للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: رضاء الدين بن فخر الدين


مطالب مسلمي روسيا من دولتهم
تتمة رسالة الشيخ رضاء الدين

الكلام على المادة الثامنة
نحن نعبر هنا عما أتى في هذه المادة (بالخصومات العائلية) توخيًا للسهولة.
وفي الواقع أن هذا الخصومات لا تعدو البيوت (العائلات) في الغالب، وهي
تفارق الخصومات الأخرى بوجوه عديدة. لاجتهاد المجتهد دخل كبير في سائر
الخصومات، وكثيرًا ما يعول القاضي في فصلها عليه. وأما الخصومات العائلية:
فمعظمها - إن لم نقل كلها - يرجع في فصلها إلى الكتاب والسنة فقط. وتقسيم التركة
مثلاً لا حاجة فيه إلى الاجتهاد بالمرة، وإنما العمدة فيه الكتاب والسنة. أو نقول: إن
الحاجة فيه الى الاجتهاد شاذة نادرة.
ليست محاولة الحكومة الروسية أخذ فصل الخصومات العائلية من أيدي قضاة
المسلمين وتسليمها إلى المحاكم المدنية أمرًا حديثًا. بل يظهر من مطالعة كتاب
(رحلة تركستان) لرجل يقال له: (شيللر) أن الحكومة همت بهذا الأمر قبل اليوم
بثلاثين سنة، غير أنه قد عرض حينئذ في سبيل إتمامه عوائق، اضطرتها إلى
إرجائه إلى يوم يواتيها.
لا أرى وسيلة معقولة تتوسل بها الحكومة إلى سلب قضاة المسلمين حق فصل
(الخصومات العائلية) سوى زيادة هضم حقوق المسلمات، وعدم اقتدار علماء
المسلمين على تلافي هذا الخلل في الحكم والقضاء.
إذا فاجأتنا الحكومة قائلة: أيها المسلمون، قد عم وطم بينكم ظلم النساء
والإجحاف بحقوقهن، وقضاتكم لا يفكرون في إصلاح هذا الخلل، والخطب يتفاقم
يومًا فيومًا، أفيجدينا نفعًا أن نجاوبها قائلين: نحن برءاء مما تتهمينا به؟ أو أن
نقول: ليبق الأمر بأيدينا، ولو كانت الحال كما تقولين: كلا.
إن رجال الحكومة لا تخفى عليهم خافية من شؤوننا؛ لأنهم يراقبوننا بقلوب
متيقظة وعيون ساهرة، وإن كنا نخالهم غافلين عنها. نعم، إن العرائض التي تُرفَع
إلى المقامات العالية من قبل المسلمات قليلة بالنسبة إلى عدد النفوس. غير أن قلتها
لا تصلح أن تكون دليلاً على قلة وقوع الظلم عليهن؛ لأن المسلمات في هذه البلاد
متحجبات، لا يمكنهن التظلُّم والتشكي من حالهن بأنفسهن. وفريق منهن يزجين
الأيام في العذاب الأليم والشقاء الدائم متسليات بإحالة الأمور إلى القضاء والقدر.
فإبقاؤهن على هذه الحالة التعيسة جدير بأن يعد ضربًا من الظلم، وعدم
الاكتراث بشأن هؤلاء المسكينات. مطالبتنا الحكومة بما في هذه المادة، كما هو
تشبه قولنا لها: لا يهمنا أمر المسلمات وإنصافهن، وإنما يهمنا بقاء الأمر بأيدينا،
ولا أظن الحكومة تقنع لنا بمثل هذه المطالبة العارية من كل حجة وبرهان.
لا يقلُّ الظلم والحيف، ولا يكون الناس آمنين من قبل حكامهم، إلا إذا كان
القضاة الشرعيون يراعون مقاصد الشريعة العادلة، وكانت القوانين التي يعول عليها
في الحكم وطيدة الأركان ثابتة البنيان، وفصلت الدعاوي بالعدل وتحري منهج
الإنصاف.
