للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: عبد العزيز محمد


أميل القرن التاسع عشر

الباب الثاني (الولد) من كتاب
(٢٦) من أراسم إلى هيلانة في ٣٠ يوليو سنة - ١٨٥
أنا أيتها العزيزة هيلانة أعرف فرط حبك لي وجميل انعطافك نحوي ,
وأقدرها حق قدرها , ولكني لست معك فيما يخامر قلبك من المخاوف في شأن
مستقبل (أميل) , فإني وإن كنت والده لا أرى لي حقًّا بحال من الأحوال في
إيجاب أن يكون تلميذًا لي , فمن الذي يصح أن يتبجح بأنه قد وصل إلى الحق
المطلق وإن حسنت منه النية في البحث عنه , وأعتقد أنه يذوق المكروه من أجله.
نعم إنه ليؤلمني ألمًا شديدًا أن أراه في مستقبل حياته مخالفًا لي في آرائي غير آخذ
بمعتقداتي , ولكني أكون أنا المخطىء الملوم في ذلك دونه لأنه قد يكون سببه عدم
حذقي في إيصال أفكاري إلى نفسه , أو حكمه على هذه الأفكار بما عسى أن يكون
هو الحق فيها أعني أنها أغلاط عقل صادق في بحثه عن الصواب مخلص في
تلمّسه طريق الرشد.
على أنه لا فائدة في الاشتغال بالمستقبل فإن الذي يعنينا هو الوقت الحاضر.
تقولين إن أميل محب للاستطلاع كثير المسألة فأبشرك أن هذه أمارة حسنة على
نجابته ولكني أنصح لك أنه إذا سألك عن شيء تجهلين حقيقته فعليك أن تعترفي له
بجهلك اعترافًا خالصًا من المواربة , وإن كان ذلك مخالفًا لما عليه معظم الوالدين
ومعلمي المدارس الذين هم مصداق ما ورد في الأمثال: (لكل فتق رتق , ولكل
مسألة جواب) فكأنهم يتوهمون أنه يكون لهم بهذا نوع من السلطان على عقول
تلامذتهم , وأنت بحمد الله في غنى عن التذرع بهذه الذريعة الخطرة لإثبات ولايتك
على (أميل) . أقول: إنها خطرة ولا أحول عن وصفها بذلك , فإن في تعويد
الطفل على اعتقاد أن لكل شيء معنى محققًا يمكن أن يتناوله من غيره بسهولة
إخمادًا لقوة البحث والتفقه ومدعاة للكسل لأنه متى سبق إليه الوهم بأنه يوجد في
الناس علم كافل بإزالة جميع الشكوك التي تعترض الذهن في فهم معاني الأشياء لا
يجد موجبًا لتكلف البحث والملاحظة , وأما إذا اعترفت (لأميل) بأنك لم تمعني
النظر فيما يسألك عنه إمعانًا يكفي لإبداء رأيك فيه فإنك تكونين قد عجلت بتعليمه
أن إصابة الحق هي ثمرة عمل الجاد ونتيجة بحثه , وأيّ جواب يساوي هذه
الموعظة؟
ثم ليحذر الوالدون والمعلمون أن يكون في ادعائهم لأنفسهم نوعًا من العصمة
في العلم استدبار للغاية التي يسعون إليها. ذلك أن الناشئ إذا كَشَفَ له المستقبلُ
بغتة ما يقع فيه أولئك المصرفون لعقله من الأغلاط تزعزع اعتقاده فيهم مرة واحدة,
وزالت من نفسه الثقة التي أرادوا أن يجعلوها محلاًّ لها , وليس ما أخشى مغبته
على (أميل) من أنواع الريب هو الحذر النافع الذي يكون فيمن تعلموا من
صغرهم البحث في الأمور وعدم التسليم بها قبل اتضاح وجه الحق فيها , وإنما
الذي أخافه عليه هو مرض زوال الاعتقاد.
مما ينبغي التصريح به أن الصبغة الاعتقادية التي نراها في طريقة التعليم
عندنا ناشئة من جميع مقومات أوضاعنا الاجتماعية , فإنه متى اعتبر أن القائمين
على الدين وعلى السياسة قد فكروا في مصلحة الأمة؛ لزم بطريق البداهة أن طائفة
من العلوم مقررة تنزل من سماء علاهم فيفرض على عقول الأحداث قبولها بلا نظر
ولا مناقشة فأنت تجدين في التعليم الديني أسرارًا يتعاصى على عقل الإنسان
اكتناهها , وأعمالاً وعادات ليس في مقدور أحد من الناس تغيير شيء منها, وأحكامًا
لا تقبل العرض على محك النظر , بل تفيد قوة الإدراك إلى الأبد فلا تجد سبيلاً إلى
الجولان فيها [١] وأما التعليم السياسي فهيهات أن يكون ما يلقيه فيه الأستاذ على
تلامذته أقل مما ذكر إلزاما لأن الأستاذ لما كان أجيرًا للحكومة كان بالضرورة صدى
يردد أصوات أحكامها فبخ بخ لهذا الكلام الذي لو لم يكن مؤديًا إلى استعباد النفس
لما رأيت لي وجهًا في انتقاده , وإنما كان مؤديًا إلى ذلك لأنه بما له من الأثر في
إماتة عزيمة الناشىء يحصر فائدة التعليم في مجرد تمرين الذاكرة. فوا رحمتاه
لذلك المسكين الذي هو كالبعوضة حملت من تواريخ القرون الماضية وعلومها
وأقوال الثقات فيها ما أبهظها فعاقها عن الطيران.
