للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


تتمة الاجتماع الخامس لجمعية أم القرى

قال (المحدث اليمني) إننا معشر أهل اليمن ومن يلينا من أهل الجزيرة كما
إننا لم نزل بعيدين عن الصنائع والفنون كذلك لم نزل على مذهب السلف في الدين
بعيدين عن التفنن فيه، ومسلكنا مسلك أهل الحديث، وأكثرنا يُخَرِّجُ الأحكام
على أصول اجتهاد الإمام زيد بن علي بن زين العابدين أو أصول الإمام أحمد بن
حنبل وإني أذكر للإخوان حالتنا الاستهدائية عسى أن الذكرى تنفع المؤمنين، وعسى
أن يعلم المسلمون ولا سيما الأتراك ومن يحكمون أننا من أهل السنة لا كما يوهمون أو
يتوهمون فأقول: إن المسلمين عندنا على ثلاث مراتب: العلماء والقراء والعامة.
فالطبقة الأولى (العلماء) وهم كل من كان متصفًا بخمس صفات:
١ـ أن يكون عارفًا باللغة العربية المضرية القرشية بالتعلم والمزاولة معرفة
كافية لفَهْم الخطاب لا معرفة إحاطة بالمفردات ومجازاتها وبقواعد الصرف
وشواذه والنحو وتفصيلاته والبيان وخلافاته والبديع وتكلفاته مما لا يتيسر
إتقانه إلا لمن يفني ثلثي عمره فيه مع أنه لا طائل تحته ولا لزوم لأكثره إلا
لمن أراد الأدب.
٢- أن يكون قارئًا لكتاب الله تعالى قراءة فهم للمتبادر من معاني
مفرداته وتراكيبه مع الاطلاع على أسباب النزول ومواقع الكلام من كتبها
المدونة المأخوذة من السنة والآثار وتفاسير الرسول عليه السلام، أو
تفاسير أصحابه عليهم الرضوان، ومن المعلوم أن آيات الأحكام لا تجاوز
المائة والخمسين آية عدًّا [١] .
٣ - أن يكون متضلعًا في السنة النبوية المدونة على عهد التابعين
وتابعيهم أو تابعي تابعيهم فقط بدون قيد بمائة ألف أو مائتي ألف حديث بل
يكفيه ما كفى مالكًا في موطئه وأحمد في مسنده، ومن المعلوم أن أحاديث
الأحكام لا تجاوز الألف وخمسمائة حديث أبدًا [٢] .
٤ - أن يكون واسع الاطلاع على سيرة النبي وأصحابه وأحوالهم من
كتب السيرة القديمة والتواريخ المعتبرة لأهل الحديث كالحافظ الذهبي وابن
كثير ومن قبلهم كابن جرير وابن قتيبة ومن قبلهم كمالك والزهري
وأضرابهم.
٥ - أن يكون صاحب عقل سليم فطري لم يفسد ذهنه بالمنطق والجدل
التعليميين [٣] والفلسفة اليونانية والإلهيات الفيثاغورسية وبأبحاث الكلام
وعقائد الحكماء ونزعات المعتزلة وإغرابات الصوفية وتشديدات الخوارج
وتخريجات الفقهاء المتأخرين وحشويات الموسومين وتزويقات المرائين
وتحريفات المدلسين (مرحى)
فأهل هذه الطبقة يستلهمون بأنفسهم ولا يقلدون إلا بعد الوقوف على دليل
من يقلدون فإذا وجدوا في المسألة قرآنًا ناطقًا لا يتحولون عنه لغيره مطلقًا وإذا
كان القرآن محتملاً لوجوه فالسنة قاضية فيه مفسرة له، ثم ما لم يجدوه في
كتاب الله أخذوه من صحيح سنة رسول الله سواء كان الحديث مستفيضًا أم غير
مستفيض عمل به أكثر من واحد من الصحابة المجتهدين أم لم يعمل به إلا واحد فقط
ومتى كان في المسألة حديث صحيح لا يعدلون عنه إلى اجتهاد، ثم إذا لم
يجدوا في المسألة حديثًا يأخذون بإجماع علماء الصحابة، ثم بقول جماعة من
الصحابة والتابعين ولا يتقيدون بقوم دون قوم، فإن وجدوا مسألة يستوي فيها
قولان رجَّحوا أحدهما بمرجح يقوم في الفكر لا يتبعون فيه أصولاً موضوعة
غير مشروعة أو طرقًا مقررة غير مرفوعة وأهل هذه الطبقة عندنا ينورون
أذهانهم بأصول استدلالات الإمام زيد رضي الله عنه أو غيره من الأئمة في
تخريج الأحكام واستنباطها من النصوص بدون تقيد بتقليد أحدهم خاصة دون
غيره؛ لأنهم لا يجوزون اتباع إمام إذا رأوا ما ذهب إليه في المسألة بعيدًا عن
الصواب فلا يقلدون أحدًا تقليدًا مطلقًا كأنه نبي مرسل.