إذا كانت القوانين ملائمة لمعاملات الناس وحالاتهم الاجتماعية، فلا جرم أنهم
يعيشون سعداء من هذه الجهة. وأما إذا كانت على العكس، فلا تزيد أمورهم إلا
ارتباكًا واختلالاً.
لا بد في وضع علم الحقوق من ملاحظة عادات الناس وطرق معاملاتهم، سواء
كان مبنيًّا على أساس الوضع الإلهي، أو على أساس العقول السليمة والآراء
الصائبة.
وغني عن البيان أن عادات الناس وأساليب معاملاتهم تتغير على اختلاف
الأعصار، وتحول الدول.
وهذا التغير الدائم يقضي بتبدل بعض قوانين الأزمنة الغابرة في الأزمنة
الحاضرة، وبتبدل بعض قوانين الأزمنة الحاضرة في الأيام الآتية. ومن هنا نرى
الدول الأوربية تجدد وتحور قوانينها في كل ربع عصر على الأقل. هذا أمر لا
مندوحة عنه في سير المجتمع البشري.
لا يخفى على المشتغلين بالعلم أن المتون المعول عليها في علم الحقوق
الإسلامية أو في الفقه الإسلامي؛ وضعت قبل اليوم بسبعة أو ثمانية قرون في بغداد
والري والشاش (المسمى اليوم طاشكند) وسمرقند ومرغينان ومرو وما إليها من
المدن المعمورة في سالف الأزمان. ولا شك أن مؤلفي تلك الكتب راعوا في وضعها:
عادات تلك العصور، ومناهج معايش أهل تلك البلاد. وبما أننا اليوم نعيش في
عصور غير عصورهم وفي بلاد غير بلادهم، نجد طائفة من القواعد الفقهية
المذكورة في تلك الكتب، يستحيل العمل بها في هذه الأيام في بلادنا؛ ولذلك نرى
القضاة الشرعيين فينا يلجؤون حينًا بعد حين إلى الحكم الجزافي. والحكم الجزافي -
وإن كان عظيمًا عند الله - لا تبدو مضاره الدنيوية في مرة أو مرتين. ولكنه إذا تكرر
عدة مرات، صار قاعدة مطردة في الحكم حتى إن الحكم بخلافه يوقع الحكومة
في ريبة، ويضعف ثقتها بقضائنا وقضاتنا. وما ينشأ عن هذا من المفاسد لا يعلمه إلا
أهل البصر من القضاة والحكام.
وبالجملة: إن كثيرًا من القواعد المذكورة في الكتب الفقهية، لا يمكن الأخذ
بها في الأزمنة الحاضرة. وإن كثيرًا من الأشياء التي ظهرت في هذه الأيام لا ذكر
لها، ولا إشارة إليها في تلك الكتب. فلهذه الأسباب نرى القضاء الشرعي فينا
يتقلص ظلُّه يومًا فيوما، ولا يرتابنَّ أحد في شيوع الظلم وضياع الحقوق، إذا لم
يكن القضاء مبنيًّا على أصول تكفل العدل، وإيتاء كل ذي حق حقه.
ولذلك يصعب جدًّا أنْ نرد على الحكومة توجيهها إلينا ظلم النساء والإجحاف
بحقوقهن، بتطبيق الأمر على الواقع، وإن كان الرد عليها بالدلائل النظرية
والقواعد المنطقية سهلاً ميسورًا.
ومن هنا أقول: لا ينبغي لنا أن نطالب الحكومة بما أتى في هذه المادة بصورة
مبهمة مجملة، بل يجب علينا أن نقرن بها بعض الدلائل، قائلين مثلاً نحن لا
نرغب في بقاء فصل الخصومات العائلية بأيدي قضاتنا؛ لكون هذا الأمر عادة
معروفة فينا منذ عهد قديم فقط، بل نطلبه لكونه أمرًا دينيًّا بحتًا أيضًا؛ لأن حكم
القضاة غير المسلمين في مثل هذه الخصومات لا أثر له في نظر الشريعة الإسلامية
بل تحوير الفقه الإسلامي وجعله صالحًا للحكم به في هذا الزمان راجعان إلى
علماء المسلمين أنفسهم.
