للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


الفيلسوف أبو الوليد محمد بن رشد
قاضي القضاة في الأندلس

هذا الفيلسوف أشهر فلاسفة المسلمين وأكبر أساتذة أوربا في العلم والفلسفة؛
لأن فلسفته انتقلت من الأندلس (أسبانيا) إلى سائر بلاد أوربا فكانت مبدأ نهضة
الأوربيين الحاضرة. ولد سنة ٥٢٠ في قرطبة، وتوفي سنة ٥٩٥ في بلاد المغرب.
وقد نشرت مجلة الجامعة الغراء تاريخه وتكلمت عن فلسفته، واستطردت إلى
مسائل أخرى كمذهب المتكلمين في الوجود والمقابلة بين الإسلام والنصرانية في
اضطهاد العلم والفلسفة وعدمه، وقد وقع في تلك الترجمة غلط في هذه المسائل.
والإنسان دائما عرضة للخطأ والغلط فيما تعلمه وأتقنه فكيف يكون حاله فيما لم
يتعلمه بالتلقي عن أهله إذا تكلم أو كتب فيه، وإن صاحب الجامعة الفاضل لم يتعلم
علم الكلام الذي هو فلسفة العقائد الإسلامية لأنه ليس مسلمًا؛ ولا فلسفة اليونانيين
لأنها قد نسخت بالفلسفة العصرية، فلا شك عندنا أنه لم يتعمد تكفير القاضي ابن رشد
ولا نسبة أئمة المسلمين في العقائد إلى إنكار ارتباط الأسباب بالمسببات، ولكن
بعض الذين قرأوا تلك الترجمة في مجلته أساءوا الظن به واحتموا عليه ورغبوا
إلينا في الرد عليه؛ لأن من وظيفة المنار الدفاع عن العقائد الإسلامية وعن أئمة
المسلمين.
وطلب بعضهم مثل ذلك من بعض أساتذتنا الأعلام، الذين يُرجع إليهم إذا
اعتكر من ليل الشبهات الظلام، ولما رأينا ذلك الأستاذ وعد الطالبين بأن يكتب في
بيان حقيقة تلك المسائل التي وقع فيه الخطأ أمسكنا نحن عن الكتابة؛ لأنه هو الأجدر
بالفصل بين الحق والباطل، والذي إذا قال لم يترك مجالاً لقائل، وقد تفضل علينا
وعلى الجامعة بما كتب فننشر في هذا الجزء مقالته في فلسفة ابن رشد ومذهب
المتكلمين (وسننشر في الأجزاء التالية مقالاته في الاضطهاد في النصرانية
والإسلام) .
تمهيد لمقالة الأستاذ الحكيم:
لا بد لفهم قراء المنار هذه المقالة من ذكر ما قالته الجامعة في فلسفة ابن رشد لأن
كاتب المقالة لم يذكر فيها إلا مواضع النقد قالت الجامعة:
المادة وخلق العالم
إن أعظم المسائل التي شغلت حكيم قرطبة مسألة أصل الكائنات، وهو يرى
في ذلك رأي أرسطو، فيقول: إن كل فعل يُفضي إلى خلق شيء إنما هو عبارة عن
حركة، والحركة تقتضي شيئًا لتحركه ويتم فيه بواسطتها فعل الخلق وهذا الشيء هو
رأيه في المادة الأصلية التي صنعت الكائنات منها، ولكن ما هي هذه المادة؟ هي
شيء قابل للانفعال ولا حد له ولا اسم ولا وصف، بل هي ضرب من الافتراض لا
بد منه ولا غنى عنه، وبناء عليه يكون كل جسم أبديًّا بسبب مادته أي أنه لا يتلاشى
أبدًا لأن مادته لا تتلاشى أبدًا، وكل أمر يمكن انتقاله من حيز القوة إلى حيز الفعل
لا بد له من هذا الانتقال وإلا حدث فراغ ووقوف في الكون، وعلى ذلك تكون
الحركة مستمرة في العالم ولولا هذه الحركة المستمرة لما حدثت التحولات المتتالية
الواجبة لخلق العالم بل لما حدث شيء قط، وبناء عليه فالعامل الأول الذي هو
مصدر القوة والفعل (أي الخالق سبحانه وتعالى) يكون غير مختار في فعله؛ لأن
الحرية والاختيار يقتضيان كونه محدثًا والخالق تنزه عن أن يكون حديثًا.
* * *
اتصال الكون بالخالق
(هذا فيما يختص بخلق العالم، وهو مذهب قريب جدًّا من مذاهب الماديين
كما ترى، ولكن كيف يستولي العامل الأول على الكون ويدبره) .
