للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


مقاومة المبشرين وتخاذل المسلمين

تشتد جرأة دعاة التنصير في مصر عامًا بعد عام بما ظهر لهم من ضعف
الغيرة الإسلامية وانهماك المسلمين في الشهوات والأهواء حتى كادت الإباحة تعم
الطبقات الوسطى تقليدًا للطبقات العليا في التفرنج والفسق، لا في الفضيلة والعلم.
وقد تفاقم الأمر في هذا العام، وظهر احتقارهم للأمة والحكومة فعرفه الخاص والعام،
وأكثرت الجرائد من نشر حوادثهم المنكرة، ولا سيما إغواء البنات في المدارس،
فهب بعض أولي الغيرة للدفاع عن دينهم وشرفهم، ووجهت دعوة خاصة للاجتماع
في نادي جمعية الشبان المسلمين للبحث في طرق المقاومة والدفاع، فاستجاب لها
جمهور عظيم من الطبقات المثقفة، من المستقلين والمنتمين إلى الأحزاب المختلفة،
وعقدوا جلسة اختاروا لرياستها الأستاذ الأكبر الحازم الشيخ محمد مصطفى
المراغي، فوضعوا أساسًا لاجتماع آخر ينظر فيه ما وضعوه من المبادئ العامة
للعمل لتقرير ما يرونه منها وتأليف جمعية لتنفيذه.
وقد اقترحت في هذه الاجتماع الأول خمسة أمور:
(١) أن توجه الدعوة إلى العلماء في مصر وغيرها.
(٢) إلى خطباء المساجد ووعاظها للاشتراك في العمل.
(٣) أن يكتب إلى بطاركة الطوائف المسيحية كلها خطاب من الجمعية
الرسمية بعد تأسيسها يبين لهم فيه أن العمل لمقاومة أعمال دعاة التنصير المعتدين
على المسلمين الطاعنين على دينهم وكتابهم ونبيهم، يُتَحَرَّى فيه عدم مقابلتهم بمثل
مطاعنهم، ويُتَّقَى فيه كل قول وعمل يُخِلُّ بما بين المسلمين وسائر الطوائف التي
تعيش معهم في هذا القطر الآمن الحر بالمودة والتعاون على جميع المصالح والمنافع
الوطنية.
(٤) إلى الحكومة بما يجب عليها.
(٥) تأليف لجنة للدعاية والنشر تؤلف وتترجم الكتب والرسائل وتنظم
الأناشيد والقصائد، وتنشرها في البلاد الإسلامية كلها.
كان هذا الاجتماع في ٢٩ صفر الماضي ثم عقد الاجتماع الثاني بعد أسبوع،
ولم أحضره لعذر عرض لي، وقد قرروا فيه تأليف جمعية عامة باسم (جمعية
الدفاع عن الإسلام) وانتخبوا لها لجنة تنفيذية وانتخبوا للرياسة العامة الأستاذ الأكبر
الشيخ محمد مصطفى المراغي، وأن تكتب اللجنة خطابًا يوجه إلى جلالة الملك،
وخطابًا آخر إلى الحكومة المصرية، وثالثًا إلى الأمة، ورابعًا إلى وزراء الدول
المفوضين لدى الحكومة، ثم شرعت في العمل ووضعت له نظامًا عامًّا ربما ننشره
في جزء آخر.
وكانت الجرائد قد أكثرت من مطالبة مشيخة الأزهر بالعمل في هذه السبيل،
وطفق بعضها يدعم المطالبة بشيء من اللوم والتثريب، فاجتمعت هيئة كبار العلماء
برياسة رئيسها الشيخ الأكبر شيخ الجامع الأزهر في اليوم الثالث من شهر ربيع
الأول وقررت أمرين: (أحدهما: مطالبة الحكومة بأن تسن تشريعًا حازمًا حاسمًا
يجتث بذور هذا الفساد، ويستأصل شأفة هذا المرض الوبيل الفتاك، كي يطمئن
المسلمون على الدين الإسلامي والقرآن المجيد، وكي يكون أولادهم وإخوانهم
وأقاربهم في مأمن من أن تصل إليهم يد بالاعتداء والإغراء لتحويلهم عن دينهم،
وقد عهدت الهيئة إلى رئيسها شيخ الجامع في تنفيذ ذلك.
والأمر الثاني: إصدار بيان إلى الأمة الإسلامية نشرت نصه، وخلاصته ذكر
مجمل مما نشر في الجرائد من أعمال هؤلاء الدعاة إلى التنصير والنصح للأمة
بالحذر وما يجب عليها من إحباط أعمالهم، وحثها على إنشاء مثل ما لهم من
المستشفيات والمدارس والملاجئ التي هي وسائل التنصير عندهم.