وفي وسع الحكومة أن تؤلف لجنة من علماء المسلمين الكبار، وتنوط بها
وضع كتاب فقهي في الدعاوي العائلية وأبواب القضاء، والشهادات والدعوى
والبينات، وما شاكلها من المباحث حتى يتخذه القضاة الشرعيون (دستورًا) ؛ للعمل
في القضاء، وفصل الخصومات:
ويمكن تلخيص كلامنا على هذه المادة في المباحث الآتية:
(١) كتبنا الفقهية لا تكفي اليوم لفصل الخصومات العائلية.
(٢) بعض القواعد الفقهية لا يمكننا الجري عليها فى هذه الايام.
(٣) القواعد الفقهية يجوز تغييرها بحسب اقتضاء الأزمنة والمصالح
العامة.
(٤) فصل الدعاوي العائلية من الأمور الدينية.
(٥) يجب وضع كتاب فقهي يكون عمدة للقضاة الشرعيين في قضائهم.
فنتكلم هنا على هذه المباحث الخمسة مبحثًا مبحثًا ولو باختصار، فنقول:
(المبحث الأول) : لو شئنا لسردنا هنا؛ لإثبات هذا المدعى دلائل كثيرة بيد
أننا لا نحب أن نطيل المقال بإيراد الأمثلة الجزئية المختلفة. غني عن البيان أن
كتبنا الفقهية أُلِّفت في زمان لم تكن فيه البوسطة (البريد المنتظم الحاضر)
والتلغراف والتليفون، وما إليها من المخترعات الحديثة.
وكذلك لم يكن فيه دفاتر للمواليد والوفيات المنتظمة كاليوم، ولا محكمة
الإشهاد التي تعرف في روسيا (بالناتاريوس) ، ولا شهادة المحاكم والأطباء، ولا
النفي إلى سيبيريا مؤبدًا أو مؤقتًا بمدة مديدة، ولا الحكم بالانخراط في سلك المحكوم
عليهم بالأشغال الشاقة، وما شاكلها من النظامات المستحدثة في الدول المتمدنة اليوم.
مع أن لهذه المذكورات دخلاً كبيرًا اليوم في معاملاتنا ودعاوينا، وفصل الخصومات
وإعلان الأحكام.
ولا يتسنى تطبيق أحكام تلك النظامات الحديثة على ما في الكتب الفقهية إلا
لأفراد قلائل من نوابغ العلماء. والكتب التي لا تصلح أن تكون عمدة لكل قاض
جديرة بأن يقال فيها: إنها لا تكفي لحاجة العصر الحاضر.
يكلف رجل مقيم في إحدى مدن سيبيريا امرأته الساكنة في أحد بلدان روسيا
المتوسطة بواسطة التلغراف بعد إشهاد محكمة (الناتاريوس) على هذا الكلاف. أو
يبعث رجل في مدينة موسكو بكتاب إلى زوجه في سيبيريا يخبرها فيه بطلاقها بعد
أن حول النقود التي تصرفها المرأة لنفقة العدة على إحدى البنوكة. ففي مثل هذه
النوازل يحار قضاتنا الشرعيون المتوسطون، فلا يكادون يستخرجون فيها حكمًا ما
من كتب فقهية تنوء ببعير. وأما كبار القضاة - وإن لم تملكهم الحيرة بالمرة - فلا
يعدو فكرهم مباحث (كتاب القاضي) ومبحث (جواز العمل بالخط وعدم جوازه) .
ولا يخفى على البصير أن فصل تلك القضايا بأمثال هذه المباحث أصعب من
خرط القتاد. فتضطر أولئك النساء إلى تزجية الأيام، كالمعلقات شاكيات القضاء
والقدرإلى آخر حياتهن.
