحية في الأفراد والجمعيات أكثر من الأمراض البدنية.
لا يتم علاج النفس المريضة إلا بإصلاح العقل والقلب معًا، وذلك بإقناع
العقل بما تقدم الإلماع إليه من معنى الزوجية، ومكانة كل واحد من الزوجين من
الآخر وبتربية شعور القلب ووجدانه تربية صحيحة مبنية على احترام ذلك المعنى
وإكباره، ليكون الوجدان مؤيدًا للفكر والاعتقاد بأن تحقق معنى الزوجية، وقيام كل
من الزوجين بحقوقها من أركان السعادة التي لا تُبنى إلا عليها. فأما تربية الكبير
على ذلك فهي متعذرة أو متعسرة، وأما إقناعه بذلك فهو سهل على العارف به ولكن
فائدة العلم بغير إذعان النفس وشعور القلب قليلة الجدوى.
إذا كان الناشئ على فساد الأخلاق وسوء الفعال لا يستطيع أن يقوِّم من نفسه
عوجها فيعامل زوجه بالحسنى التي هي أثر سكون النفس وحب القلب، فهذا لا يدل
على أن العلم بمعنى الزوجية والاقتناع بحقوقها لا يكون نافعًا بدون التربية على هذا
العلم حتى يصير وجدانًا وشعورًا؛ فإن العلم الصحيح ينازل الوجدان الفاسد،
ويبعث صاحبه على مقاومته بالتكلف حتى يزول؛ إذا لم يكن راسخًا وإلا ضعف
أثره، وحسنت الحال في الجملة؛ ولذلك ترى حياة الزوجين العالمين الفاسدي
الأخلاق أهنأ من حياة الجاهلين الفاسدين أو أقل شقاءً ونغصًا، ذلك بأن العالمين يتحبب كل منهما إلى الآخر حتى يصير التكلف حبًّا، أو تكون له أكثر ثمرات الحب وكذلك يتقي كل منهما ما يسيء قرينه بمقاومة طبعه ومغالبة ميله؛ فتكون لهما
صورة الحياة الطيبة وكثير من معناها، ثم إن الزوجين العارفين بمكان الزوجية
ووجوب مساواة الزوجين فيما عدا رياسة المنزل وزعامة العشيرة يربيان من يرزقان
من الولد على ذلك عسى أن يتم لهما في ولدهما ما فاتهما من السعادة في نفسهما.
ولولا أن العلم يكون وسيلة للتربية النفسية التي يتحد بها القلب مع العقل لما رأيت
مصلحًا يظهر في الأمة الفاسدة الأخلاق يدعوها إلى التربية كما ترى في أمتنا الآن؛
إذن نحن في حاجة إلى العلم بمعنى الزوجية وحقوقها والشروط التي تتم بها حقيقتها.
حسبنا في بيان معنى الزوجية وسرها تلك الآية التي صدَّرنا بها هذا المقال
وفي حقوقها بعض الآية التي تليها. تفيد الآية أن أركان هذه الحياة ثلاثة: أولها
سكون كل من الزوجين إلى الآخر؛ فإن المراد بالأنفس في الآية الجنس، والمراد
بالزوج ما يعم الرجال والنساء، فالحكمة الأولى للزوجية أن يكون لكل من الزوجين
وجود آخر من جنسه يسكن إليه من اضطرابه، ومثارات الاضطراب في هذه
الحياة كثيرة، وأنواع المتاعب فيها غير معدودة، وما اخترع الناس أنواع الملاهي
واللعب إلا ليقوِّموها، على أن اللعب شأن الأطفال لا شأن الرجال، وأن سكون
الزوج إلى زوجه وأنس الإنسان بشقيق نفسه وروحه وشريكه في جميع شؤون
حياته- لمما يذهب بكل اضطراب ويزيل كل وحشة؛ إذا تحققت الزوجية بكمال
معناها.
يقول المفسرون: إن العلة في أنس كل من الزوجين بالآخر، الجنسية كما
يعطيه ظاهر اللفظ في قوله: {وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا} (الأعراف:
١٨٩) وهو صحيح عقلاً وطبعًا؛ فقد خلق الله في كل من الزوجين الذكر والأنثى
جاذبًا يجذبه إلى الأخر؛ لأجل أن يتحد به، وقد يكون هذا الجذب والانجذاب في
بعض أطوار العمر مبهمًا؛ لا يتصور صاحبه الغاية الفطرية من ذلك الاتحاد؛ وهو
أن ينشأ عنه وحدة أو وحدات أخرى من الجنس، بل ولا مقدمة هذه الغاية أيضًا،
ولكن هذا التعليل لا يصدق على إطلاقه في الوجود الخارجي، كما يعقل في الوجود
الذهني؛ لا مع كل زوجين ولا مع أكثر الأزواج - كما قيل - فإن الباحثين في
حياة البيوت يقولون: إنه قلما يوجد زوجان سعيدان كل واحد منهما مغبوط بالآخر،
راضٍ به، يسكن إليه من اضطرابه، ويصفيه حبه ووده ظاهرًا وباطنًا، على أن
هذا هو غاية الكمال في سعادة الحياة الزوجية، وأنَّى للأكثرين أو الأقلين بالكمال في
هذه الحياة.