والطبقة الثانية هم (القراء) وهم الذين يقرأون كتاب الله تعالى قراءة
فهم بالإجمال مع اطلاع على جملة صالحة من سنة رسول الله صلى الله عليه
وسلم فهؤلاء يستهدون في أصول الدين بأنفسهم؛ لأنها مبنية غالبًا على قرآن
ناطق أو سنة صريحة أو إجماع عام مفسر لغير الناطق والصريح.
وأما في الفروع فيتبعون أحد العلماء الموثوق بهم عند المستهدي من
الأقدمين أو المعاصرين بدون ارتباط بمجتهد مخصوص أو عالم دون آخر مع
سماع الدليل والميل إلى قبوله كما كان عليه جمهور المسلمين قبل وجود
المتعصب للمذاهب.
والطبقة الثالثة هم (العامة) وهؤلاء يهديهم العلماء مع بيان الدليل
بقصد الإقناع، فالعلماء عندنا لا يَجْسُرُونَ على أن يفتوا في مسألة مطلقًا ما لم
يذكروا معها دليلها من كتاب منتقى الأخيار الذي شرحه وهو ليس له،
والعرب لم يهملوا المنطق وإنما خرجوا به عن النظريات المحضة إلى الكتاب
أو السنة أو الإجماع، ولو كان المستفتي أعجميًا أميًّا لا يفهم ما الدليل
وطريقتهم هذه هي طريقة الصحابة كافة والتابعين عامة والأئمة المجتهدين
والفقهاء الأولين من أهل القرون الأربعة أجمعين (مرحى) . ...
والتزام علمائنا هذه الطريقة مبني على مقاصد مهمة أعظمها تضييق
دائرة الجرأة على الإفتاء بدون علم وفي هذا التضييق على العلماء توسعة
على المسلمين وسد لباب التشديد في الدين والتشويش على القاصرين، ولهذه
الحكمة البالغة بالغ الله ورسوله في النكير على المتجاسرين على التحليل
والتحريم والمستسلمين لمحض التقليد.
فالعالم عندنا لا يستطيع أن يجيب إلا عن بعض ما يسأل ولا يأنف أن
يقف عند (لا أدري) بلى يحذر ويخاف من غش السائل وتغريره إذا أجابه بأن
فلانًا المجتهد يقول: إن الله أحل كذا أو حرم كذا؛ لأن السائل لا يعلم ما يعلم
هو من أن هذا المجتهد الذي ليس بمعصوم كثيرًا ما يخالف في قوله من هو
أفضل منه من الصحابة والتابعين ومن أنه يتردد في رأيه وحكمه، كم اجتهد
وكم رجع، ومن أن أكثر دلائله إما ظنية الثبوت أو ظنية الدلالة أو ظنيتهما،
ومن أنه لم يدون ما قاله ولكن نقله عنه الناقلون، وكم اختلفوا في الرواية عنه
بين سلب وإيجاب ونفي وإثبات وكم زيف أصحابه اجتهاده ورأوا غير ما رآه
ومن أنه أي المجتهد إنما اجتهد لنفسه وبلغ عذره عند ربه وصرح بعدم جواز
أن يتبعه أحد فيما اجتهد وتبرأ من تبِعة الخطأ.