(المبحث الثاني) : يقع أحيانًا أن جزأ من دعوى واحدة ينظر في مقاطعة
(ياكوتسكي) في أقاصي سيبيريا، وجزأً آخر في بلدة (بلاباي) (في أواسط
روسيا) . تلجأ قضاتنا اليوم عند النظر في أمثال هذه الدعاوي إلى ما في فصول
(كتاب القاضي إلى القاضي) من الأحكام. مع أن أوجه الأقوال في هذه الفصول
(وهو قول أبي يوسف) لا يمكن تطبيقه على ما يجري في هذه البلاد.
هذه المرأة الساكنة في بلاباي مثلاً تقضي ثلاثين أو أربعين عامًا من حياتها،
وهي تندب حظها. مع أن زوجها لا يزال في قيد الحياة وليس من المفقودين أيضًا،
ولا يتسنى لها الاجتماع معه ولو مرة في عمرها. يا ليت مثل هذه المرأة كانت
واحدة أو عشرًا فقط. بيد أنهن لسوء الحظ يعددن بمئات في جميع أنحاء البلاد
(الروسية) التي يسكنها المسلمون.
لا يذهبنَّ أحد إلى أني أطعن بكلامي السابق على الكتب الفقهية، وأحط من
قدر مسائل (كتاب القاضي إلى القاضي) ، فإن العمل بما في تلك الفصول كان
موافقًا غاية الموافقة للعصور الأولى المخدجة في كل أسباب العمران وشؤون التمدن.
وأما اليوم قد انقلبت الأمور ظهرًا لبطن، حتى لو رجع الإمام أبو حنيفة لنحى
الكتب الفقهية التي ألفها تلميذه الإمام محمد عن مستقرها الذي أقرتها فيه متفقهة
الأزمة المتأخرة، ووضع فقهًا جديدًا يلائم روح هذا الزمان لا محالة.
لا يحسن بنا البتة أن نحاول تطبيق الحوادث، وجميع شؤون الناس المتجددة
على القواعد المحصورة بين جلود الكتب الفقهية، بل يجب على كل بصير أن يبذل
غاية جهده في تطبيق تلك القواعد على الحوادث والعادات.
رأينا كثيرًا من الجامدين على الكتب الفقهية، كانوا يأبون كل الإباء تصديق خبر
رؤية الهلال الذي يرد إليهم ممن يعرفونه في البريد؛ إذ يجدونه غير مستوف للقيود
المذكور في باب (كتاب القاضي إلى القاضي) المذكور في كتب الفقه المتداولة.
مع أن هؤلاء لم يكونوا يرتابون أدنى ارتياب في كونهم هم أئمة المساجد
أصحاب المنشورات حين يتلقون منشوراتهم التي كانت ترسل إليهم من مراكز
الولايات بمئات من الوسائط - من يد مستخدم روسي في المركز (بمعناه المعروف
بمصر) .
يقضي قضاتنا اليوم في المرأة التي يعجز زوجها عن الإنفاق عليها باستدانتها
على زوجها، ولا يجوِّزون الفرقة بهذا السبب أبدًا.
كان هذا الحكم موافقًا في العصور الاولى (وربما يكون موافقًا في هذا العصر
أيضًا) لمعيشة من يسكنون الكوفة وبغداد، وأمثالهما من البلاد الحارة.
وأما بلادنا التي يحكم فيها البرد الشتوي الزمهريري عدة شهور، فمن المحال
العمل فيها بهذا الحكم؛ لأن المبلغ الذي يكفي في تلك البلاد الحارة لتعيش عشر
نساء، لا يكفي في بلادنا لتعيش نصف امرأة.
ليت شعري: ماذا تجني المرأة من وراء هذا الحكم الذي لا أثر له في الواقع.