لابن رشد في ذلك تمثيل يدل على حقيقة مذهبه في هذه المسألة الخطيرة،
فإنه يشبه حكومة الكون أي تدبيره بحكومة المدينة، فإنه كما أن كل شئون المدينة
تتفرق وتتجه إلى نقطة واحدة وهي نقطة الحاكم العام فيها فيكون هذا الحاكم مصدرًا
لكل شئون الحكم ولو لم تكن له يد في كل شأن من هذه الشئون كذلك الخالق في
الأكوان فإنه نقطة دائرتها ومصدر القوات التي تدبرها، وإن لم يكن له دخل مباشرة
في كل جزء من هذه القوات، فبناء على ذلك لا يكون للكون (اتصال) بالخالق
مباشرة، وإنما هذا الاتصال يكون للعقل الأول وحده، وهذا العقل الأول هو عبارة
عن المصدر الذي تصدر عنه القوة للكواكب، وعلى ذلك فالسماء في رأي فيلسوف
قرطبة كون حي بل أشرف الأحياء والكائنات، وهي مؤلفة في رأيه من عدة دوائر
يعتبرها أعضاء أصيلة للحياة والنجوم والكواكب تدور في هذه الدوائر، أما العقل
الأول الذي منه قوتها وحياتها فهو في قلب هذه الدوائر، ولكل دائرة منها عقل أي قوة
تعرف بها طريقها كما أن للإنسان عقلاً يعرف به طريقه، وهذه العقول الكثيرة
المرتبطة بعضها ببعض والتي تلي بعضها بعضًا محكومة بعضها ببعض إنما هي
عبارة عن سلسلة من مصادر القوة التي تحدث الحركة من الطبقة الأولى في السماء
إلى أرضنا هذه، وهي عالمة بنفسها وبما يجري في الدوائر السفلى البعيدة عنها، وبناء على ذلك يكون للعقل الأول الذي هو مصدر كل هذه المحركات علم بكل ما يحدث في العالم.
* * *
طريق الاتصال
وإن قيل: ما هي علاقة الإنسان بالخالق، فالجواب عن ذلك يأخذه ابن رشد
أيضًا عن أرسطو من الفصل الثالث من كتابه (النفس) وخلاصة ذلك أن الكون
عقل فاعل وعقل منفعل، فالعقل الفاعل هو عقل عام مستقل عن جسم الإنسان وغير
قابل للامتزاج بالمادة، وأما العقل المنفعل فهو عقل خاص قابل للفناء والتلاشي مثل
باقي قوى النفس، وإنما يقع العلم والمعرفة باتحاد هذين العقلين، ذلك أن العقل
المنفعل يميل دائمًا للاتحاد بالعقل الفاعل كما أن القوة تقتضي شكلاً توضع به، وأول
نتيجة تحصل من هذا الاتحاد تُدعى العقل المكتسب، ولكن قد تتحد النفس البشرية
بالعقل العام اتحادًا أشد من هذا فيكون هذا الاتحاد عبارة عن امتزاجها جد الامتزاج
بالعقل القديم الأزلي، ولا يتم هذا الاتحاد بالعقل الاكتسابي الذي تقدم ذكره فإنما
وظيفة العقل الاكتسابي إيصاله إلى حرم الخالق الأزلي دون أن يدغمه به، وأما
إدغامه واتصاله به فذلك أمر لا يتم إلا بطريق العلم، فالعلم إذًا هو سبب الاتصال
بين الخالق والمخلوق، ولا طريق غير هذا الطريق، ومتى اتصل الإنسان بالله صار
مثله يتصل به بأن ينقطع إلى الدرس والبحث والتنقيب ويخرق بنظره حجب
الأسرار التي تكتنف الكون فإنه متى خرق هذا الحجاب ووقف على كُنه الأمور وجد
نفسه وجهًا لوجه أمام الحقيقة الأبدية.
أما المتصوفة فإنهم يقولون: (إن هذا الاتصال يتم بواسطة الصلاة والتأمل والتجرد، وليس العلم صروريًّا له) .
وبناء على ذلك تكون فلسفة صاحب الترجمة عبارة عن مذهب مادي
قاعدته العلم والكون في رأيه كما مر بك إنما صنع بقوة مبادئ قديمة مستقلة محكومة
بعضها ببعض وكلها مرتبطة ارتباطًا مبهمًا بقوة عُليا، ومن هذه المبادئ شيء
يستولي على العالم ويضع فيه العقل فهو عقل الإنسانية، وهذا الشيء الذي يسميه
عقلاً أيضا هو عقل ثابت لا يتغير أي أنه لا يتقدم ولا يتأخر لا يزيد ولا ينقص،
والناس يشتركون فيه ويستمدون منه بكميات متباينة، على أن من كان منهم أكثر
استمدادًا منه كان أقرب إلى الكمال والسعادة.
* * *
الخلود
ثم تكلمت الجامعة بعد ما تقدم عن رأي ابن رشد في خلود النفس فقالت بعد
كلام ما نصه: (قال: إن العقل الفاعل العام الذي تقدم ذكره من صفاته أنه مستقل
ومنفصل عن المادة وغير قابل للفناء والملاشاة، والعقل الخاص المنفعل من صفاته
الفناء مع جسم الإنسان، وبناء عليه يكون العقل العام الفاعل خالداً والعقل المنفعل
فانيًا، ولكن ما هو العقل الفاعل العام الذي هو خالد في رأي ابن رشد، إن هذا
العقل الخالد هو العقل المشترك بين الإنسانية، فالإنسانية إذًا هي خالدة وحدها دون
سواها، وبناء على ذلك لا يكون بعد الموت حياة فردية ولا شيء مما يقوله العامة
عن الحياة الثانية) اهـ.
* * *
دفع وهم عن فلسفة ابن رشد والمتكلمين
لأستاذ حكيم، وفيلسوف عليم
قرأت ما نشرت الجامعة من ترجمة ابن رشد، مررت على ما نقلت من آراء
المتكلمين وآرائه بغير تدقيق لأنني أعرف آراء الفريقين من قبل ولم يكن لي قصد
إلى النقد وإنما أريد أن أستفيد جديدًا، لهذا لم يقف نظري لأول وهلة إلا على ما
حوته تلك الجملة (الاضطهاد في النصرانية والإسلام) قرأتها بتروٍّ وانتهيت منها
إلى حكم من الجامعة يخالف ما أعتقد ولا يلتئم مع ما أعرف ويعرف العارفون من
الشواهد التاريخية، عند ذلك تحركت نفسي إلى كتابة سطور، أشير فيها إلى كشف
مستور، أو إعادة ذكر مشهور على أسماع الجمهور.
