إن للأجسام حياة وللنفوس حياة غير حياة الأجسام، ولكن بعضهما يرتبط ببعض، وإن للأفراد حياة، وللأمم حياة غير حياة الأفراد، ولكن إحداهما تتوقف على الأخرى. يُعرف الجسم الحي بطلب الغذاء الذي يحفظ حياته من الخارج ويدفع العوارض الضارة عنه؛ وإفراز المواد الميتة من بنيته، ويستوي في هذه الحياة النبات والحيوان، وتعرف النفس الحية بالحرص على الكرامة وارتفاع المنزلة بالحق وبدفع أسباب المهانة، وتوقِّي طرقها، وبالنضال عن الشرف أن تصل إليه أيدي العابثين، أو يصيبه وهم الواهمين، وأما حياة الأمة فهي أثر روح يسري في أفرادها فيشعرهم بأن مكان كل واحد منهم من مجموع الأمة مكان أحد أعضائه من جسده؛ فهو يلاحظ في كل عمل منفعة نفسه، ومنفعة أمته معًا، كما أن عمل كل عضو في البدن يكون سببًا في حفظ حياته من حيث هو سبب لحفظ حياة البدن كله. الجسم الحي أشرف من الجسم الميت وأبقى، بل الأجسام الميتة تكون غذاء للأجسام الحية ومتاعًا تتناول منه ما تحتاج إليه لتجعله عوضًا عما يندثر منها وينفصل عنها، كذلك الأمم الحية تتغذى من الأمم الميتة، وتنتزع منها ما تحتاج إليه في حفظ حياتها، وطول بقائها ودوام عزتها وشرفها. فالأمة الحية أشرف من الأمة الميتة وأرقى في مرتبة الوجود. قد يشتبه على الجاهلين التفاضل بين الناس في الحياة والموت بهذا المعنى؛ فيذهب الجهل ببعضهم إلى أن زيدًا الميت أفضل من عمرو الحي بما هو أكثر مالاً وعشيرة وأحسن أثاثًا ورِئْيًا. ولو رجعوا إلى العلم الصحيح والاختبار الدقيق لرأوا أنفسهم يفضلون معاملة فلان التاجر الذي يملك ألف دينارٍ على فلان الوارث الذي يملك مئة ألف، ويرون من الثقة والرجاء في الأول ما لا يرون في الثاني لأن الأول يجمع ويشيد، والثاني يبيد ويبدد، فالألف تنمو في كل عام، ومائة الألف تنقص في كل يوم من الأيام، حتى إن حديد البصر يرى الأول غنيًّا مثريًا، والثاني فقيرًا مستجديًا، ذلك أنه ينظر إلى المستقبل الذي يسيران إليه، فيمتثل له في الحاضر الذي يراهما فيه معروفة شؤون الأمم والشعوب، أخفى على الأكثرين من معرفة حال الأفراد والبيوت، فكم من جاهل يفضل أمة على أخرى؛ لأنها أصح دينًا وأعدل شريعة، أو لأنها أشرف أرومة، وأعرق في المجد جرثومة، أو لأن تراثها من سلفها أكثر. ومزاياها الجنسية أشهر، أو لأنها أكثر عددًا ومددًا، وأعز عشيرة ونفرًا؛ وإذا صح أن يكون هذا كله أو بعضه للأمة الميتة زمنًا من الأزمان؛ فإنه لا يبقي إلا ريثما تتصل بها أمة حية، فترى هذه تمتص جميع مزايا تلك ومقوماتها الحيوية، وتلك تتحمل آفات هذه وعللها البشرية، حتى تكون إحداهما في عليين، والأخرى في أسفل سافلين. يسهل على القارئ في الشرق القريب، أن ينظر فيما بين يديه من الشعوب التي تضمها جنسية سياسية أو لغوية، وتفصل بينها روابط نسبية أو ملية، فإنه يرى شعبين يمتاز أحدهما بكثرة العدد، وكثرة المال، وقوة الحكم، وقوة العلم ثم يجد نفسه تفضل قليل المزايا منهما على كثيرها؛ لأنه يرى الشعب الكثير المزايا يتمزق ويتفرق؛ فتذهب مزاياه بذهاب الأعوام، والشعب القليل المزايا ينمو ويسمو ويجتمع ويتألف؛ فيعتز ويشرف بإقبال الأيام، يرى الشعب الكبير يتخاذل فيتضاءل، والشعب الصغير يتلاءم ويتعاظم، وما ذلك إلا أن في أحدهما نسمة حياة تدفع عنه الأعراض الضارة بالشعوب فيقوى ويزكو، وتغذيه