فهذا (الإمام مالك) رضي الله عنه يقول: ما من أحد إلا وهو مأخوذ من
كلامه ومردود عليه إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونقل المؤرخون أن
المنصور لما حج واجتمع بمالك أراده على الذهاب معه ليحمل الناس على
الموطأ كما حمل عثمان الناس على المصحف فقال مالك: لا سبيل إلى ذلك؛
لأن الصحابة افترقوا بعد وفاة النبي عليه الصلاة والسلام في الأمصار يريد أن
السنة ليست بمجموعة في موطئه الذي جمع فيه مرويات أهل المدينة.
وحكي في اليواقيت والجواهر أن (أبا حنيفة) رضي الله عنه كان يقول:
لا ينبغي لمن لا يعرف دليلي أن يأخذ بكلامي، وكان إذا أفتى يقول: هذا رأي
النعمان بن ثابت- يعني نفسه - وهو أحسن ما قدرنا عليه فمن جاء بأحسن منه
فهو أولى بالصواب.
وروى الحاكم والبيهقي أن (الشافعي) رضي الله عنه كان يقول: إذا
صح الحديث فهو مذهبي، وفي رواية: إذا رأيتم كلامي يخالف الحديث
فاعملوا بالحديث واضربوا بكلامي الحائط وأنه قال يومًا للمزني: يا إبراهيم
لا تقلدني فيما أقول وانظر في ذلك لنفسك فإنه دين، وكان يقول: لا حاجة في
قول أحد دون رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ويروى عن (أحمد بن حنبل) رضي الله عنه أنه رأى بعضهم يكتب
كلامه فأنكر عليه وقال: تكتب رأيًا لعلي أرجع عنه، وكان يقول: ليس لأحد مع
الله ورسوله كلام، وقال لرجل لا تقلدني ولا تقلد مالكًا ولا الأوزاعي ولا الحنفي
ولا غيرهم وخذ الأحكام من حيث أخذوا من الكتاب والسنة، وأسس
مذهبه على ترك التأويل والترقيع بالرأي واتباع الغير فيما فيه طريق العقل واحد.
ونقل الثقاة أن (سفيان الثوري) رضي الله عنه لما مرض مرض الموت
دعا بكتبه فَغَرَّقَها جميعًا.
وروي عن (أبي يوسف وزُفر) رحمهما الله تعالى أنهما كانا يقولان:
لا يحل لأحد أن يفتي بقولنا ما لم يعلم من أين قلنا، وقيل لبعض أصحاب أبي
حنيفة: إنك تكثر الخلاف لأبي حنيفة فقال: لأنه أوتي من الفهم ما لم نؤتَ
فأدرك ما لم ندرك ولا يسعنا أن نفتي بقوله ما لم نفهم دليله ونقنع (مرحى) .
ثم قال: أيها الإخوان الكرام قد أطلت المقال فاعذروني فإني من قوم ألفوا
ذكر الدليل وإن كان معروفًا مشهورًا وقد ذكرت طريقة علماء العرب في
الجزيرة منوهًا بفضلها لا بفضلهم على غيرهم كلا بل غالب علماء سائر
الجهات أحدّ ذهنًا وأدق نظرًا وأغزر مادة وأوسع علمًا، ولذلك لم نزل نحن في
تعجب وحيرة من نظر أولئك العلماء المتبحرين في أنفسهم العجز عن الاستهداء
وقولهم بسد باب الاجتهاد.
نعم لم يبق في الإمكان أن يأتي الزمان بأمثال ابن عمر وابن عباس أو
النخعي وداود أو سفيان ومالك أو زيد وجعفر أو النعمان والشافعي أو أحمد
والبخاري رضي الله عنهم أجمعين، ولكن متى كلف الله تعالى عباده بدين لا يفقه
إلا أمثال هؤلاء النوابغ العظام؟! أليس أساس ديننا القرآن وقد قال تعالى عنه فيه:
{إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِياًّ لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} (الزخرف: ٣) وقال تعالى:
{كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآناً عَرَبِياًّ} (فصلت: ٣) وقال تعالى: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا
القُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ} (القمر: ١٧) وقال {وَلَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكَ آيَاتٍ
بَيِّنَاتٍ} (البقرة: ٩٩) وقال تعالى: {َفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ القُرْآنَ} (النساء: ٨٢)
فما معنى دعوى العجز والتمثيل بمن قالوا: {قُلُوبُنَا غُلْفٌ} (البقرة: ٨٨)
حمانا الله تعالى (مرحى) .