لاقاني بعض قراء تلك الترجمة فرأيت الأثر في نفسه أشد، ولسانه في العتب
أحد، وذكر أشياء في غير هذا الفصل من الترجمة، ولفتني إلى إعادة النظر فيها،
رجعت إلى الترجمة فوجدت فيها موضعين آخرين يطلبان مني الكلام عليهما وبأن
أحاديث الجامعة فيهما، لو كانت منزلة الجامعة من نفسي منزلة غيرها من المجلات
التي لا يُعْنَى كاتبوها إلا بنقل ما يقع تحت أنظارهم، أو تحبير ما يعبر عن أهوائهم
وأفكارهم، من دون عناية بتقرير الحقيقة، ولا رعاية لمعتقدات القراء لوجدت من
شواغل عملي ما يصرفني عن ذكر ما عرض فيها، لكنها من المجلات التي لو
أهملت مباحثها من إمعان النظر وجعلتها في جانب عما تستحقه من النقل لبخستها
حقها، ونَبَوْتُ بها عن موضعها.
لهذا رأيت أن أذكر لها ما رأيت في ذينك الموضعين وأبين حقيقة الأمر في
الثالث أما الموضعان فهما: (فلسفة المتكلمين وآراؤهم في الوجود) و (فلسفة ابن
رشد وآراؤه في خلق العالم واتصال الكون بالخالق وطريق اتصال الإنسان به
والخلود) وهما موضوع كلامي اليوم.
* * *
فلسفة المتكلمين وآراؤهم في الوجود
قالت الجامعة: فلسفة المتكلمين هذه (أي في وجود العالم) مبنية على أمرين:
الأول حدوث المادة في الكون أي وجودها بخلق خالق. والثاني: وجود خالق
مطلق التصرف في الكون ومنفصل عنه ومدبر له وبما أن الخالق مطلق التصرف
في كونه فلا تسأل إذًا عن السبب إذا حدث في الكون شيء لأن الخالق نفسه هو
السبب وليس من سبب سواه، إذًا فلا يلزم عن ذلك قطعيًّا أن يكون بين حوادث
الكون روابط وعلائق كأن ينتج بعضها عن بعض؛ لأن هذه الحوادث تحدث بأمر
الخالق وحده وفي الإمكان أن يكون العالم بصورة غير الصورة المصوَّر بها الآن
وذلك بقدرة هذا الخالق، ثم ذكرتْ في الجملة التي تلي ما تقدم أن هذه فوضى،
وأن روحًا جديدًا أخذ يُدْخِلُ شيئًا من النظام فيها [١] .
حدوث المادة عند المتكلمين ليس معناه أن تكون بخلق خالق، فإن الخلق في
اصطلاحهم هو الإيجاد وكون المادة صادرة عن موجد لم يختلف فيه المتكلم
والفيلسوف الإلهي، فأرسطو يقول: إن المادة قد استفادت وجودها من موجدها
وهو الواجب وواسطة فيض الوجود عليها هو العقل الفَعَّال على ما سيأتي بيانه، وإن
كان لا أول لوجودها، وإنما حدوث المادة عند المتكلمين هو وجود الأجسام وعوارضها
بعد أن لم تكن موجودة بحيث يفرض لوجودها بداية زمانية تنتهي إليها سلسلتها من
جانب الماضي، ولا يجوز أن يوصف بالأزلية إلا الله وحده في صفاته عند القائلين
بأنها وجودية، وقبل هذه البداية التي لا يمكن تحديدها لم يكن وجود سوى وجود خالق
الكون، ثم إنه أراد إيجاد الكون فأوجده من العدم البحت، هذا هو بناء مذهب
المتكلمين وهو مذهب أهل النظر من المسيحيين واليهود أيضًا فلم يخالف فيه ملّي
من أهل الملل الثلاث.
أما كون هذا المذهب وحده هو الذي يصح أخذه من القرآن، أو أنه يجوز أن
يتفق مع معاني القرآن رأي آخر بل هو الذي يظهر منه، فذلك بحث آخر لسنا
بصدده الآن فإن كلامنا في تصوير مذهب المتكلمين.
الأصل الثاني وهو وجود خالق مطلق التصرف لازم للأصل الأول؛ لأن هذا
العالم إذا كان موجودًا بفعل موجد فموجده هو خالقه وهو مطلق التصرف بمعنى أنه
يختار ما يخلق على الوجه الذي يخلق.
والمتكلمون وإن اتفقوا على أن خالق العالم مختار انقسموا إلى فريقين
عظيمين، فالقدرية منهم ويسمون بالمعتزلة أيضًا قالوا: إن الخالق وضع للكون
نظامًا تنطبق أصوله على مصالح المخلوقين وأودع في المخلوقين قوًى أو قُدَرًا
تصدر عنها آثارها بطريق التوليد والسببية أو بطريق الإرادة والاختيار،
فهذا فريق من المتكلمين لا يخالف الفلاسفة في قولهم بلزوم الآثار لمصادرها أو تأثير
قدر المخلوقين في أفعالهم، وقد بقي من أهل هذا المذهب إلى اليوم طائفة الشيعة
الإمامية والزيدية فإنهم لا يخالفون المعتزلة في هذه الأصول فإذا حدث في الكون
حادث سأل صاحب هذا المذهب عن سببه المباشر له وإن كانت جميع الأسباب تنتهي
إلى مصدرها الأول وهو الخالق كما يسأل الفيلسوف بلا فرق.
