(بقية ما كتبناه للجزء الماضي من الرد على كتاب فريد أفندي وجدي (الإسلام دين عام خالد) وزعمه فيه أن الإسلام هو أن يعمل كل إنسان بعلمه وعقله وتفكيره بدون تلقين من أحد، وهو ما فسر به دين الفطرة، أي الطبيعة. وهذا الزعم هدم لدين القرآن لا تفسير له، ولا توحيد لجميع الأديان، كما يزعم، ويعلم القارئ ببطلان زعمه بالإيجاز مما يأتي: (١) الإنسان عالم اجتماعي يعيش بالتعاون العلمي والعملي، وتنمى معارفه كلها بتلقي بعض أفراده من بعض حتى إنه يستحيل أن يكون لكل فرد دين هو وليد فكره وعقله وحده لم يتلق منه شيئًا من عشرائه، ومن انفرد بشيء فقلما يوافقه عليه قومه، إذن يستحيل أن يكون ما ذكره هو الدين في كل قوم أو في البشر كلهم، فتعين أنه يريد أن يكون لكل فرد دين يصح أن يسمى الإسلام. (٢) إن كانت الطبيعة التي يولد عليها كل طفل من البشر هي دين الله الحق الذي سماه الإسلام، فكل ما يهتدي إليه الإنسان من أول نشأته إلى آخر حياته بعلمه وتفكيره وعقله هو دين الإسلام، ومنه عبادة بعض الحشرات وغيرها من حيوان ونبات وجماد، وهو يقتضي أن قبائل الهمج من معطلة ووثنية كلهم على الإسلام، وأن الذي لا يصح أن يكون من دين الإسلام هو ما جاءهم به النبيون المرسلون؛ لأنه تلقين تلقوه من الوحي ولقنوه للناس، لم يكن مما وصلوا إليه بعلمهم وتفكيرهم. (٣) هل فهم أولئك العلماء المنتهون من تراجم القرآن بلغاتهم (وهو يشهد لها بالصحة والدقة في تحديد معانيه) هذا المعنى الذي قرَّره في الآية؟ وهل كان له من الوقع العظيم في عقولهم ما وصفه وصاروا به مسلمين مؤمنين بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم، ويكون القرآن كلام الله تعالى؟ أم هي مترجمة بلغاتهم بغير المعنى الذي فسرها هو به، فيكون إيمانه موقوفًا على اطلاعهم على تفسيره؟ وكيف السبيل إلى اقتناعهم بتفسيره لها في هذه الحال وترجيحه على ما يخالفه من فهم علمائهم وعلماء المسلمين كافة؟ (٤) إذا أعجب هؤلاء العلماء المنتهون بهذه الآية من القرآن، وبالآية الجامعة بين تنزيه الخالق عز وجل ووصفه ببعض صفات خلقه وهي {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} (الشورى: ١١) وأكبروا مخاطبة البشر بهما من زهاء أربعة عشر قرنًا كما قال، واتخذوهما منهاجًا من مناهجهم العلمية الكسبية بعقولهم، يسيرون عليها في تطلابهم للوصول إلى روح الوجود العام، أو وصاله وصال العشاق للمعشوقات، وكان الأستاذ محمد فريد أفندي وجدي يعدهم بهذا مسلمين دائنين بدين القرآن، وإن لم يتبعوا ما أنزله الله تعالى فيه من عقائد وعبادات وآداب وشرائع، ولم ينتهوا عما نهى عنه من المحرمات والرذائل؛ لأن هذه الأصول والفروع من الدين مما يحتاج إليه من دونهم من الطبقتين الوسطى والدنيا في رأيه، إن فرضنا صحة هذا كله فأي ربح للإسلام القديم وأهله منهم في حفظ دين القرآن وتجديدهم إياه بفلسفته هو، وما هو إلا إسلامه دون إسلام محمد صلى الله عليه وسلم وأتباعه؟ أم يريد أن يكونوا أتباعًا له في هذا، فيسمون محمديين وجديين؟ (٥) مَن هؤلاء العلماء المنتهون وكم عددهم؟ أليسوا أفراد الفلاسفة والعلماء الذين انقطع كل منهم لإتقان مسألة أو مسائل من النظريات العقلية والاجتماعية أو العلوم والفنون فلا يكاد يعنى بغيرها؟ إن هؤلاء إذا وافقوا القرآن في بعض آياته فإنما يوافقونه كما يوافق كل منهم غيره فيما يستحسنه من رأيه، لا لاعتقادهم أنه كلام (روح الوجود العام) الذي هو أقرب وسائل الوصول إليه والزلفى عنده، وإنما هو الوسيلة إلى ذلك ببيان الرسول له بأمره، ولن يكونوا مسلمين إلا بهذا الإيمان، وبما يستلزمه من الأعمال، ولن يصلوا إلى أعلى ما يمكن للبشر أن يصلوا إليه في الدنيا من معرفة الله عز وجل والكمال في حبه المؤهل لما هو فوق ذلك في الآخرة إلا بهذا الإيمان والإسلام، دون الإسلام الذين اخترعه محمد فريد أفندي وجدي. (٦) إن تسميته ما فعلته الجمهورية التركية من رفض الإسلام كله وإجبار شعبها على اتباع ترجمة القرآن بالتركية وكتابته بالحروف اللاتينية والتعبد بها من اعتقادهم أنه حرام أو كفر، قد يكون عنده من إسلام المنتهين وهو في اعتقاد جميع المسلمين كفر وارتداد عن الإسلام ممن كان مسلمًا، فما باله يخاطب به المسلمين في جريدة سياسية يومية (جريدة الجهاد) مُلَبِّسًا عليهم بأنه مجدِّد للإسلام؟ (٧) ليخبرنا الأستاذ فريد أفندي وجدي عمن يعرف في قومه الترك من هؤلاء العلماء المنتهين الهائمين في حب روح الوجود العام المتطلعين لوصاله؟ هل مصطفى باشا كمال وعصمت باشا وأمثالهم من رجال الحرب منهم؟ وما حقيقة العبقرية التي زعم أن الترك فاقوا بها غيرهم من الشعوب فأقر هو بسببها حكومتهم العسكرية على رفضها للشريعة الإسلامية المشتملة على كل ما تحتاج إليه الطبقة الوسطى والطبقة الدنيا من هداية الدين مما لا يوجد في غيرها، وقد فضلت هذه الحكومة شرائع سويسرة وإيطالية وغيرهما عليها، ولم تستطع أن تسن شريعة تركية لائقة بعبقريتها؟ إن كانت هذه العبقرية هي استبسالهم في ظفرهم على اليونان الضعيفة في عقر دارهم وقلب وطنهم وهو الأناضول فكيف يطمع في إقناع الأمم الفاتحة التي قهرت الترك، ومن هم أقوى من الترك بقبول الإسلام الصحيح أو بإسلامه هو، وكلها متعصبة لأديانها؟ إن من أعجب ما في مصر من الفوضى الدينية والأدبية أن ينشر فيها مثل هذا الإلحاد السخيف، ويوجد في المسلمين مَن يثني عليه، وعلى كاتبه بنصر الإسلام، والانفراد ببيان حقيقته للأنام، وينشر هذا الثناء في الجريدة التي نشرته، ثم لا يجد من شيخ الأزهر، ولا هيئة كبار العلماء فيه، ولا محرري مجلته التي سميت باطلاً (نور الإسلام) من يخطئه ويبين له ولقراء كلامه أنه دعوة إلى إبطال الإسلام. وإنني قد كلمت في هذا رئيس تحرير هذه المجلة؛ إذ لقيته في دار سفارة الدولة الأفغانية - وكان قد نشر مقالاً في الانتقاد على فريد أفندي وجدي فقلت له: إن هذه المقالات في الإسلام تتضمن الرد على مجلتكم، وإن الثناء عليها من فئة لا تخلو من بعض الأزهريين، والسكوت عليها منكم ومن سائر العلماء، يتضمن نقض نقدكم، وترجيح فهمه للإسلام على فهمكم، الذي هو فهم المشيخة الرسمية وأتباعها فسكت، وكلمت أيضًا بعض من لقيت من علماء الأزهر في هذا المعنى. وأما ما يجب عليَّ من ذلك فكنت معتمدًا فيه على بحثي المستفيض في حقيقة الوحي المحمدي وحجة القرآن على جميع البشر الذي نشرت أكثره في تفسير المنار وطبعته في كتاب مستقل، وهو يتضمن هدم كل ما في هذه المقالات من الباطل، ومنه تفسير دين الفطرة، فلما أهدى إليَّ الكتاب صار من الواجب عليَّ شرعًا أن أعجل بهذا النقد له قبل صدور كتاب (الوحي المحمدي) .