للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: أحمد بن تيمية


الشفاعة الشرعية
والتوسل إلى الله بالأعمال وبالذوات والأشخاص
من فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية [*]

(الوجه الثاني) [١] الدعاء له والعمل له سبب لحصول مقصود العبد فهو
كالتوسل بدعاء الرسول والصالحين من أمته. وقد تقدم أن الدعاء إما أن يكون
إقسامًا به أو تسببًا به، فإن قوله: (بحق الصالحين) إن كان إقسامًا عليه فلا يقسم
على الله إلا بصفاته. وإن كان تسببًا فهو تسبب لما جعله سبحانه سببًا وهو دعاؤه
وعبادته. فهذا كله يشبه بعضه بعضًا وليس في شيء من ذلك دعاء له بمخلوق ولا
عمل صالح منا. فإذا قال القائل: أسألك بحق الأنبياء والملائكة والصالحين، فإن
كان يقسم بذلك فلا يجوز أن يقول: وحق الملائكة وحق الأنبياء وحق الصالحين،
ولا يقول لغيره: أقسمت عليك بحق هؤلاء، فإذا لم يجز أن يحلف به ولا يقسم،
فكيف يقسم على الخالق به؟ وإن كان لا يقسم به فليس في ذوات هؤلاء سبب يوجب
حصول مقصوده، لكن لا بد من سبب منه كالإيمان بالأنبياء والملائكة، أو منهم
كدعائهم لنا، لكن كثير من الناس تعودوا ذلك كما تعودوا الحلف بهم حتى يقول
أحدهم: وحقك على الله وحق هذه الشيبة على الله.
وفي الحلية لأبي نعيم أن داود عليه السلام قال: يا رب بحق آبائي عليك
إبراهيم وإسحاق ويعقوب، فأوحى الله إليه (يا داود أي حق لآبائك عليَّ؟) وهذا
وإن لم يكن من الأدلة الشرعية فقد مضت السنة أن الحي يُطْلَب منه الدعاء كما يُطْلَب
منه سائر ما يقدر عليه. وأما الغائب والميت فلا يطلب منه شيء.
وتحقيق هذا الأمر أن التوسل به والتوجه إليه و (به) لفظ فيه إجمال
واشتراك بحسب الاصطلاح، فمعناه في لغة الصحابة أن يطلب منه الدعاء
والشفاعة فيكونون متوسلين ومتوجهين بدعائه وشفاعته، ودعاؤه وشفاعته من أعظم
الوسائل عند الله. وأما في لغة كثير من الناس أن يسأل بذلك ويقسم عليه بذلك،
والله تعالى لا يُقْسَم عليه بشيء من المخلوقات بل لا يقسم بها بحال فلا يقال:
أقسمت عليك يا رب بملائكتك، ونحو ذلك. بل إنما يقسم بالله وأسمائه وصفاته.
فيقال (أسألك بأن لك الحمد، لا إله إلا أنت المنان، بديع السموات والأرض يا ذا
الجلال والإكرام يا حي يا قيوم، وأسألك بأنك أنت الله الأحد الصمد الذي لم يلد ولم
يولد ولم يكن له كفوًا أحد، وأسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك) الحديث كما
جاءت به السنة. وأما أن يسأل الله ويقسم عليه بمخلوقاته فهذا لا أصل له في دين
الإسلام.
وقوله [٢] : (اللهم إني أسألك بمعاقد العز من عرشك، ومنتهى الرحمة من
كتابك، وباسمك وحدك الأعلى وكلماتك التامة) مع أن في جواز الدعاء به قولين
للعلماء فجوَّزه أبو يوسف وغيره ومنع منه أبو حنيفة، وأمثال ذلك [٣]- فينبغي
للخلق أن يدعوا بالأدعية الشرعية التي جاء بها الكتاب والسنة فإن ذلك لا ريب في
فضله وحسنه فإنه الصراط المستقيم، صراط الذين أنعم الله عليهم من النبيين
والصديقين والشهداء والصالحين. وحسن أولئك رفيقًا، وهو أجمع وأنفع، وأسلم
وأقرب إلى الإجابة.