والفريق الآخر الذي عنته الجامعة وهو الذي يرى إسناد الآثار إلى الخالق
مباشرة لم يقطع العلاقة بين الأسباب الظاهرة ومسبّباتها بل قال: إن الله يُصدر
وجود المسبب عند وجود السبب فلا يقال: إن الأكل (مثلاً) هو الذي يحدث الشبع
بل الشبع شيء يحدثه الله عند الأكل ولكنه لا يحدثه عند الخوى إلا إذا أراد أن
يخرق النظام الذي جرت به سنته لأمر عظيم يريد توجيه النفوس إليه، وحمل هذا
الفريق على هذا القول إنكار نسبة الإيجاد ومنح الوجود إلى شيء سوى واجب
الوجود، وقالوا في الأفعال الاختيارية: إن الله يوجدها عند تعلق كسب العبد بها
ولهم في تصوير معنى الكسب كلام طويل لا يليق بهذا المقال استيفاؤه، وقالوا: إن
الأسباب والآلات لا بد منها في صدور الأثر إلا أن الذي يعطيه الوجود عند
استكمالها هو الخالق، ولهذا اتفق جميع المتكلمين على أن التكليف بالأحكام
الشرعية يعتمد التمكن من الإيتان بالمكلف به من حيث حال المكلف وصرّحوا بأنه
لم يقع تكليف بشيء إلا إذا تيسرت أسبابه وارتفعت الموانع منه غير أنهم يلقبون
هذه الأسباب بالعادية؛ لأنه ليس من الواجب على الخالق أن يلتزمها مع اعتقادهم
بأنه قررها وجرت سنته بها ولقبوا ما يحدث في العالم مخالفًا لها بخارق العادة
وليس كل غريب عندهم خارقًا للعادة بل الخارق هو ما لا يدخل في مكنة قوة حادثة
ولا يقدر على إحداثه إلا للقادر على مخالفة النظام الذي سنَّه وهو الله.
هذا الفريق من المتكلمين يستند في إثبات صفة العلم لله تعالى إلى ما في هذا
العالم من النظام وإلى ما حواه ذلك النظام من الأسرار والحِكَم، وهل يتأتى هذا
الاستناد منهم إن لم يقولوا بوجود العلاقة بين الأسباب ومسبباتها كان من هذا الفريق
أئمة تناول بحثهم كثيرًا من الفنون كالطب وعلوم المواليد الثلاث الحيوان والنبات
والمعدن منهم الأئمة الرازيون: كفخر الدين الرازي وأبي بكر الرازي ومحمود
الرازي، وأمثالهم ومنهم مثل الإمام أبي بكر الباقلاني، وكيف يتيسر لقائل أنه لا
علاقة بين الأسباب والمسببات أن يبرع في فنون بناؤها على الارتباط بين الآثار
وما يقارنها في العادة مما هو مصدر لها في بادئ النظر.
فإذا حدث في الكون حادث سأل صاحب هذا المذهب عن سببه الذي جرت
سنة الله بأن يكون معه وإن شئت قلت: سأل عن السبب الذي أصدر الله وجوده
عنده، وهل يمكن أن يقول المتكلم: إنه لا علاقة بين وجود الولد ووجود والديه أو
بين جَوْدة العمل وعلم العامل أو بين غزارة الثمر وخدمة الشجر؟ هذا شيء لم يقل
به قائل منهم قط وإلا لما قرأ واحد منهم كتابًا ولا خط في صحيفة سطرًا؛ لأنه لا
علاقة بين المطالعة والفهم ولا بين التحرير والأفهام.
فإن شئت أن تقول: إنه مذهب مع ذلك غامض يكدّ الذهن في فهمه فلك أن
تقول وأن تمعن النظر حتى تفهم مبانيه وأصوله وأن تناقش بالدليل الدليل، وعلى
الله قصد السبيل.
القول بنفي الرابطة بين الأسباب ومسبباتها جدير بأهل دين ورد في كتابه أن
الإيمان وحده كافٍ في أن يكون للمؤمن أن يقول للجبل تحوّل عن مكانك فيتحول
الجبل [٢] يليق بأهل دين يعدّ الصلاة وحدها إذا أخلص المصلي فيها كافية في إقداره
على تغيير سير الكواكب وقلب نظام العالم العنصري، وليس هذا الدين هو دين
الإسلام، دين الإسلام هو الذي جاء في كتابه {وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ} (التوبة: ١٠٥) الآية، {وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الخَيْلِ} (الأنفال: ٦٠) إلخ {سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلُ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً} (الأحزاب: ٦٢) وأمثالها {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ الَليْلِ
وَالنَّهَارِ} (البقرة: ١٦٤) الآيات، فلا يمكن لأهل هذا الدين وهو هو أن يقطعوا كل
علاقة بين الأسباب في هذا العالم المسببات، ولهم أن يتيهوا على أرباب ذلك الدين
الآخر بأن دينهم لم يوضع أساسه على دعث من الخوارق لا يلبث أن يخسف
بالسالك فيه إذا سأل عليه سيل الدليل، وإنما وضع على مستقر من الحقائق لا
يتزلزل بالقائم عليه مهما عظم القال والقيل، وليس من الممكن لمسلم أن يذهب إلى
ارتفاع ما بين حوادث الكون بالترتيب في السببية والمسببية إلا إذا كفر بدينه قبل أن
يكفر بعقله.