فأما هذا النصح فهو حسن، وهو أسهل ما يكتب وأهون ما يقال، وأما ذلك
التشريع الذي قرروا مطالبة الحكومة به فهو غريب غير معقول، ولن يكون له عند
الحكومة نصيب من القبول، ولا ندري كيف ينفذه شيخ الأزهر وهو أتبع للحكومة
من ظلها، وأغرب ما فيه جعل الغاية منه اطمئنان المسلمين على الدين الإسلامي
والقرآن المجيد، فهل ترى هيئة كبار علماء الأزهر أن المسلمين مضطربون
خائفون على زوال الإسلام والكفر بالقرآن، مما يبثه دعاة التنصير السفهاء من
الزور والبهتان؟ ثم هل تعتقد الهيئة (بارك الله فيها) كما يدعو شيخ الأزهر - أن
يزول هذا الاضطراب والزلزال، ويخلفه الأمن والاطمئنان، بتشريع حازم يضعه
مجلس الوزراء؟ وكيف يضع ما يعجز عن تنفيذه؟
ندع بسط الكلام في هذه المسألة إلى أن ينفذ شيخ الأزهر قرار هيئة علمائه إن
نفذه، وقبل الانتقال إلى غيره نقول: إن جميع مطاعن الكفار في القرآن لا يُخْشَى
أن تصرف المسلمين عن هدايته وتحجب عنهم نوره بقدر معشار ما تفعله مجلة
مشيخة الأزهر (نور الإسلام) في تحريمها عليهم الاهتداء بهذا النور المبين؛
لزعمها أنه غير جائز إلا للأئمة المجتهدين، فإنها طعنت في الإمام الشوكاني أقبح
الطعن؛ لأنه أنكر على المقلدين العمل بكلام علماء مذاهبهم المخالف لكتاب الله
تعالى، وحثهم على تقديم كلام ربهم على كلام علماء مذاهبهم، وعدت هذا طعنًا
منه في أئمة المذاهب، كأن مفتي هذه المجلة وناشر هذا الضلال فيها وهو من هيئة
كبار العلماء التي تريد حماية القرآن من المبشرين يرى أنه لا يوجد في كلام علماء
المذاهب ما يخالف القرآن إلا كلام أئمتهم، فامنعي أيتها الهيئة لكبار العلماء أفرادك
عن صد المسلمين عن هداية القرآن والاستضاءة بنوره قبل أن تطالبي الحكومة
بوضع شريعة تمنع المبشرين من عملهم وما هي بفاعلة.
وقع تأليف جمعية الدفاع عن الإسلام (من أحرار العلماء وزعماء الأحزاب،
وكبار الكتاب ومديري الجرائد المشهورة) كالصاعقة على رءوس الحكومات التي
تنتمي إليها جمعيات التنصير وتتولى حمايتها، وحسبوا ألف حساب لتنبيهها الشعور
الإسلامي العام لعداوة من يعادون الإسلام ويحقرونه ويحاولون إطفاء نوره،
وأعلنت الجرائد الإنكليزية الكبرى في عاصمتهم هذا الخوف، وظاهرتها الجرائد
الألمانية والأميركانية، ودب دبيبها إلى الجرائد اللاتينية، فاستولى الرعب على
الحكومة المصرية كدأبها مع الإفرنج عامة، والإنكليز خاصة، فبادرت إلى منع
(جماعة الدفاع عن الإسلام) من عقد الاجتماعات العامة لدعوة المسلمين إلى التعاون
على هذا الدفاع ببذل المال، وما يجب في ضمن دائرة القانون والاعتدال من
الأعمال، ثم منعت سائر الجماعات والخطباء من مثل ذلك، وأمرت مشيخة
الأزهر بتأليف لجنة من هيئة كبار العلماء تقوم بما تراه الحكومة من العمل الواجب
الذي لا يثير سخط الأجانب، فنفذت مشيخة الأزهر الأمر، ولم يلبث أن انكشف
الستر، وذاع السر، بما نشرته جريدة التيمس الإنكليزية الشهيرة، ثم بما فاه به
معالي وزير المعارف في خطبته المأثورة، وهكذا شأن المسلمين منذ حل غضب
الله عليهم، وبخذل بعض كبرائهم بعضًا في كل مصالحهم، ومن فروع هذا الخذلان
طعن بعض جرائد المسلمين على لجنة الدفاع عن الإسلام، واتهامها بضد سعيها أي
بمصانعة الإنكليز والتقصير في مقاومة التبشير، وإنما كانت هذه الجرائد هي
الخادمة للإنكليز وللمبشرين بهذا الطعن، وإن كانت تعاليم في السياسة.