للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


حقيقة الوهابية ومنشأ الطعن فيها

إن سبب قذف الوهابية بالابتداع والكفر سياسي مَحْضٌ. كان أولاً لتنفير
المسلمين منهم لاستيلائهم على الحجاز وخوف الترك أن يقيموا دولة عربية إلخ؛
ولذلك كان الناس يهيجون عليهم تبعًا لسخط الدولة، ويسكتون عنهم إذا سكنت ريح
السياسة، إلى أن جددها الملك حسين في الحجاز وولده الملك فيصل في العراق
وولده الأمير عبد الله في سورية وفلسطين بعد توليتهم لأمور هذه البلاد.
أصدر الملك حسين عدة منشورات في جريدته (القبلة) في ٩ شوال سنة
١٣٣٦ وغرة ربيع الأول سنة ١٣٣٧ و٨ جمادى الأول منها رماهم فيها بالكفر،
وتكفير أهل السنة، والطعن في الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم ... وقد
صرح في الثاني منها بأن حكومته رأت أن تمحو بدعتهم بالأصالة عن نفسها
وبالنيابة عن سائر المسلمين ... وفي الثالث (أنه لا بد للسلطان من قتالهم بكل
موجوديته) إذا لم ينفع ما بدأ به من الدفاع لمحو بدعهم وكفرهم. ويعني بالسلطان
نفسَهُ، فإنه يرى أنه إمام المسلمين وسلطانهم. وفعل الملك فيصل ما فعل في
العراق وكان من مؤتمر الشيعة في كربلاء ما كان، ثم رأينا بعض أهل دمشق
وبيروت يتقربون إليه وإلى ولده الأمير عبد الله بطبع الرسائل في تكفيرهم ورميهم
بما يرميهم هو به وما بُهِتُوا عند ظهور أمرهم ويزيدون، حتى قال بعضهم: إن
محمد عبد الوهاب كان يبغض النبي صلى الله عليه وسلم ويريد أن يدعي النبوة! !
دع أقوال من يزعمون أنهم ينكرون الشفاعة والكرامات كالمعتزلة، وقد اشتهر أن هذا
كله بإغراء الأمير عبد الله. ثم سرى ذلك إلى مصر وظهر له أثر في بعض
الجرائد من حيث لا يدري أصحابها من أين جاء. وقد رد على هذه الرسائل بعض
علماء الشام، ووصل الأصل والرد إلى نجد فجمع بعض علمائها عدة رسائل لمتقدمي
علمائهم ومتأخريهم طبعت في مطبعتنا، فرأينا أن نقتبس منها ما يأتي ليعلم
المطلعون عليه حقيقة أمرهم ومنشأ بهتهم والافتراء عليهم، وهو:
نموذج من مناظرة الشيخ عبد الله
ابن الشيخ محمد عبد الوهاب
لعلماء مكة
وكان فيمن حضر مع علماء مكة وشاهد غالب ما صار: حسين بن محمد بن
الحسين الإبريقي الحضرمي ثم الحياني، ولم يزل يتردد علينا ويجتمع بسعود
وخاصته من أهل المعرفة ويسأل عن مسألة الشفاعة التي جرد السيف بسببها من
دون حياء ولا خجل لعدم سابقة جرم له.
فأخبرناه بأن مذهبنا في أصول الدين مذهب أهل السنة والجماعة، وطريقنا
طريقة السلف التي هي الطريق الأسلم، والأعلم والأحكم، خلافًا لمن قال: طريقة
الخلف أعلم، وهي أنّا نُقر آيات الصفات وأحاديثها على ظاهرها، ونكل علمها إلى
الله مع اعتقاد حقائقها، فإن مالكًا وهو من أجلّ علماء السلف لما سئل عن الاستواء في
قوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى العَرْشِ اسْتَوَى} (طه: ٥) قال: الاستواء معلوم،
والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة.
ونعتقد أن الخير والشر كله بمشيئة الله تعالى، ولا يكون في ملكه إلا ما أراد،
فإن العبد لا يقدر على خلق أفعاله، بل له كسب رتب عليه الثواب فضلاً،
والعقاب عدلاً، لا يجب على الله لعبده شيء، وأنه يراه المؤمنون في الآخرة بلا
كيف ولا إحاطة. ونحن أيضًا في الفروع على مذهب الإمام أحمد بن حنبل ولا
ننكر على مَن قلَّد أحد الأئمة الأربعة دون غيرهم لعدم ضبط مذاهب الغير كالرافضة
والزيدية والإمامية ونحوهم [١] لا نُقِرُّهم ظاهرًا على شيء من مذاهبهم الفاسدة [٢] ؛
بل نجبرهم على تقليد أحد الأئمة الأربعة.