نعم طرأ فساد على عقائد بعض المنتسبين إلى أئمة ذلك المذهب وأساءوا
الظن بالقدر وتظاهروا بترك الأسباب في أقوالهم، وإن كانوا أشد الناس تمسكًا بها
في رذائل أعمالهم، وتعلقوا من الخوارق بجبل وهن ميلاً إلى أهواء من جاورهم
من الملل فظن الناظرون في قذائف أفواههم أن هذه الأوهام مما بني عليهم اعتقاد
أسلافهم فلا يغترن بعد ذلك مغتر بما يظن أولئك الناظرون ولا بما يتوهمه هؤلاء
الواهمون {سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ العِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ} (الصافات: ١٨٠) .
هذا ما يتعلق برأي الجامعة في مذهب المتكلمين أو فلسفتهم وننتقل الآن إلى
روايتها مذهب الفيلسوف ورأيها فيه.
* * *
فلسفة ابن رشد ورأيه في المادة وخلق العالم
قالت الجامعة: إن المادة (ضرب من الافتراض لا بد منه) الافتراض يراد به عند الإطلاق الفرض وهو في اصطلاح الفلاسفة ما لا وجود له والمادة عندهم موجودة
كما قالت الجامعة فيما قبل ذلك التعريب وفيما بعده.
ثم قالت: (وبناء عليه فالعامل الأول الذي هو مصدر القوة والفعل (أي
الخالق سبحانه وتعالى) يكون غير مختار في فعله؛ لأن الحرية والاختيار يقتضيان
كونه محدثًا والخالق يتنزه عن أن يكون حديثًا) وقالت بعد هذا بسطرين: (وهو
(أي مذهب ابن رشد) مذهب قريب جدًّا من مذاهب الماديين كما ترى، ثم ذكرت
أن الفيلسوف يشبه حكومة الكون بحكومة المدينة وأن المباشر للتصريف في الكون
هو العقل الأول في قلب هذه الدوائر ولكل دائرة عقل أي قوة تعرف بها طريقها)
إلخ.
أما مسألة نفي الاختيار فقد ذكرتُ عليها إيهامَهَا وأدى ذكرها كذلك إلى استنتاج
أن مذهب ابن رشد قريب من مذهب الماديين وليس الأمر في حقيقته كذلك.
يعلم كل ناظر في مذاهب فلاسفة اليونان أنهم كانوا فريقين إلهيين وماديين والأولون
فريقان مشاءون وإشراقيون واشتهر أتباع أرسطو باسم المشائين وأتباع أفلاطون
باسم الإشراقيين.
وأول مميز للإلهيين عن الماديين أن الأولين يقولون بوجود واجب بريء من
المادة والماديات وبوجود عقول مجرّدة عن المادة وغواشيها وبأن للواجب علمًا بذاته
وبجميع ما يصدر عنه وعن آثاره وأن للمعقول المجرد عقلاً علمًا بذواتها وبمَبْدئها
وبما يصدر عنها، والماديون لا يقولون بشيء من ذلك ألبتة، فالتقريب بينهما تقريب
بين النقيضين، وابن رشد من مقرري مذهب أرسطو فهو من الإلهيين.
وتشبيه الفيلسوف لتدبير الكون بتدبير المدينة أكبر دليل على مفارقة الماديين
كما يفارق المجرد والمادة، وقد شرطوا في هذا التشبيه أن المُدَبِّر خارج عن المدبَّر
مُفارقٌ له مُنَزَّهٌ عن مخالطته.
أما العقل الأول فليس كما تقول الجامعة، فإن العقل الأول جوهر مجرد عن
المادة وهو أول صادر عن الواجب، وقد صدر عنه الفلك التاسع المسمّى عندهم بالفلك
الأطلس ونفسٌ لذلك الفلك تدبر حركاته الجزئية وعقل آخر هو العقل الثاني، وعن
هذا الثاني صدر الفلك الثامن المسمى عندهم فلك الثوابت ونفسه والعقل الثالث
وهكذا إلى أن صدر عن العقل التاسع فلك القمر ونفسه والعقل العاشر وهو المسمّى
عندهم بالعقل الفعّال أو العقل الفياض، وعن هذا العقل صدرت المادة العنصرية وإليه
يرجع ما يحدث في عالمها، ولا يكون العقل الأول ولا غيره من العقول في قلب تلك
الدوائر عند أحد من هؤلاء الفلاسفة الإلهيين بل هو مفارق لها كما أن نفوسها
جواهر مفارقة أيضًا، ولها تعلق بأجسادها كتعلق أنفسنا بأبداننا على ما سيأتي بيانه.
والذي حمل الإلهيين على ذلك مبالغتهم في تنزيه الواجب وقولهم: إنه واحد
من جميع الوجوه وزعمهم أن الواحد من كل وجه لا يصدر عنه إلا الواحد فيلزم أن
لا يصدر عن الواجب إلا واحد وهو العاقل الأول. ولما تعددت وجوه العاقل في
ذاته والنسبة بينه وبين مصدره العاقلة لذاته وعقله لموجده صح أن يصدر عنه
متعدد، ولهم في الاستدلال على حياة الأفلاك مقدمات لا حاجة إلى ذكرها؛ لأن
الكلام في تصوير مذهبهم لا في تقريره أو إبطاله.
فالعقول عند الفليسوف ليست مخالطة للمادة ولا يغشاها شيء من ظلماتها
وليس العقل الأول بمدبر الكون وإنما هو مصدر الفلك الأطلس ومفيض نفسه عليه
وخزانة معقولاته، وهكذا الأمر في كل عقل مع الفلك الذي صدر عنه وتدبير العالم
العنصري وهو ما دون فلك القمر راجع إلى العقل العاشر وهو العقل الفعّال.