وأما ما يذكره بعض العامة من قوله صلى الله عليه وسلم: (إذا كانت لكم إلى
الله حاجة فاسألوا الله بجاهي فإن جاهي عند الله عظيم) فهذا الحديث لم يروه أحد
من أهل العلم، ولا هو في شيء من كتب الحديث. والمشروع: الصلاة عليه في كل
دعاء. ولهذا لما ذكر العلماء الدعاء في الاستسقاء وغيره ذكروا الأمر بالصلاة عليه،
ولم يذكروا فيما يشرع للمسلمين في هذا الحال التوسل به، كما لم يذكر أحد من
العلماء دعاء غير الله والاستغاثة به في حال من الأحوال، وإن كان بينهما فرق
فدعاء غير الله كفر، بخلاف قول القائل: إني أسألك بجاه فلان الصالح. فإن هذا لم
يبلغنا من أحد من السلف إنه كان يدعو به.
ورأيت في فتاوى الفقيه الشيخ أبي محمد بن عبد السلام أنه لا يجوز ذلك في
حق غير النبي صلى الله عليه وسلم [٤] ثم رأيت عن أبي حنيفة وأبي يوسف
وغيرهما من العلماء أنهم قالوا: لا يجوز الإقسام على الله بأحد من الأنبياء.
ورأيت في كلام الإمام أحمد أنه في النبي صلى الله عليه وسلم. لكن هذا قد يخرج
على إحدى الروايتين عنه في جواز الحلف به [٥] .
وأما الصلاة عليه فقد دل على ذلك الكتاب والسنة والإجماع، قال الله تعالى:
{إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} (الأحزاب: ٥٦) وفي الصحيح عنه أنه قال: (من صلى عليَّ مرة صلى الله
عليه عشرًا) وفي المسند: أن رجلاً قال: يا رسول الله أجعل عليك ثلث
صلواتي؟ قال (يكفيك الله ثلث أمرك) فقال: أجعل عليك نصف صلواتي؟ قال:
(إذًا يكفيك الله ثلثي أمرك) فقال: أجعل صلاتي كلها عليك؟ فقال (إذًا يكفيك الله ما
أهمك من أمور دنياك وآخرتك) وقد ذكر العلماء وأئمة الدين الأدعية المشروعة،
وأعرضوا عن الأدعية المبتدعة فينبغي اتباع ذلك.
والمراتب في هذا الباب ثلاث: (إحداها) الدعاء لغير الله سواء كان المدعو
حيًّا أو ميتًا، وسواء كان من الأنبياء عليهم السلام وغيرهم فيقال: يا سيدي فلان
أغثني، وأنا مستجير بك، ونحو ذلك. فهذا هو الشرك بالله. والمستغيث بالمخلوقات
قد يقضي الشيطان حاجته أو بعضها وقد يتمثل له في صورة الذي استغاث به
فيظن أن ذلك كرامة لمن استغاث به وإنما هو شيطان أضله وأغواه لمَّا أشرك بالله
كما يتكلم الشيطان في الأصنام وفي المصروع وغير ذلك. ومثل هذا واقع كثيرًا
في زماننا وغيره، وأعرف من ذلك ما يطول وصفه في قوم استغاثوا بي أو بغيري
وذكروا أنه أتى شخص على صورتي أو صورة غيري وقضى حوائجهم فظنوا أن
ذلك من بركة الاستغاثة (بي) أو بغيري، وإنما هو شيطان أضلهم وأغواهم وهذا
هو أصل عبادة الأصنام واتخاذ الشركاء مع الله تعالى في الصدر الأول من القرون
الماضية كما ثبت، فهذا شرك بالله نعوذ بالله من ذلك.
(الثانية) أن يقال للميت أو الغائب من الأنبياء والصالحين: ادع الله لي
وادع لنا ربك، ونحو ذلك. فهذا مما لا يستريب عالم أنه غير جائز، وأنه من البدع
التي لم يفعلها أحد من سلف الأمة وأئمتها، وإن كان السلام على أهل القبور جائزًا
ومخاطبتهم جائزة، كما كان صلى الله عليه وسلم يُعلِّم أصحابه إذا زاروا القبور أن
يقول قائلهم: (السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون)
وقال ابن عبد البر: ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ما من رجل
يمر بقبر رجل كان يعرفه فيسلم عليه إلا رد الله عليه روحه حتى يرد عليه السلام) .