ولا نستحق مرتبة الاجتهاد المطلق ولا أحد منا يدعيها، إلا أنَّا في بعض
المسائل إذا صح لنا نص جلي من كتاب أو سنة غير منسوخ ولا مخصَّص ولا
معارَض بأقوى منه، وقال به أحد الأئمة الأربعة أخذنا به وتركنا المذهب كإرث
الجد والإخوة، فإنَّا نقدم الجد بالإرث، وإن خالفه مذهب الحنابلة.
ولا نفتش على أحد في مذهبه ولا نعترض عليه إلا إذا اطلعنا على نص جلي
مخالف لمذهب أحد الأئمة وكانت المسألة مما يحصل بها شعائر ظاهرة كإمام الصلاة
فنأمر الحنفي والمالكي مثلاً بالمحافظة على نحو الطمأنينة في الاعتدال والجلوس
بين السجدتين؛ لوضوح ذلك، بخلاف جهر الإمام الشافعي بالبسملة فلا نأمره
بالإسرار، وشتان ما بين المسألتين، فإذا قوي الدليل أرشدناهم بالنص وإن خالف
المذهب وذلك يكون نادرًا جدًّا، ولا مانع من الاجتهاد في بعض المذاهب دون
بعض، ولا مناقضة لعدم الاجتهاد المطلق. وقد سبق جمع من أئمة المذاهب
الأربعة لاختيارات لهم في بعض المسائل مخالفة للمذهب الملتزمين تقليد صاحبه.
ثم إنَّا نستعين على فهم كتاب الله بالتفاسير المتداولة المعتبرة ومن أجلِّها لدينا
تفسير ابن جرير ومختصره لابن كثير والشافعي، وكذلك البغوي والبيضاوي
والخازن والحداد والجلالين وغيرهم، وعلى فهم الحديث بشرح الأئمة المبرزين
كالعسقلاني والقسطلاني على البخاري والنووي على مسلم والمناوي على الجامع
الصغير، ونحرص على كتب الحديث خصوصًا الأمهات الست وشروحها، ونعتني
بسائر الكتب في سائر الفنون أصولاً وفروعًا، وقواعد وسِيَرًا ونحوًا وصرفًا وجميع
علوم الأئمة، ولا نأمر بإتلاف شيء من المؤلفات أصلاً إلا ما اشتمل على ما يوقع
الناس في الشرك كروض الرياحين. وما يحصل بسببه خلل في العقائد كعلم المنطق
فإنه قد حرَّمه جمع من العلماء [٣] على أنا لا نفحص عن مثل ذلك وكالدلائل (؟)
إلا إن تظاهر به صاحبه معاندًا أُتلف عليه، وما اتفق لبعض البدو من إتلاف بعض
كتب أهل الطائف إنما صدر من بعض الجهلة وقد زُجِرَ هو وغيره عن مثل ذلك.
ومما نحن عليه أنا لا نرى سبي العرب ولم نفعله ولم نقاتل غيرهم، ولا نرى
قتل النساء والصبيان.
وأما ما يُكْذَب علينا سترًا للحق وتلبيسًا على الخلق، بأنا نفسر القرآن برأينا،
ونأخذ من الحديث ما وافق أفهامنا، من دون مراجعة شرح ولا معول على شيخ،
وأنا نضع من رتبة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم بقولنا: النبي رمة في قبره،
وعصا أحدنا أنفع له منه، وليس له شفاعة، وأن زيارته غير مندوبة، وأنه كان لا
يعرف معنى لا إله إلا الله حتى نزل عليه {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ} (محمد:
١٩) مع كون الآية مدنية، وأنَّا لا نعتمد على أقوال العلماء، فنتلف مؤلفات أهل
المذاهب لكون فيها الحق والباطل، وأنا مجسمة، وأنا نكفر الناس على الإطلاق
أهل زماننا ومن بعد الستمائة إلا من هو على ما نحن عليه، ومن فروع ذلك أن لا
نقبل بيعة أحد إلا بعد التقرر عليه بأنه كان مشركًا، وأن أبويه ماتا على الشرك بالله،
وأنا ننهى عن الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، ونحرم زيارة القبور
المشروعة مطلقًا، وأن مَن دان بما نحن عليه سقطت عنه جميع التبعات حتى
الديون، وأنا لا نرى حق أهل البيت رضوان الله عليهم، وأنا نجبرهم على تزويج
غير الكفء لهم،، وأنا نجبر بعض الشيوخ على فراق زوجته الشابة لتنكح شابًّا
إذا ترافعوا إلينا.