أما السنة النبوية أفلم تصل إلينا مجموعة مدونة بِهِمَّةِ أئمة الحديث جزاهم
الله خيرًا الذين جابوا الأقطار والبلاد التي تفرق إليها الصحابة رضي الله عنهم
بسبب الفتوحات والفتن فجمعوا متفرقات ودوَّنوها وسهَّلوا الإحاطة بما لم يتسهل
الوقوف عليه لغير أفراد من علماء الصحابة الذين كانوا ملازمين النبي عليه
السلام.
وكذا يقال في حق أسباب النزول ومواقع الخطاب ومعاني الغريب في
القرآن والسنة فإن علماء التابعين وتابعيهم والناسجين على منوالهم رحمهم الله لم
يألوا جهدًا في ضبطها وبيانها.
وكذلك الأئمة المجتهدون والفقهاء الأولون علمونا طرائق الاستهداء
والاجتهاد والاستنباط والتخريج والتفريع وقياس النظير على النظير فهم
أرشدونا إلى الاستهداء وما أحد منهم دعانا إلى الاقتداء به مطلقًا (مرحى) .
ثم إننا إذا أردنا أن ندقق النظر في مرتبة علم أولئك المجتهدين العظام لا
نجد فيهم علمًا وهبيًا أو كسبيًا خارقًا للعادة فهذا الإمام الشافعي رحمه الله وهو
أغزرهم مادة وأول وأعظم من وضع أصولاً لفقهه نجده قد أسس مذهبه على
اللغة فقط من حيث المشترك والمتباين والمترادف والحقيقة والمجاز والاستعارة
والكناية والشرط والجزاء والاستثناء المتصل والمنفصل والمنقطع والعطف
المرتب وغير المرتب والفور والتراخي والحروف ومعانيها إلى قواعد أخرى لا
تخرج عن علم اللغة، واتبع أبا حنيفة في إدخاله في أصول مذهبه بعض قواعد
منطقية مثل دلالة المطابقة والتضمن والالتزام ومعرفة الجنس والنوع والفصل
والخاصة والعرض والمقدمين والنتيجة والقياس والمنتج واتبعه أيضًا في قياس
ما لم يرد فيه قرآن أو حديث على ما ورد فيه، وهكذا فتح كل من أولئك الأئمة
العظام لمن بعده ميدانًا واسعًا فجاء أتباعهم ومدوا الأطناب وأكثروا من الأبواب
وتفننوا في الأشكال وتنويع الأحكام وأحدثوا علمي الأصول والكلام، وهذا
التوسع كله ليس من ضروريات الدين بل ضرره أكثر من نفعه وما أشبه الأمور
الدينية بالأمور المعاشية كلما زاد التأنق فيها بقصد استكمال أسباب الراحة
انسلبت الراحة.
والقول الذي فيه فصل الخطاب أن الله سبحانه وله الحكم لم يرض منا أن
نتبع إلا علم الأفضل بل كلفنا بأن نستهدي كتابه وسنة رسوله على حسب
إمكاننا وطاقتنا وهو يرضى منا بجهدنا حيث قال تعالى: {لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً
إِلاَّ وُسْعَهَا} (البقرة: ٢٨٦) فنسأل الله التوفيق لسواء السبيل.
قال الأستاذ الرئيس: إني أحمد الله تعالى على توفيقه إيانا إلى هذا
الاجتماع المبارك الذي استفدنا منه ما لم نكن نعلمه من قبل عن حالة إخواننا
وأهل ديننا في البلاد المتباعدة ولم يكن يسمع بعضنا عن بعض شيئًا إلا من
السياح المتكدين الجهلاء الذين لا يعرفون ما يصفون أو من أهل السياسة
والعلماء المتشيعين لهم الذين ربما يموهون الحق بالباطل بقصد تفريق الكلمة
ومنع الائتلاف (مرحى) .
ثم قال هذا واليوم قد انسحب ذيل الظل وقرب الزوال وأذن لنا الوقت
بالانصراف.
((يتبع بمقال تالٍ))