وفي سنن أبي داود عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ما من رجل
مسلم سلم عليَّ إلا رد الله عليَّ روحي حتى أرد عليه السلام) .
لكن ليس من المشروع أن يطلب من الأموات شيئًا. وفي الإمام مالك [٦] أن
عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما كان يقول: السلام عليك يا رسول الله،
السلام عليك يا أبا بكر، السلام عليك يا أبه، ثم ينصرف. وكذلك أنس بن مالك
وغيره من الصحابة رضي الله عنهم، نُقِلَ عنهم السلامُ على النبي صلى الله عليه
وسلم، فإذا أرادوا الدعاء استقبلوا القبلة يدعون الله تعالى لا يدعون وهم مستقبلو
القبر الشريف.
وإن كان قد وقع في ذلك بعض الطوائف من الفقهاء والمتصوفة ومن العامة
ممن لا اعتبار بهم، فإنه لم يَذهب إلى ذلك إمامٌ متبَع في قوله ولا مَن له في الإمامة
لسان صدق. بل قد تنازع العلماء في السلام على النبي صلى الله عليه وسلم فقال
أبو حنيفة: يستقبل القبلة ويستدبر القبر. وقال مالك والشافعي: بل يستقبل القبر،
وعند الدعاء يستقبل القبلة ويستدبر القبر، ويجعل القبر عن يساره أو يمينه،
وهو الصحيح؛ إذ لا محذور في ذلك.
(الثالثة) أن يقول: أسألك بجاه فلان عندك أو بحرمته، ونحو ذلك. فهو
الذي تقدم عن أبي محمد أنه أفتى بأنه لا يجوز في غير النبي صلى الله عليه
وسلم [٧] . وأفتى أبو حنيفة وأبو يوسف وغيرهما أنه لا يجوز في حق أحد من
الأنبياء فكيف بغيرهم. وإن كان بعض المشايخ المبتدعين يحتج بما يرويه عن النبي
صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إذا أعيتكم الأمور، فعليكم بأهل القبور) أو
قال (فاستغيثوا بأهل القبور) فهذا الحديث كذبٌ مفترًى على رسول الله صلى الله
عليه وسلم بإجماع العارفين بحديثه لم يروه أحد من العلماء ولا يوجد في شيء من
كتب الحديث المعتمدة.
وقد قال تعالى: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الحَيِّ الَّذِي لاَ يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ} (الفرقان:
٥٨) الآية، وهذا مما يعلم بالاضطرار في دين الإسلام أنه غير مشروع. وقد
نهى النبي صلى الله عليه وسلم عما هو أقرب من ذلك من اتخاذ القبور مساجد،
ونحو ذلك ولعن على ذلك من فعله تحذيرًا من الفتنة باليهود؛ فإن ذلك هو أصل عبادة
الأصنام أيضًا، فإن ودًّا وسواع ويغوث ويعوق ونسرًا كانوا قومًا صالحين في قوم
نوح عليه الصلاة والسلام، فلما ماتوا عكفوا على قبورهم ثم اتخذوا الأصنام على
صورهم، كما ذكر ذلك ابن عباس وغيره من العلماء [٨] فمن فهم معنى قوله:
{إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} (الفاتحة: ٥) عرف أنه لا يعين على العبادة الإعانة
المطلقة إلا الله وحده.
وقد يُسْتَغَاث بالمخلوق فيما يقدر عليه وكذلك الاستعانة لا تكون إلا بالله
والتوكل لا يكون إلا على الله. وما النصر إلا من عند الله. فالنصر المطلق وهو
خلق ما يغلب به العدو فلا يقدر عليه إلا هو سبحانه. وفي هذا القدر كفاية لمن هداه
الله تعالى والله تعالى أعلم. وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليمًا
كثيرًا. انتهى [**] .