فلا وجه لذلك!! فجميع هذه الخرافات وأشباهها لما استفُهمنا عنها. من ذكر أو
لا وكان جوابنا في كل مسألة من ذلك {سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ} (النور: ١٦) .
فمن روى عنا شيئًا من ذلك أو نسبه إلينا فقد كذب علينا وافترى، ومن شاهد
حالنا، وحضر مجالسنا، وتحقق ما عندنا، علم قطعيًّا أن جميع ذلك وضعه علينا
وافتراه أعداء الدين وإخوان الشياطين، تنفيرًا للناس عن الإذعان بإخلاص التوحيد
لله تعالى بالعبادة وترك أنواع الشرك الذي نص الله عليه بأن الله لا يغفره ويغفر ما
دون ذلك لمن يشاء، فإنا نعتقد أن من فعل أنواعًا من الكبائر كقتل المسلم بغير حق
والزنا والربا وشرب الخمر وتكرر منه ذلك أنه لا يخرج بفعله ذلك عن دائرة
الإسلام، ولا يخلد به في دار الانتقام، إذا مات موحدًا بجميع أنواع العبادة.
والذي نعتقده أن رتبة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم أعلى مراتب المخلوقين
على الإطلاق وأنه حي في قبره حياة برزخية أبلغ من حياة الشهداء؛ للنصوص عليها
في التنزيل؛ إذ هو أفضل منهم بلا ريب، وأنه يسمع سلام المسلم عليه، وتسن
زيارته إلا إنه لا يشد الرحل إلا لزيارة المسجد والصلاة فيه - وإذا قصد مع ذلك
الزيارة فلا بأس - ومن أنفق نفيس أوقاته بالاشتغال بالصلاة عليه- عليه الصلاة
والسلام - الواردة عنه فقد فاز بسعادة الدارين، وكُفِيَ همَّه وغمَّه كما جاء في الحديث
عنه.
ولا ننكر كرامات الأولياء ونعترف لهم بالحق وأنهم على هدًى من ربهم،
مهما ساروا على الطريقة الشرعية، والقوانين المرعية، إلا أنهم لا يستحقون شيئًا
من أنواع العبادات لا حال الحياة ولا بعد الممات، بل يُطْلَب من أحدهم الدعاء في
حال حياته بل ومن كل مسلم، فقد جاء في الحديث: (دعاء المرء المسلم مستجاب
لأخيه) الحديث، وأمر صلى الله عليه وسلم عمر وعليًّا بسؤال الاستغفار من أويس
ففعلا.
ونثبت الشفاعة لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم يوم القيامة حسب ما ورد،
وكذا نثبتها لسائر الأنبياء والملائكة والأولياء والأطفال حسب ما ورد أيضًا،
ونسألها من المالك لها والآذن فيها لمن يشاء من الموحدين الذين هم أسعد الناس بها
كما ورد، بأن يقول أحدنا متضرعًا إلى الله تعالى: اللهم شفِّع نبينا محمدًا صلى الله
عليه وسلم فينا يوم القيامة، أو: اللهم شفع فينا عبادك الصالحين، أو ملائكتك، أو
نحو ذلك مما يطلب من الله لا منهم، فلا يقال: يا رسول الله أو: بولي الله أسألك
الشفاعة أو غيرها، كأدركني أو أغثني أو اشفني أو انصرني على عدوي، ونحو
ذلك مما لا يقدر عليه إلا الله تعالى، فإذا طلبت ذلك مما ذكر في أيام البرزخ كان
من أقسام الشرك؛ إذ لم يرد بذلك نص من كتاب أو سنة ولا أثر من السلف الصالح
على ذلك، بل ورد الكتاب والسنة وإجماع السلف أن ذلك شرك أكبر قاتل عليه
رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فإن قلت: ما تقول في الحلف بغير الله والتوسل به؟ قلت: ننظر إلى حال
المُقْسِم إن قصد به التعظيم كتعظيم الله أو أشد كما يقع لبعض غلاة المشركين من
أهل زماننا إذا استحلفه بشيخه - أي معبوده الذي يعتمد في جميع أموره عليه - لا
يرضى أن يحلف إذا كان كاذبًا أو شاكًّا، وإذا استحلف بالله فقط رضي - فهو كافر
من أقبح المشركين وأجهلهم إجماعًا. وإن لم يقصد التعظيم بل سبق لسانه إليه فهذا
ليس بشرك أكبر، فيُنهى عنه ويُزجر ويؤمر صاحبه بالاستغفار عن تلك الهفوة.