والصواب أن أكثر الأزواج في البشر يسكن بعضهم إلى بعض، ويوده مهما
كانت حالهم من فساد الفطرة، وسوء الأخلاق، والجهل بقيمة الطمأنينة والسكينة
في الحياة، ولكن لهؤلاء الأكثرين منغصات في حياتهم، هذه لها أسباب تختلف
باختلاف البلاد والأمم، وباختلاف الأفراد في التربية والعلم، والأخلاق والأفكار،
واستقصاء هذا لا يكون إلا في كتاب مستقل؛ يكون فيه باب للأزواج في القبائل
البدوية، وفي البلاد التي تقرب حال أهلها من حال البدو في السذاجة وقلة الحاجة،
وتقارب النساء والرجال في الأدب والمعرفة، وباب لأهل الحضارة العالية؛
التي عمَّ التعليم والتربية جميع أفرادها أو أكثرهم. وباب أوسع للبلاد المذبذبة التي
بعدت عن سذاجة الفطرة، ولم تصل إلى شيء من كمال العلم والصنعة، كالبلاد
الشرقية التي طاف بها طائف المدنية الغربية؛ فزلزل أخلاقها وعاداتها، وعقائدها
وأفكارها الأولى عن سعادة الحياة الزوجية وما يتبعها، فإنك تجد أكثر الذين أصابهم
هذا الزلزال في حيرة من أمر الزواج قبل الإقدام عليه وبعد الوقوع فيه، ونحن إلى
الدخول في هذه الباب أحوج؛ لأننا في بلاد الزلزال عائشون، ولأهله في الأكثر
مخاطبون وكاتبون، ونكتفي منها في هذا المقال ببيان طرق اختيار الزوج وما يكون
من ورائه.
***
اختيار الزوج:
جرى العرف بأن يكون الرجل هو الذي يتخير المرأة ويطلبها، والأصل في
الاختيار أن يكون للمصلحة، وهي لا تتحقق إلا بصحة الجسم والتناسب مع الرجل
في الأخلاق والعادات والميل والرغبة الاتحاد أو التقارب في الصنف والطبقة؛ لأن
النفس لا تسكن وترتاح لمن يباينها في صفاتها ويخالفها في عاداتها. ولكن الناس
قلما يجرون على المصلحة الحقيقية في أعمالهم الاختيارية؛ لأن اللذة عندهم ليس
لها حدود طبيعية يقفون عندها وإنما تعرف الحدود بالشرع والعقل، والشرع يؤخذ
بالتعلُّم والاقتداء، والعقل ينمو بالتجارب والاختبار؛ لذلك تختلف الحدود في
نظر الأفراد وترى بعض الناس يبني اختياره على الهوى والميل إلى الجمال،
وبعضهم يُحكِّم المصلحة ويجعل مناطها الجاه والمال، فالأصل في اختيار المرأة عند
الأمم الجاهلة الفاسدة الأخلاق، هو الحسن والجمال اتباعًا لهوى النفس المستلذ، أو
الثروة والجاه إيثارًا للمصلحة الموهومة.
أكثر ما يقع التخير بالحسن أو الاستحسان من طائفتين: (أولاهما) الشبان
الأغرار الذين يتوهمون أن عاطفة الهوى لمن رأى أحدهم فاستحسن وأحب تدوم، فإذا
هو اقترن بمن أحب كان له نشوة سرور دائمة؛ فيعيش مغبوطًا ناعم البال قرير
العين يرى الملك ملكه، والزمان غلامه، وهيهات ما يتوهم، ولكن أنى له أن يفهم
ذلك وهو محكوم بشعوره ووجدانه، تعبث به الخواطر وتقوده الأماني التي يوليها عليه
ذلك الشعور، ثم أنى له أن يعرف سيرة الناس الذين سبقوه في تحكيم الهوى واتباع
لمحات العيون، وطاعة هواجس النفوس؛ فتزوجوا بمن استحسنوا ولم يلبث أن
تحوَّل الاستحسان استقباحًا، والحب العارض مقتًا وبغضًا.