لماذا لا يحكم باستدانة زوجها؟ وإذا لم يجد الرجل من يقرضه، فمن أين تجده
المرأة المستضعفة؟ أتظنون المرأة تنصرف من عند القاضي مبتهجة بتحسن حالها
عندما يقول لها: حكمنا لك بأن تستديني على زوجك؟ أي فرق بين حكم يمكن تنفيذه،
وبين حكم لا يترتب عليه أثر ما في الواقع؟
يشير علماؤنا في مسألة العنة المعضلة إلى العمل بأقوال النساء، هذه المسألة
قد طالما اعترف نطس الأطباء بعجزهم عن إدراك حقيقتها في هذا العصر الذي
ارتقى فيه علم الطب والتشريح ارتقاءً رائعًا (راجع كتاب حياتنا التناسلية) ، فكيف
يجوز لنا في مثل هذه المسألة الطبية المعضلة أن نعول على أقوال نسائنا
الجاهلات اللواتي لا يعرفن شيئًا سوى الثرثرة بالسفاسف والتباهي بالثياب
والرياش؟
طلبت ذات مرة امرأة الفرقة من زوجها في المحكمة الشرعية (باوفا - روسيا)
مدعية عنته، فحكمت المحكمة بالتأجيل المعروف في كتب الفقه. ثم ظهرت
مسألة أخرى وهي: هل الزوجان يقضيان الأجل المضروب معًا، أو يقضيانه كيفما
يشاءان؟
المرأة رضيت مساكنة زوجها إلى انتهاء الأجل غير أنها اشترطت الإقامة في
غير منزل حميها. وأتت بعدة موانع تمنعها من الإقامة فيه. وأما الرجل فهو رد على
المرأة دعواها قائلاً: إنه لا يمكنه مفارقة منزل أبيه؛ لأنه يقوم بحاجاته، وهما
مشتركان في مهنة واحدة. ولما أبطأت المحكمة في فصل هذه الدعوى فصلاً نهائيًّا،
رفعت المرأة إلى نظارة الداخلية عريضة شديدة اللهجة، تشكو فيها إبطاء المحكمة
الشرعية في حل القضية. فأخذت المحكمة تشتغل من جهة بالجواب عن استعلام تلك
النظارة. ومن جهة أخرى كتب إلى (القسم الطبي) (باصطلاح الحكومة هنالك)
كي يعمل الكشف الطبي للرجل والمرأة جميعًا. فعمل لهما الكشف الطبي عند شاهد من قبل المحكمة الشرعية إلى أن كتب القسم المذكور في شهادته سلامة
الرجل من العنة، وعدم تيقنه بشيء في أمر المرأة. أمثال هذه القضية تقع
في كل زمان.
ومن لنا بدلائل فقهية من مختصر القدوري والهداية، بل الجامع الصغير
يفصِّل أمثاله هذه الدعاوى فصلاً مرضيًا؟ ولا أظن أن هذا يتيسر لكل قاض من
قضاتنا الشرعيين. فتبين لنا مما سبق بالإجمال؛ أن كثيرًا من القواعد الفقهية
لا يمكن الجري عليها في هذا الزمان.
(المبحث الثالث) : لا يستلزم تغيير بعض ما في الكتب الفقهية بحسب
اقتضاء الزمان والمكان، وتبديل قواعدها البالية بقواعد كافلة لمصالح الناس في
عصورهم التي يعيشون فيها - تغيير أصول الشريعة الإسلامية العامة وتحريفها.
الفقه الإسلامي عبارة عن ركنين: ركن يتألف من أصول الشريعة المعروفة
عند أهل كل المذاهب المتبعة. وركن آخر عبارة عن القوانين الإسلامية المؤلفة من
آراء رجال معروفين وغير معروفين في أزمنة مختلفة.
القوانين الإسلامية لا فرق بينها وبين قوانين الروم القديمة، أو قوانين فرنسا
وأمريكا مثلاً في كون كل منها موضوعة بآراء الرجال. كل الآراء التي ارتآها
الفقهاء المتقدمون؛ لما اقتضت معاملات الناس وعاداتهم في زمانهم، واتبعوها بقولهم
(هذا هوالأوفق لهذا الزمان) ، أو (هذا هو الأرفق بالناس) ، أو (العقل السليم
يقضي بهذا) ، أو (عموم البلوى تجيز العمل بهذه القاعدة) ، وما إليها من أقوالهم.
كل هذه عبارة عن القانون الإسلامي الوضعي والسلام.