وأما التوسل وهو أن يقول القائل: اللهم إني أتوسل إليك بجاه نبيك محمد
صلى الله عليه وسلم، أو بحق نبيك أو بجاه عبادك الصالحين أو بحق عبدك فلان،
فهذا من أقسام البدعة المذمومة، ولم يرد بذلك نص كرفع الصوت بالصلاة على
النبي صلى الله عليه وسلم عند الآذان.
وأما أهل البيت فقد ورد سؤال على الدرعية في مثل ذلك وعن جواز نكاح
الفاطمية غير الفاطمي وكان الجواب عليه ما نصه: أهل البيت رضوان الله عليهم
لا شك في طلب حبهم ومودتهم؛ لما ورد فيه من كتاب وسنة فيجب حبهم ومودتهم،
إلا أن الإسلام ساوى بين الخلق فلا فضل لأحد إلا بالتقوى، ولهم مع ذلك التوقير
والتكريم، والتقديم في الطريق إلى موضع التكريم، ونحو ذلك إذا تقارب أحدهم مع
غيره في السن أو العلم، وما اعتيد في بعض البلاد من تقديم صغيرهم وجاهلهم
على من هو أمثل منه حتى إنه إذا لم يقبل يده كلما صافحه عاتبه وصارمه أو ضارَّ
به أو خاصمه، فهذا مما لم يرد به نص ولا دل عليه دليل بل منكر تجب إزالته،
ولو قبل يد أحدهم لقدوم من سفر أو لمشيخة علم، أو في بعض أوقات أو لطول
غيبة فلا بأس به، إلا أنه لما أُلِفَ في الجاهلية الأخرى أن التقبيل صار علمًا لمن
يعتقد فيه أو في أسلافه أو عادة المتكبرين من غيرهم - نهينا عنه مطلقًا لا سيما لمن
ذُكر حسمًا لذرائع الشرك ما أمكن.
وإنما هدمنا بيت السيدة خديجة وقبة المولد وبعض الزوايا المنسوبة لبعض
الأولياء حسمًا لتلك المادة، وتنفيرًا عن الإشراك بالله ما أمكن لعظم شأنه فإنه لا
يغفر [٤] ، وهو أقبح من نسبة الولد لله تعالى؛ إذ الولد كمال في حق المخلوق،
وأما الشرك فنقص حتى في حق المخلوق؛ لقوله تعالى: {ضَرَبَ لَكُم مَّثَلاً مِّنْ
أَنفُسِكُمْ هَل لَّكُم مِّن مَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُم مِّن شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ} (الروم: ٢٨)
الآية.
وأما نكاح الفاطمية غير الفاطمي فجائز إجماعًا، بل ولا كراهة في ذلك وقد
زوج عليٌّ عمرَ بن الخطاب وكفى بهما قدوة، وتزوجت سكينة بنت الحسين بن
علي بأربعة ليس فيهم فاطمي بل ولا هاشمي، ولم يزل عمل السلف على ذلك من
دون إنكار؛ إلا أنا لا نجبر أحدًا على تزويج موليته ما لم تطلب هي وتمتنع من
غير الكفء، والعرب أكفاء بعضهم لبعض، فما اعتيد في بعض البلاد من المنع
دليل التكبر وطلب التعظيم، وقد يحصل بسبب ذلك فساد كبير كما ورد [٥] ، بل
يجوز الإنكاح لغير الكفء، وقد تزوج زيد وهو من الموالي زينب أم المؤمنين [٦]
وهي قرشية، والمسألة معروفة النقول عند أهل المذهب. انتهى [٧] .