كل يوم بغذاء جديد فينمو ويسمو، وليس في الآخر شيء من هذه الحياة فهو كجسم العاشق يذوب ويضمحل، ويحقر ويذل. ويسهل على القارئ في الشرق البعيد (كالهند) أن يرى مثل هذين الشعبين المتقابلين في الحياة والموت ولكنه يرى أكبرهما هو الذي يعز ويترقى، وأصغرهما هو الذي يذل ويتدلى، فلا تغره حينئذ دعوة بعض المتطفلين على علم الاجتماع وسنن الخليقة أن علة الحياة في الشعب الصغير القريب هي صغره وقلة عدده؛ لأن اجتماع العدد القليل للتعاون والتناصر وتوحيد المصلحة العامة أسهل من اجتماع العدد الكثير. ويشبه هذه الوهم تعليل بعضهم لنجاح صاحب الألف ونمو ثروته، وخيبة صاحب المئة الألف والعقار الواسع وتبدد تراثه، بأن تثمير المال القليل أسهل من تثمير الكثير! كذلك يقول من لا يعرف معنى الحياة في الأمم والأفراد، ولسنا بصدد بيان علة حياة أمة معينة وموت أخرى؛ فنفيض في كشف وهم الواهمين وجهل الجاهلين، وإنما غرضنا بيان معنى الحياة المعنوية، ومميزات واجديها ومخازي فاقديها. التمييز بين أمة في أعلى مراقي الحياة وأوج العزة والقوة، وأمة في الحضيض الأوهد، والشقاء المؤصد - مما يتناوله كل نظر، ويحكم به كل عقل، ولكن التمييز بين أمتين أو شعبين أحدهما يموت بعد حياة، وثانيهما يحيا بعد موت هو الذي يخفى على غير علماء الاجتماع المدققين؛ لأن الذي اعتاد على الحكم بادي الرأي، ينخذع بما يرى في الأول من علامات الحياة الموروثة؛ كأثارة من علم وبقية من حكم لا يجد مثلهما عند الثاني؛ فهو كمن يفضل وارث مئة ألف على كاسب الألف جاهلاً بما وراء ذلك من مصير ثروة الوارث إلى الزوال، ومسير ثروة الكاسب إلى الكمال. لا يغرنك ما ترى من آيات الحياة في أمة تقطعت روابطها، وانفصمت عروة الثقة بين أفرادها، وبغض إليها النظام، وفقدت التلاحم والالتئام، وإن كان ما تراه أخلاقًا كريمة، ومعارف صحيحة، وثروة واسعة، وسلطة نافذة، مع العلم بأن هذه الأشياء كلها هي آثار الحياة توجد بوجودها وتذهب لذهابها، فقد يكون ذلك من بقايا إرث قديم، يعبث به الفساد الحديث، إلا أن ترى العلم والأخلاق تقرب البعيد، وتجمع الشتيت، وتزيد في الثقة بين الناس، وتدعو إلى التعاون على البر والإحسان، وترى الثروة تجمع مع ملاحظة مصلحة الأمة، وينفق جزء منها على المنافع العامة، وترى السلطة موجهة لدفع الأذى عن البلاد، وإقامة العدل في العباد وإسعاد الأفراد على الاستقلال، وإعدادهم لمشاركة الحاكمين في الأعمال. روح الحياة في الأمة تحول الشر إلى خير، وفقدها يحول الفضائل إلى رذائل، فما يكون فيها من عزة وإباء يصير كبرًا وعجبًا، وما يبقى من كرم وسماح يصير إسرافًا وتبذيرًا، وتكون الشجاعة فيها سببًا للاعتداء والإيذاء، وجودة الرأي وسيلة للمكر والاحتيال، ويتحول فيها حب الشرف والكمال، إلى حب الفخفخة بالألقاب، وينقلب التنافس تحاسدًا، والإيثار أثرة وطمعًا وقس على هذا سائر الأخلاق التي تفسد. كذلك يكون العلم آلة لأهله يكيدون بها للناس ويوقعون بينهم ليستفيد الكائد من النزاع والشقاق، أما السلطة فإنها تكون الآلة المحللة لكل التئام، والممزقة لكل شمل، والمفرقة لكل اجتماع، إلا الاجتماع لتأييدها والخنوع لأصحابها، حتى إن الملك أو الأمير ليتَّجر بالأمة اتِّجارًا، بل يكون هو الغاصب والناهب ما استطاع، حتى إذا لم يبق للأمة قوة