ولا بأس أن نشفع كلامنا هذا بمثال: كون نصيب البنت الواحدة من التركة
نصفًا حكم شرعي لا هوادة فيه؛ لأنه ثابت بالكتاب. أما قاعدة مراجعة النساء في
مسألة العنين، فهو قانون إسلامي؛ لكونه رأيًا بحتًا من آراء الفقهاء.
(لا أظن أن مسألة العنين وقعت على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم -
بجميع فروعها؛ لأن العلامة ابن القيم مع التزامه جمع كل الوقائع التي وقعت،
والأحكام التي صدرت مما يتعلق بالإسلام في ذلك الزمان، لا يذكر شيئًا من ذلك
القبيل كتابه (زاد المعاد) المعروف، بل مسألة التأجيل نفسها يروي الكمال في فتح
القدير كونها منقولة عن الخليفة الثاني والرابع فقط. وأما قاعدة العمل في هذه المسألة
بفتاوى النساء، فلم نعثر إلى الآن على مبتكرها مع طول بحثنا وتنقيبنا عنه في الكتب
الفقهية.
هذا في العنين. وأما الوسائل التي يذكرها الفقهاء للتوسل بها إلى معرفة
البكارة، فحدث عن غرابتها ولا حرج.
الحكم الشرعي الثابت بالكتاب مثلاً لا يجوز تغييره بوجه من الوجوه إلا في
الضرورة الملجئة. وأما القانون الإسلامي فلا أرى باسًا في تغييره وتطبيقه على
مصالح كل زمان ومكان؛ لأنه مهما تغير شكله وتبدلت صورته، لا يخرج عن
كونه قانونًا إسلاميًّا.
(المبحث الرابع) : كما أنه يجب أن تكون أصول الأحكام التي يبنى عليها
فصل الدعاوي العائلية أحد الأصول الشرعية المعروفة (لا يضر حكمنا هذا، ما في
تلك الأحكام من القوانين الإسلامية؛ لأن أحكام الآراء، إنما هي في فروع الأحكام
دون جوهرها، على أن القوانين الإسلامية نفسها لا مندوحة عن كون واضعيها
مسلمين) . فكذلك يجب أن يكون القضاة الذين يقضون بها قضاة شرعيين.
والقاضي الشرعي لكونه نائبًا في القضاء عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - لا بد
من كونه مسلمًا، ومن أجل هذا تجد خلفاء العباسيين لم يوسدوا القضاء إلى غير
المسلمين، حين وسدوا إلى علماء اليهود والنصارى والصابئين والمجوس أكبر
الوظائف غير القضاء.
كما أن نكاح المسيحيين لا يعد شرعيًّا إلا إذا باشر عقده أحد الروحانيين منهم.
فكذلك فصل الدعاوي العائلية في المسلمين، لا يعد شرعيًّا إذا جرى على يد قاض
غير مسلم، مهما كان بارعًا في الفقه الإسلامي؛ لأن القضاء في الدعاوي العائلية
وظيفة دينية بحتة، كالإمامة في الصلاة سواء بسواء. فنعلم من هذا أن قضاء
القاضي المسلم بالقوانين الوضعية في الدعاوي العائلية ليس بشيء في نظر الشرع،
فكيف بقضاء القاضي غير المسلم بتلك القوانين؟
ثم إن المذاهب المشهورة تشترط كون القاضي مجتهدًا. قضاء القاضي غير
المجتهد وإن كان ينفذ في مذهب الحنفية، غير أن لنا شبهة قوية في كون هذا القول
قول أبي حنيفة نفسه. على أنهم لا يجيزون قضاء القاضي المقلد إلا إذا كان مستندًا
إلى فتوى المفتي المجتهد. فلا يبقى كبير فرق بين المذهبين؛ لأن الأول يقضي
بكون القاضي مجتهدًا مباشرة. والثاني يقتضي كونه مجتهدًا بالواسطة. وعلى كل
حال لابد في فصل الدعاوي العائلية من قاض مجتهد أو مفت مجتهد. ولا يجوز
إفتاء غير المجتهد في المذهب الراجح. واشتراط الإسلام للاجتهاد أمر لا خلاف فيه
بين المسلمين.