قال الفلاسفة الإلهيون: ولا يجوز أن تكون لأفعال الله غايات وأغراض
تبعثه على إصدارها وأن ما يصدر عنه إنما يفيض بمحض الجود المطلق عن غني
مطلق، وقد صرح ابن رشد في تهذيبه لإلهيات أرسطو بذلك وهذا مبالغة منهم في
نسبة الكمال إلى الله على أن ما يصدر عنه إنما يصدر عن علم فالذي ينفى عنه إنما
هو الاختيار بمعنى التردد بين الغايات ثم ترجيح إحداهما أما الاختيار بمعنى أن
الفعل صدر عن علم العالم بدون إكراه عليه فذلك لا ينفيه أحد منهم، والملِّيون من
متكلمين ولاهوتيين وإن لم يصرحوا بذلك قالوا بما يئول إليه والتزموه فقد ذهب
جمهورهم والمعوَّل على رأيه عند قومه منهم أن علم الله محيط بالكليات والجزئيات
أزلاً وأبدًا وقد تعلقت إرادته بتخصيص كل كائن بما هو عليه على حسب علمه
وعلمه لازم لذاته أزلي بأزلية ذاته وكل ما يكون في الكون لا بد أن يقع على وفاق
مع علمه الأزلي جل شأنه فلا تردد عنده بين الغايات بل ما يصدر عنه اليوم كان لا
بد أن يصدر عنه، والأسباب والمسببات وارتباط بعضها ببعض مما انتظم في علمه
فهي تصدر عنه على حسب ترتيبها في العلم، وسواء كان القول غامضًا أو غير
غامض وسواء توجه عليه من النقد ما يصعب الجواب عنه إذا روعيت بقية
الأصول أو لم يتوجه، كل ذلك لا يدفع عنهم أنهم قالوا بنفي الاختيار بالمعنى
المعروف عند الناس، وإن ثبت الاختيار بالمعنى الذي يليق بكمال الله تعالى،
فالفلاسفة وجمهور المتكلمين واللاهوتيين على وفاق في حقيقة المسألة وإن اختلفت
العبارات فابن رشد رحمه الله لم يخرج في آرائه عن الملِّيين فلا يصح أن يكون
مذهبه مذهب الماديين ولا قريبًا منه.
* * *
طريق الاتصال
يتوهم الناظر في هذا العنوان في الجامعة مع مراعاة الفصل الذي تقدمه فيها
أنه عنوان لرأي ابن رشد في طريق اتصال الكون بالخالق فإذا استمر في قراءة ما
بعد العنوان إلى آخر الفصل علم أن المراد طريق اتصال الإنسان وحده بخالقه
وعثر في آخر البحث على هذه العبارة: (وبناء على ذلك تكون فلسفة صاحب
الترجمة عبارة عن مذهب مادي قاعدته العلم) أما ما بين العنوان وهذه العبارة فهو
مما لا يمكن أن يتحصل له معنى مفهوم في مذهب الفيلسوف، وإني ذاكر لك رأيه في
اتصال الإنسان بالله أي قربه منه وسعادته به وفي طريقة تكميله لنفسه حتى يسعد
لذلك القرب، وبذلك تعرف أن ما جاء في الجامعة ليس بالذي تصح نسبته إليه
خصوصًا بعد قولها: إنه أخذ مذهبه في ذلك عن أرسطو من الفصل الثالث في
كتابه (النفس) وما قاله أرسطو في ذلك الكتاب معروف مشهور.
أثبت أرسطو وتبعه ابن رشد وجُل فلاسفة الإسلام أن نفس الإنسان التي هو
بها إنسان وهي ما يلقبونها بالنفس الناطقة - جوهر مجرد عن المادة لا هو جسم ولا
حال في جسم، وإنما له علاقة بالجسم يدبره ويصرفه وشبهوا هذه العلاقة بعلاقة
الملك بالمدينة وهو خارج عنها ولهذه النفس آلة في الجسم بها يكون التدبير.
وقالوا: إن انطباع المحسوسات والمعاني الجزئية في الحواس الظاهرة
والباطنة على ما فصلوه يُعِدُّ النفس لقبول الكليات ويهيؤها لتلتقي المعقولات عن
مفيضها عليها وهو العقل الفعّال الذي سبق لنا ذكره.
وجعلوا مراتب النفس في استحصالها كمالها العلمي وبلوغها ذروته أربعًا
(الأولى) العقل الهيولاني، وهو قوة استعداد النفس نحو المعقولات وتسميته عقلاً
تسمية مجازية و (الثانية) العقل بالملكة وهي القوة التي تحصل للنفس عند
حصول المعقولات الأولى مثل الجزء والكل ومثل الحكم بأن الأول أصغر من
الثاني ومثل النفي والإثبات والحكم بأنهما لا يجتمعان في محمول واحد لموضوع
واحد، وكذلك كل ما خلص من محسوس وهو لا يحتاج في تخليصه إلى فكر
والنفس تتهيأ بهذه القوة لاكتساب المعقولات الثانية إما بالفكر وإما بالحدس، وليس
الحدس هو الظن كما هو في المشهور بل هو سرعة انتقال النفس من المبادئ إلى
المطالب أو انتقال النفس من المعلومين إلى الوسط الذي يصل بينهما ومن ذلك إلى
معلوم ثالث بلا تجسم نظر، ولذلك جعل مقابلاً للفكر الذي هو النظر بعينه؟
و (الثالثة) قوة تسمى العقل المستفاد وهي أن تحصل المعقولات الثانية بالعقل
متمثلة كالأولى مشاهدة في الذهن، والرابعة قوة تسمى (العقل بالفعل) وهي ما به
تتمكن النفس من استحضار المعقول المكتسب المفروغ منه متى شاءت من غير
افتقار إلى اكتساب.