الحسن والجمال من الأعراض التي يسرع إليها الزوال، ثم إن سلطانهما على
القلب الواحد لا يدوم، أو لا يطول إلا إذا صار عشقًا خياليًّا؛ يخطف القلب
من عالم الحسن ويزج به في عالم الخيال، وهذا الضرب من العشق لا يكون مع
ملك الاستمتاع بالمحبوب. على أن هوى الأغرار لا يتقد بالحسن الرائع، والجمال
البارع، قل لهؤلاء الأغرار ليست تلك العاطفية الرقيقة التي وجدتم عند إرسال
الطرْف إلى الوجه الذي استملحتم، هي أثرًا طبيعيًّا لشيء ثابت في ذلك الوجه؛
فتقولوا: إن العلة تلازم المعلول، بل هي شيء كامن في النفس تحركه وتهزه في
أحد الصنفين رؤية الآخر في صورة تعجب، وقد يضعف ذلك الشيء في وقت
ما، وقد تمل الصورة المحركة له، أو تعرض للعين صورة أخرى فتبطل حركتها
وتنسخ آيتها، فالاعتماد في هناء العيش وسعادة الزوجية على الاستملاح الاستحسان
الذي تحدثه النظرة العَجْلَى اعتماد على ركن غير شديد.
والطائفة الثانية: هي طائفة المترفين الذين لا هَمَّ لهم إلا الاستمتاع والتنقل في
الشهوات واللذات، وهم أعرق في البهيمية من الطائفة الأولى؛ لأن الشاب الغر
يكتفي في اختيار الزوج بملحة طرفه، وخفقة قلبه، دون الوقوف على أخلاق من
أعجب بصورتها، وخفق قلبه عند رؤيتها، ولا على سيرتها وسيرة أهلها وعشيرتها
لتعرف المنبت والنبات. قد يتفق أن تكون الفتاة التي اختارها مشاكلة له في طبعه
قريبة منه في أخلاقه وعاده؛ فيعيش معها عيشة راضية، وتسكن نفس كل منهما
إلى الآخر ويقيمان بإقامة هذا الركن الأول ركني الزوجية الآخرين - المودة
والرحمة - بحسب حالهما وطبقتهما في الأمة.
وأما المترفون الذواقون من الأمراء، وأهل الثراء، ومن تسري إليهم سمومهم
ممن دونهم، فهم أشقى الناس في بيوتهم، وما أشقى نساءهم بهم؛ ذلك أن أحدهم لا
يلبث أن يمل من تزوج بها لحسنها، أو يستهويه حسن آخر؛ فيهوي إليه وهكذا
يتبع مواقع الحسن الجديد؛ ويوغل في المحرمات فلا يكون زوجًا حقيقيًّا للأولى ولا
لغيرها، وإنما هو شقي بشهوته ومُشْقٍ لمن يتصل به؛ فإن المرأة عنده إما أن تفسد
كفساده؛ فتكون من الذواقات؛ وما أسهل ذلك على ذات الجمال البارع التي قلما
يسلم مثلها مع تطلع الفساق المترفين إليها وافتتانها هي بنفسها، وإما أن تعيش في
نكد، وتظل في كبد، وكلا الأمرين شقاء للبيوت وشقاء للأمة. فهذا إجمال يكشف
للمتفكر عن وجه الخطأ في جعل استحسان الصورة والإعجاب بالجسم أصلاً لتخير
المرأة زوجًا، وأمَّا جعله أصلاً لتخير المرأة للرجل، فذاك مما لا حاجة إلى بيان فساده
وخطأ الذاهب إليه.
يقول قائلون: (إن النظر رسول القلب، وإن الاستحسان علة الحب، والحب
هو علة ذلك السكون الذي هو ركن السعادة وسر حقيقة الزوجية) فإن لم يكن
عينه فهو علة له أو أثر من آثاره، فما بالك تطلق القول في تخطئة من يُحكِّم
استحسان الصورة، وميل القلب في الاختيار؛ كأنك تؤيد عادة مسلمي المدن الذين
يتزوجون غالبًا على السماع، غافلاً عما يتبع هذه العادة من التنافر بين الزوجين
لأول وهلة، وما يُرزآن به من الخصام والجفوة. ونقول: إننا قد بينَّا أن استحسان
الصورة، وميل القلب إلى ما يرضي العين مما لا بقاء له ولا ثبات لِمَا يُبنى عليه،
وإنما البقاء والثبات للحب الذي علته تعارف الأرواح، ومشاكلة الطباع، ولا ننكر
مع هذا أن حسن الصورة، وجمال الخلقة له أثر عظيم في نفوس عشاق المعاني؛
ربما يفوق أثره في نفوس عشاق الصور، ولكنه عندهم في الدرجة الثانية، بل
يقرب في ذوقهم من المحسنات العارضة كالثياب والحُلي؛ فإن سليم الطبع لا تسكن
نفسه إلى دوام معاشرة رث الثياب وسخها، ويأنف طبعه من الطعام الطيب في
الإناء الخبيث. وإن من الناس من تشمئز نفسه وتنفر من بعض العيوب الخلقية؛
فإذا هي فاجأته في وجه من اختير له زوجًا يلابسه ويمازجه حتى يتحد معه أتم اتحاد؛
يوشك أن تنكمش نفسه انكماشًا يتعذر معه الالتحام والالتئام، لذلك كان من السنة
في الإسلام أن لا يتزوج المرء إلا بعد الرؤية، وما جرى عليه المسلمون في أكثر
المدن أو جميعها مخالف للفطرة والشريعة جميعًا، ولكن حكم العادات أقوى سلطانًا
على نفوس الجماهير من كل حكم يخالفه.