أوجزنا الكلام بهذا الشأن إيجازًا، ولم نكتب ما كتبنا إلا بظن أنه قد يكون
عونًا على إبقاء فصل الدعاوي المذكورة بأيدي علمائنا. إذا نحن أنكرنا كون أئمة
مساجدنا قضاة شرعيين، وذهبنا مع ذلك إلى انقضاء عصر الاجتهاد وانسداد بابه،
كنا كمن نفض يده من النظر في تلك الدعاوي باختياره وسلمها إلى المحاكم المدنية
برضاه.
فمن العبث إذًا أن نتفاوض فيما بيننا في إبقائها على حالتها الأولى.
قال العلماء المحققون بجواز تخصيص القضاء ببعض الأحكام، وكذلك قالوا
بوجوب اتخاذ ثلاثة نفر من المسلمين القاطنين في موطن واحد منهم قاضيًا لهم.
صرحت الحكومة في قوانينها المتعلقة بأئمة المساجد: بأن في وسع الأئمة أن
يفصلوا القضايا العائلية الحادثة في أحيائهم بمقتضى شريعتهم، وأن يعلنوا الحكم
للمتخاصمين. وليس إليهم فصل الدعاوي المالية، فما الذي يمنع أن يكون هؤلاء
قضاة شرعيين؟ لا يمنعهم من ذلك كونهم منصوبين من قبل حكومة غير إسلامية؛
لأن القضاء يجوز تقلده من أية حكومة كانت.
ولا يعقل أن يكون المانع هو عدم تلقبهم بالقضاة. لأن القضاء لا يُشتَرط فيه
هذا اللقب (القاضي) . ولا إخال أَنَّ أحدًا يُنَازِعُنَا في ذلك، فما المانع إذًا؟ إن
الحكومة مكَّنت أئمة المساجد عندنا من النظر في دعاوي النكاح والطلاق وأمثالها
تمكينًا تامًا، حتى إنها تؤاخذهم مؤاخذة عنيفة؛ إذا هم قصروا في ذلك، كما أنها
تؤاخذهم إذا تخلفوا عن الإمامة في صلاة الجمعة بلا عذر شرعي. (ارجع إلى
القوانين المتعلقة بذلك) .
ليست المنشورات التي تعطيها المحكمة الشرعية لأئمة المساجد هي التي تثبت
لهم وظيفة القضاء؛ لأن نصب الأئمة والقضاء ليس إلى المحكمة الشرعية في هذه
البلاد. وإذا نظرتم إلى مواد القانون التي تذكر في منشورات الأئمة، ظهر لكم هذا
ظهورًا بينًا. فبما قلنا يتبين سقوط قول القائل: لا تكون أئمة المساجد قضاة
شرعيين إلا إذا نصبتهم المحكمة الشرعية.
ولا يجوز لنا أن نتخاذل في الأمور التي تناط بها حياة الأمة وبقاؤها، بل
يتحتم علينا أن نجيل قداح التشاور بعد أن نزعنا من قلوبنا كل غرض شخصي
وسخيمة كامنة.
إذا كان في ادعاء كون أئمة المساجد عندنا قضاة شرعيين شيء يصادم
الشريعة، أو يضر بمستقبل الأمة، فأنا لا يصعب علي العدول عن هذا الرأي في
كل حين.
وما أنا إلا من غزية إن غوت ... غويت وإن ترشد غزية أرشد
(المبحث الخامس) : مسلمو روسيا في حاجة شديدة إلى كتاب في علم
الحقوق الإسلامية (أو الفقه الإسلامي) ملائم لمقتضيات هذا الزمان يكون
(دستورًا) لقضاتنا الشرعيين في فصل الدعاوي العائلية.
إذا بقيت وظيفة فصل هذه الدعاوي بأيدي علمائنا، كما كان في السابق، تحتم
علينا قبل كل شيء سواء أمرت الحكومة أو سكتت أن نبادر إلى وضع مثل هذا
الكتاب.