قالوا: والذي يرقى بالنفس في هذه المراقي هو العقل الفعال، وهو ذلك العقل
العاشر المصرّف للمادة العنصرية لا عقل الإنسانية العام كما تقول الجامعة، فإن
أرسطو وابن رشد لا يقولان بعقل يسمى عقل الإنسانية العام بل كان ذلك من مزاعم
أفلاطون التي عُني أرسطو بإبطالها وتبعه ابن رشد وغيره في نفيها، فالعقل الفعال
هو الذي يخرج النفس من العقل الهيولاني إلى العقل بالملكة ومن العقل بالملكة إلى
العقل المستفاد ومعه إلى العقل بالفعل.
ولما كان العقل الفعال جوهرًا عقليًّا بالفعل كانت المعقولات بأسرها حاصلة له
بالفعل، أما نفوسنا فهي عقول بالقوة ولكنها إذا استعدت استعدادًا خاصًّا للاتصال
بذلك العقل أي بالإقبال عليه وتوجيه وجهتها نحوه ارتسم منه فيها الصور العقلية
الخاصة بذلك الاستعداد الخاص لأحكام خاصة وإدراك المعاني الجزئية بواسطة
الحواس وحركة النفس في المعقولات الأولى والبحث والتجربة والدرس وما ينحو
هذا النحو كل ذلك من محصلات الاستعداد لقبول المعقولات في الموضوعات التي
كان الاستعداد فيها. فإذا أعرضت النفس عن العقل الفعال والتفتت إلى جانب الحس
أو إلى صورة أخرى غير التي حصلت لها بذلك الاستعداد انمحى المتمثل الذي كان
أولاً كأن المرآة التي كان يحاذي بها جانب القدس قد أعرض بها عنه إلى جانب
الحس، أو إلى شيء آخر من الأمور القدسية.
قالوا: وهذا الاتصال الذي يفيض به العقل الفعال على النفس ما استعدت له
من المعقولات له علة، وعلته قوة تامة الاستعداد لها أن تقبل بالنفس جهة الإشراق
متى شاءت بملكة متمكنة وهي المسماة بالعقل بالفعل.
ثم إن الفيلسوف وأتباع مذهب أرسطو ذكروا آراء بعض الفلاسفة ممن لا يعتد
بقولهم وفيها ما يشبه ما نسبته الجامعة لابن رشد منها أن الجوهر العاقل إذا عقل
صورة عقلية صار هو إياها، واستدلوا على استحالة هذا القول بأنه يلزم عليه أن
تصير النفس جميع المنقولات التي تحصل لها وتصير المعقولات كلها معقولاً واحدًا
بل يلزم عليه انعدام النفس ووجوه ما عقلته أو استحالة النفس إليه وهو محال
وخلاف الفرض ونقلوا عن فرقوريوس أنه قال: إن النفس الناطقة إذا عقلت شيئًا
فإنما تعقل ذلك الشيء باتصالها بالعقل الفعال وهو حق في رأيهم ولكنه قال: إن
معنى اتصالها بالعقل الفعال أن تصير هي نفس العقل الفعال؛ لأنها تصير العقل
المستفاد والعقل الفعال يتصل نفسه بالنفس فيكون العقل المستفاد، وقد أبطلوا هذا
القول بأنه يستلزم أن يكون العقل الفعال متجزئًا قد يتصل منه شيء دون شيء وهو
مجرد لا يتجزأ أو تتصل به النفس اتصالاً واحدًا تكون به النفس كاملة واصلة إلى
كل معقول وهو ليس بحاصل في جميع الأحوال وقالوا: إن دعوى اتحاد شيء
بشيء آخر على معنى استحالة الأول إلى الثاني قضية شعرية غير معقولة فلا يصح
النظر فيها، أما استحالة النفس إلى العقل الفعال فلم يقل به أحد.
فقد عرفت من هذا أن اتصال النفس بالعقل الفعَّال ليس معناه الفناء فيه أو
الاندغام كما عرفته الجامعة بلا معناه أن ترتفع النفس بقواها عن ظلمة الطبيعة بما
يكون لها من الاستعداد وتنجذب نحو العالم الأعلى فتشرق فيها المعلومات بمحاذاتها
لمطلع ذلك النور الأجلى، فهل مع هذا يصح أن ينسب إلى الفيلسوف ما عدّه غير
معقول؟
قال الفيلسوف وشيعته: إن النفس الناطقة التي هي موضوع ما للصورة
المحددة غير منطبعة في جسم تقوم به بل هي جوهر عاقل ذو آلة بالجسم فإذا
استحال الجسم عن أن يكون آلة لها وحافظًا للعلاقة معها بالموت لم يضر ذلك
جوهرها بل تكون باقية بما هي مستفيدة الوجود من الجواهر العقلية، فالنفس بعد
مفارقتها للبدن باقية على استقلالها لا تعدم شخصيتها بالفناء في شيء سواها لا عقل
فعّال ولا وجود واجب وهي تسعد بكمالها العلمي والأدبي الذي حصلته مدة تعلُّقها
بالبدن، وجَوَّزَ الفيلسوف أن تتعلق بعد فراقها للبدن بجسم آخر من عالم آخر تتخيل
فيه ما هو لذة لها، وتشقى بجهلها ورداءة ملكاتها، فالنفس عند الفيلسوف باقية
خالدة خلودها خلود لشخصها المتميز من كل شيء سواها سواء كان عقلاً فعالاً أو
غيره.