(فإن قال قائل منفر عن قبول الحق والإذعان له) : يلزم من تقريركم
وقطعكم في أن من قال: يا رسول الله أسألك الشفاعة- أنه مشرك مهدر الدم- أن
يقال بكفر غالب الأمة ولا سيما المتأخرين لتصريح علمائهم المعتبرين أن ذلك
مندوب وشنوا الغارة على من خالف في ذلك؟
(قلت) لا يلزم ذلك لأن لازم المذهب ليس بمذهب كما هو مقرَّر، ومثل
ذلك لا يلزم أن نكون مجسمة، وإن قلنا بجهة العلو كما ورد الحديث بذلك، ونحن
نقول فيمن مات: {تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ} (البقرة: ١٣٤) ولا نكفر إلا مَن بلغته
دعوتنا للحق ووضحت له المحجة وقامت عليه الحجة وأصر مستكبرًا معاندًا كغالب
من نقاتلهم اليوم يصرون على ذلك الإشراك، ويمتنعون من فعل الواجبات،
ويتظاهرون بأفعال الكبائر المحرمات، وغير الغالب إنما نقاتله لمناصرته لمن هذه
حاله ورضاه به، ولتكثير مواد من ذكر والتغليب معه فله حينئذ حكمه في حِل قتاله،
ونعتذر عمن مضى بأنهم مخطئون معذورون لعدم عصمتهم من الخطأ، والإجماع
في ذلك ممنوع قطعيًّا، ومن شن الغارة فقد غلط، ولا بدع أن يغلط فقد غلط من هو
خير منه كمثل عمر بن الخطاب رضي الله عنه فلما نبهته المرأة رجع في مسألة
المهر وفي غير ذلك، يعرف ذلك في سيرته، بل غلط الصحابة وهم جمع ونبينا
صلى الله عليه وسلم بين أظهرهم سارٍ فيهم نوره فقالوا: اجعل لنا ذات أنواط كما
لهم ذات أنواط.
(فإن قلت) : هذا فيمن ذهل فلما نُبِّهَ انتبه فما القول فيمن حرَّر الأدلة،
واطلع على كلام الأئمة القدوة، واستمر مُصِرًّا على ذلك حتى مات؟
(قلت) : ولا مانع أن نعتذر لمن ذكر ولا نقول: إنه كافر، ولا لما تقدم أنه
مخطئ، وإن استمر على خطأه؛ لعدم من يناضل عن هذه المسألة في وقته بلسانه
وسيفه وسنانه، فلم تقم عليه الحجة، ولا وضحت له المحجة، بل الغالب على
زمن المؤلفين المذكورين التواطؤ على هجر كلام أئمة السنة في ذلك رأسًا، ومن
اطلع عليه أعرض عنه قبل أن يتمكن في قلبه، ولم يزل أكابرهم تنهى أصاغرهم
عن مطلق النظر في ذلك، وصولة الملوك قاهرة لمن وقر في قلبه شيء من ذلك إلا
من شاء الله منهم.
هذا وقد رأى معاوية وأصحابه رضي الله عنهم منابذة أمير المؤمنين علي بن
أبي طالب رضي الله عنه بل وقتاله ومناجزته الحرب، وهم في ذلك مخطئون
بالإجماع واستمروا في ذلك الخطأ حتى ماتوا ولم يشتهر عن أحد من السلف تكفير
أحد منهم إجماعًا، بل ولا تفسيقه بل أثبتوا لهم أجر الاجتهاد، وإن كانوا مخطئين
كما ذلك مشهور عند أهل السنة.
ونحن كذلك لا نقول بكفر من صحت ديانته وشهر صلاحه، وعلم ورعه
وزهده، وحسنت سيرته، وبلغ من نصحه الأمة ببذل نفسه لتدريس العلوم النافعة
والتأليف فيها وإن كان مخطئًا في هذه المسألة أو غيرها، كابن حجر الهيتمي فإنا
نعرف كلامه في (الدر المنظم) ولا ننكر سعة علمه ولهذا نعتني بكتبه كشرح
الأربعين والزواجر وغيرهما ونعتمد على نقله إذا نقل؛ لأنه من جملة علماء
المسلمين.
هذا ما نحن عليه مخاطبين به مَن له عقل أو علم وهو متصف بالإنصاف،
خالٍ عن الميل إلى التعصب والاعتساف، ينظر إلى ما يقال لا إلى من قال، وأما
من شأنه لزوم مألوفه وعادته سواء كان حقًّا أو غير حق فقلد من قال الله تعالى فيهم
{إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ} (الزخرف: ٢٣) عادته
وجبلته أن يعرف الحق بالرجال لا الرجال بالحق، فلا نخاطبه وأمثاله إلا بالسيف
حتى يستقيم أوده، ويصح معوجه، وجنود التوحيد بحمد الله منصورة، وراياتهم
بالسعد والإقبال منشورة {وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ} (الشعراء:
٢٢٧) {فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الغَالِبُونَ} (المائدة: ٥٦) وقال تعالى: {وَإِنَّ
جُندَنَا لَهُمُ الغَالِبُونَ} (الصافات: ١٧٣) {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ المُؤْمِنِينَ} (الروم: ٤٧) {وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} (الأعراف: ١٢٨) .