على أن من يطلب الازدواج لإقامة سنة الفطرة، لا لمجرد إرضاء الشهوة،
ولا لأجل التنقل في معاهد اللذة، فقلما يخون الوصف رغبته فيما يحب من حسن
الصورة وجمال الخلقة، ولعلنا لو أحصينا عدد الأزواج الذين مقتوا أزواجهم استقباحًا لصورهن لَمَا وجدنا فرقًا كبيرًا بين من تزوج منهم عن رؤية ومن تزوج
عن سماع فإن للرؤية نظرًا خادعًا ليس معه للرَّوِيَّة مجال. والسماع يتثبت فيه
ويتروَّى حتى يغني عن النظر في كثير من الأحوال.
ويقولون في انتقاد ما عليه أكثر مسلمي المدن من التشدد في الحجاب: إن
الحاجة إلى رؤية الرجل من يريد الاقتران بها للوقوف على طباعها وأخلاقها
وعادها - أشد منها لمعرفة حسنها وجمالها، بل لا بد لمعرفة الأخلاق والطباع من
المعاشرة زمنًا طويلاً، ونقول: إن هذا هو الذي يظهر بادي الرأي، وأما ما
يظهر بعد التدقيق والتمحيص فهو أنه يتعسر أو يتعذر على الشاب أن يعرف
حقيقة أخلاق الشابة وطباعها ورغائبها من المعاشرة بقصد الخطبة؛ فإن ما يتنازع
الفتاة من ضروب الشعور والوجدان إذا كانت بمرأى من الفتى ومسمع يخرج بها عن حال الاعتدال الطبيعي الذي طبعت عليه، فلا يكون الحكم عليها صحيحًا؛
لأن حجابًا طبيعيًّا أسدل على أخلاقها وسجايها، ثم إن من وراء هذا الحجاب أو من
أمامه حجابًا آخر صناعيًّا، وهو ما يكون من التكلف والتصنع؛ لتكون أمام الفتى
بالمظهر الذي تظن أنه يرضيه ويجذب قلبه، فالعمدة إذن في معرفة الآداب
والأخلاق هي الوقوف على حال المنبت والعشيرة وخبر الصادق الذي يحسن النقد
ويميز بين ما يرغب فيه وما يرغب عنه.
وقد يسهل على الخلطاء والجيران من العشائر أن يعرف فتيانهم أخلاق فتياتهم
بالاختبار الصحيح؛ إذا لم يكن هناك مقدمات، ولا وسائل تشعر برغبة المختبر في
تزوج من يلاحظ أحوالها ويتنقد أعمالها، وقلما يكون هذا في المدن إلا
بين الأقربين. وحدثني السيد عبد الرحمن الكواكبي - رحمه الله - أن أهل
الآستانة إذا رضوا بالخاطب دعوه إلى دارهم، وجمعوا بينه وبين بنتهم في
مجلسهم فيراها وتراه ويسمع كلٌّ حديثَ الآخر وتسأله عن آثاره الأدبية والعلمية
ثم يكون العقد بعد ذلك.
جملة القول: إن الذين يعتمدون على مجرد استحسان الصور في تخير
الأزواج ضالون، لا يُرجى لهم أن يُكوِّنوا بيوتًا -عائلات - تكون أعضاء حية
عاملة لأمة عزيزة؛ وسيأتي بيان حال من يبني اختياره على طلب المال والثروة،
ثم من يبني اختياره على ما يجب أن يُبْنى عليه الاختيار، وقد ذكر بعضه في هذه
المقالة تمهيدًا واستطرادًا.
((يتبع بمقال تالٍ))