فهل بعد هذا يُعدُّ الفيلسوف ماديًّا ومذهبه مذهبًا ماديًّا قاعدته العلم؟ لا بل هو
إلهي ومذهبه مذهب إلهي قاعدته العلم قائل بخلود النفس وسعادتها وشقائها وعذابها
ونعيمها كما رأيت.
بقي علينا أن نشير إلى ما نقله فلاسفة أوربا عن الفيلسوف الجليل ابن رشد
في مبدإ العالم ومصدر وجوده، قالوا: لم يكن يُعرف العلم والفلسفة عند الأوربيين
إلا في مدارس المسلمين في أسبانيا، فكان يقصد تلك المدارس طلاب العلم من كل
ناحية، كان يجلس في درس الفيلسوف عدد عظيم لم تأت نهاية القرن الثاني عشر
(الميلادي) إلا وقد انتشر بين المشتغلين بشيء من العلم رأي زعزع طمأنينة
الكنيسة وأفزع القابضين على مفاتيح القلوب بذلك الوقت الواقفين على أبوابها
يأذنون لمن شاءوا من العقائد والأفكار أن يدخل فيها ويطردون عنها ما شاءوا ذلك
الرأي الذي أخذ يتسرب إلى القلوب رغم حجابها هو أن الكون أجمع يرجع في
وجوده إلى واحد هو حياة الكل وهو روح يقوم به كل جزء منه.
وقالوا: إن الذي نشر هذا المذهب بين الناس هم تلامذة ابن رشد ففهم بعض
علمائهم من ذلك أن ابن رشد كان يقول: إن مبدإ العالم هو أصل عرضت له صور
العالم أو روح ظهر في مظاهر الكائنات كما يقول الصوفية أو نحو ذلك، واستتبع هذا
رأيًا آخر وهو أن كل صورة من صور الموجودات إذا بطلت فإنما تعود إلى أصلها
وهو الوجود المطلق، وظن الواهم أن الأرواح تعود بعد مفارقة الأجسام إلى
مشرقها العام، وتفقد امتيازها فيه، وذلك كله وإن ذهب إليه بعض النظار من
الأوربيين غير ما يقول ابن رشد، أما ما يقول ابن رشد فهو كما ترى.
قال ابن رشد وكل من تابعه على رأيه ولم يخالفوا في ذلك أرسطو: إن
الممكن لا وجود له في ذاته وإنما يستفيد الوجود من غيره، وقد كانوا قالوا: إن جميع
ما في الكون ما عدا واجب الوجود المبرأ من المادة وغواشيها فهو ممكن فكل ما في
العالم فهو مستفيد الوجود من غيره، فذلك الغير إن كان ممكنًا فكي يُعطى الوجود وهو
لا وجود له إلا من غيره، فإذا استمد منه مستمد فإنما يستمد من فضل ذلك الوجود
الذي جاءه من موجده إلى أن ينتهي إلى الوجود الأول فكل وجود سطع على
الممكنات فهو فائض من وجود الواجب فلا وجود إلا من وجوده أو كل وجود فهو
شعاع لضياء وجوده، فإذا حرر المعنى من هذا على وجه أمكن عند العقل وجدته
يرجع إلى ما قاله السيد الشريف من أئمة أهل السنة وغيره وهو أن الممكن ليس
بشيء في ذاته ثم يكون شيئًا بالإيجاد، والإيجاد لو حققته أمر اعتباري انتزاعي له
منشأ في الواقع، وذلك المنشأ هو ذات الموجد وماهية الموجود الممكن التي صارت
شيئًا بتلك العلاقة الاعتبارية بينها وبين موجدها، وهي ما يسمونها تعلق القدرة
بالمقدور، وماهية الممكن ليست بوجود ولا الوجود أمر موجود قائم بها، فإذًا ليس
من موجود نفس الأمر إلا وجود الواجب فكان الوجود الحقيقي واحدًا وسائر ما
يسمى وجودًا فإنما ينال ذلك بالإضافة إلى الوجود الحقيقي وأولى بالتسمية أن تكون
مجازية من أن تكون حقيقة.
مع ذلك لا يزال صاحب هذا القول يعتقد بتجرد الواجب عن المادة والمدة إلا
أن من تلقفه منه توسع فيه حتى كان من ذيوله رأي القائلين بأن الموجد الأول روح
سار في العالم وإليه يرجع كل أشخاصه لفناء شخصيتهم فيه وما هو برأي ابن رشد
ولا يعرفه.
على أن الصوفية وهم المصرحون بوحدة الوجود المعبرون بالشهود أولاً
والفناء آخرًا، الناطقون في ذلك بما لم ينطق به أحد سواهم لم يقولوا بزوال هُوِيَّات
النفوس زوالاً حقيقيًّا بل قالوا: إنها خالدة بعد مفارقة الأبدان ولكنها تسعد في
خلودها باستغراقها في شهودها، وذهولها عن كل ما يشغلها عن مصدر وجودها،
فهي غنيَّة بعرفانه عن معرفتها بنفسها وهو ما يعبر عنه بالفناء ولذته، والمحو
وبهجته، وهو معنى تقصر دون إيضاحه العبارات، وإن كفى في تعريفه لأهله
أخفى الإشارات.
ولعل الجامعة لا تعتب على الكاتب فيما كتب أو فيما أجاب به من طلب فقد
وفى حقًّا لها لو أغفله مع علمها بالقدرة عليه، لحق لها أن توجه العتب إليه.
هذا ما أردنا إيجاز القول فيه متعلقًا بفلسفة المتكلمين ورأي الفليسوف وسنتبعه بمقال آخر فيما حكمت به الجامعة من الكلام على الاضطهاد في النصرانية والإسلام،
إن شاء الله تعالى.