حافظة يبيعها للأجانب بالمحافظة على رياسته الصورية، وتمكينه من شهواته الحيوانية والشيطانية. تسري الأمراض الاجتماعية في الأمم فتذهب منها بمقومات الحياة من حيث لا تشعر ولا تدري ولذلك يبقى لها الغرور والدعوى بأنها أشرف الأمم وأفضلها ويعسر على من يكون على علم بأمراض الأمم أن يقنعها بأن أمة وضيعة مهينة وإن كانت أصوات الإهانة تصيح بها في كل يوم، وأسواط العذاب تقع عليها في كل آن، وإذا كانت متكئة في غرورها على عصا الدين كان إقناعها أعسر وإشعارها أبعد، وإن نخرت أَرَضَة البدع تلك المنسأة فانكسرت وخرت الأمة في مهواة الضلال فهلكت. إذا أهاب الداعي بالأمة المغرورة بالدين، وحاول إقناعها بالبراهين، وإيقاظ الشعور فيها بما تذوق من العذاب المهين، وَاثَبَه حماة البدع الجديد، وحمل عليه أنصار التقليد، واستعانوا عليه بالأمراء المستبدين، وحالوا بينه وبين العامة المساكين، بل العامة هي قوة رؤساء الدنيا والدين، بها يصولون على المصلحين، ولو كانوا يقارعون الدليل بالدليل، ويصارعون البرهان بالبرهان، لظهر للعامة سوء حالهم، وفساد أقوالهم وأفعالهم، ولكان للمصلح على انفراده، وضعف أنصاره وأعوانه، ما يغلبهم به على عزة سلطانهم، وعظم شأنهم؛ لأن الحق نصيره، والفطرة البشرية عونُه، لولا أنهم يفسدونها بتقاليدهم، ويحولون بينها وبين نور الإصلاح بغيوم سلطانهم {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لاَ تَسْمَعُوا لِهَذَا القُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ} (فصلت: ٢٦) أظهر دلائل الحياة في الأمة التولد والنمو في أسباب الارتقاء من العلوم والفضائل والأعمال العمومية فلا يموت فها شيء بموت القائم به، وأظهر دلائل الموت العقم والتحلل في ذلك؛ فلا يكاد يذهب منها شيء من الخير ويخلفه مثله؛ وإنما يموت العلم بموت العلماء، والفضل بموت الفضلاء؛ حتى تبقي حثالة بهم تبسل الأمة. لا تنزع روح الحياة من الأمة بما يعرض عليها من الأمراض؛ إلا إذا فتكت هذه بمزاج الأمة الجامع لأفرادها؛ وإذا كان مزاج الجسم يتألف من أمشاج متعددة كالدم والعصب واللمفا؛ فمزاج الأمة الاجتماعي يتألف مثله من أصول متعددة كالنسب والجنسية والدين والحكومة، لذلك ترى الباحثين في إصلاح الأمم الفاسدة المزاج يتخلفون؛ فيقول بعضهم: إن الأمة لا تحيا إلا بتربية النساء التي هي الأصل في صلاح البيوت، ويقول آخرون إنها لا تحيا إلا بتقوية الرابطة الجنسية التي تكون باللغة أو الوطن، ويقول غيرهما: إن الأصل في الحياة هو الإصلاح الديني، على أن الدين عند المسلمين حاكم في كل شيء فإصلاحهم من جهته إصلاح لكل شيء ويخالفهم مخالفون قائلين: بل الإصلاح إنما يكون بصلاح حال الحكومة؛ لأن السياسة هو المدبرة لكل شيء، والصواب أن معاجلة كل ما فسد من الأصول التي يتألف منها المزاج مما لابد منه لشفاء الأمة وجعلها في عداد الأمم الحية. ولكن يقال: إن هذه الأصول ترجع إلى أصلين الأمة والحكومة، أيهما صلح يسهل عليه إصلاح الآخر ولكن ما يجيء من جانب الحكومة يكون أسرع وما يأتي من الأمة يكون أدوم وأثبت، وقد بينا ذلك في السنة الأولى من سني المنار، وسننشر في الأجزاء الآتية مقالات في أنواع الحياة النسبية أو الزوجية، والملية والجنسية، والسياسية، ونبين كيف يكون الإصلاح فيها، والله الملهم للسداد.