وغني عن البيان أن وضع كتاب على هذا النحو، إنما يكون بواسطة لجنة
مؤلفة من أكابر العلماء وأفاضل المدرسين، ثم يحور وينقح ما فيه من الأحكام بحيث
لا يناقض الأصول الشرعية على ممر الأيام. يروى حديث معناه (يأتي على كل
رأس مائة سنة مجددون يجددون الدين) . وإذا صح هذا الحديث فلا مندوحة من أن
يكون في حاجات الأمة ومهماتها. وأهم المهمات للمسلمين، بل للمجتمع الإنساني
بأسره، هو علم الحقوق والفقه، دون الشعر والتاريخ والتصوف؛ لأن الفقه المعزو
إلى الدين إذا لم يكن كافلاً بحفظ حقوق الناس، وصيانة مصالحهم، فقد يكون سببًا
لرغبة الناس عن الدين نفسه. وإذا كانت الأحكام غير ملائمة لمصالح الناس، فلا
جرم تضعف ثقتهم أيضًا بالقضاة الذي يحكمون بها. متى سمعنا الناس يعزون العدل
إلى قضاة، يحكمون بأحكام مشوشة مختلة؟ ومتى سمعنا أمة تراخت روابط المحبة
بينها وبين قضاتها وحكامها، ثم حييت حياة طيبة، وبقيت وطيدة الأركان ثابتة
البنيان؟ إذا كان هذا شأن الفقه مع الأمة الإسلامية فما الذي اضطر بعضهم إلى
حمل حديث التجديد على التصوف؟ هل التصوف ركن من أركان الإسلام، حتى
يعتنى به هذا الاعتناء؟
كيف يوضع هذا الكتاب؟ هذا سؤال سابق لأوانه؛ لأنه لم يحن بعد وقت
المفاوضة في كيفية الوضع، وما علينا الآن إلا أن ننظر في أمور تهمنا في الحالة
الراهنة، ومع هذا وذاك، فلا بأس علينا إذا ألمعنا هنا إلماعًا إلى كيفية الوضع
أيضًا. إذا جاء وقت وضع كتاب على نحو ما ذكرنا وجب علينا أن نضعه
معتمدين على أصول الشريعة مهما أمكن من غير تقيد بمذهب خاص. بل ترجع إلى
كتب المذاهب المعروفة قاطبة؛ فيؤخذ الصالح مما فيها، ويترك غير الصالح.
ولا تضرنا تسمية هذا العمل (تلفيقًا) ؛ لأنه لم يقم إلى الآن دليل ناهض على
حرمة التلفيق وبطلانه.
من ينكر علينا كون المذهب المدعو بمذهب الحنفية ملفقًا من المذاهب الثلاثة
المتخالفة أصولاً وفروعًا. إذا أنكر علينا هذا منكر فليتفضل بدليله.
يقول المحققون: إن الخلاف بين أبي حنيفة وصاحبيه أكثر وأشد مما بين الإمام
مالك وبين الإمام أحمد.
لم يوقع الأمة في هذا الافتراق الشنيع، وفي مهاوي الذل والفاقة، والفوضى
والتعصب الجاهلي، إلا فشو التقليد وتكثر المقلدين. يكون اجتماع الكلمة واشتداد
الأواخي بين أفراد الأمة بحسب كثرة المجتهدين والباحثين، وتقلص ظل المقلدين
والجاحدين هذه المذاهب المتبعة نفسها، لم تكن متبعة على عهد المجتهدين أنفسهم،
وإنما صارت متبعة بعدهم بعدة قرون.
وحين كان المجتهدون كثيرين، لم تكن الأمة مصابة بداء الافتراق العضال
الذي فت في عضدها وذهب بمنتها، ولم تنفق إذ ذاك سوق التضليلات والتجهيلات
كما نفقت بعد إغلاق المسلمين في وجوههم أبواب الاجتهاد بأيديهم. العلم نقطة
كثرها الجاهلون. وأستغفر الله إن طغى القلم، أو زلت القدم، والعصمة لله المتعال وما بعد الحق إلا الضلال.