على أنه يندر- والحق يقال- أن يصل أرباب هذا الحصر والتضييق النفسي إلى
تمام الفوز الذي كانوا يؤملونه من ورائه فإن تأثير الزمان الذي يعيش فيه الطفل أو
ما يوجد في طبعه أحيانًا من المقاومة والمعارضة أو ما يتلقاه من آراء أهله الذين
يتربى بينهم يخلف في كثير من الأحوال ظنون القائمين على التعليم الرسمي ويأتي
بعكس ما كان في حسابهم , ولكن لا بد من الاعتراف بأنه لا ينجو من وحدة هذا
القالب الذي تصاغ فيه الأجيال الناشئة على الشكل المطلوب إلا العدد القليل وأما
السواد الأعظم فإن مدار تعلمه يكون على التسليم والاعتقاد والوقوف عند حد ما تلقاه
عن معلمه الذي يعيد عليه ما أخذه عن أساتذته فالتربية في مثل هذه الأحوال سلاح
ذو حدين يتسنى به استعباد العقل كما يتسنى به تحريره ومرجع الحكم في ذلك إلى
المصادفة والاتفاق , وإني لن أرضى أن أَكِلَ مستقبل (أميل) إلى قذفات اتفاق
ومصادفات الحق والباطل وتعتورها الحرية والاسترقاق , ولو أوتيت في ذلك أنفس
شيء في العالم كله.
على أني أعوذ بالله أن أجحد ما لآثار السلف من المزايا والفوائد إلا أن في
الأخذ بهذه الآثار كما في الأخذ بغيرها من الأمور حدًّا وسطًا يصعب تمييزه ,
فالطفل الذي لا يتلقى شيئًا من المجتمع الذي يعيش فيه يصير إما متوحشًا وإما
أحمق , وأما الرجل الذي يتلقى منه كل شيء بالتسليم مرتكنًا على ثقته به مجتنبًا
مشقة النظر فيما تلقاه منه بدعوى أن من سبقوه قد كفوه مؤنة ذلك وكانوا أصح منه
نظرًا فإنه لا يكون أبدًا إلا ضعيف العقل معجلاً بوقف نفسه على جميع ضروب
الاستعباد. ثم اعلمي أن معظم أغلاطنا ومعتقداتنا الباطلة مبني على آراء يتداولها
الناس , ويرون تسليمها واعتبارها حقائق معصومة من تطرق الباطل إليها أسهل
عليهم بكثير من استقصائها واستجلاء الصواب فيها بنور العقل. فمثل هذه الآراء
تسري على نفوسنا من أول نشأتها وينتهي أمرها إلى أن تكون من الامتزاج بها
بحيث يلزم لاستئصالها في المستقبل بذل جهد عظيم في أعمال القوة الحاكمة
والاستعانة بشيء من الإقدام، والبسالة. نعم إنه لمن الصعب جدًّا أن لا يعلق بنفس
(أميل) شيء من تلك الأفكار الفاسدة ولكن الذي يهمنا أن يكون ما يتصل به منها
أقل ما يمكن وأن يجد في مستقبله من حرية نظره وسيلة لتمييزها والخلاص منها.
وجملة القول أن طريقتك في تربية (أميل) قد نالت من رضائي واستحساني
أكمل حظ ووقعت من قلبي أجلّ موقع , فإن التربية عمل ملاكه بذل النفس وقوامه
الحب وإني أعرف من كبار الرجال من دأبهم الاحتراس والانقباض في معاشرة
الأخصاء ومخالطة الأصفياء , فأمثال هؤلاء لا ينبغي أن يعهد إليهم بتربية الأحداث
لأنه يشترط فيمن يتولونها أن يكون فيهم من انبساط النفس ما يأخذ بقلوب الناشئين
إليهم , وأن يكونوا من المحدَّثين فيها المبعوثين عليها ببعض البواعث الفطرية
فمربي الطفل ومعلمه الحقيقي المستكمل لهذه الشروط إنما هو أمه.
ثم إني مستحسن كذلك ما رأيته من إدامة الدرس والمطالعة ليتيسر لك القيام
بهذا الغرض الذي قدر لك , ولكني أعظك بأن تجعلي هذه الحقيقة دائمًا نصب
عينيك ألا وهي: ليس أول شرط في التربية أن يكون المربي عالمًا وإنما هو أن
ينسى جميع ما تعلمه ليعود إلى تعلمه مرة أخرى مع الطفل اهـ.
((يتبع بمقال تالٍ))