للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


الأمراء والحكام ونوع الحكومة الإسلامية [*]

(ننشر في هذا الباب ما يعرف به المسلمون أصل مدنيتهم
ومنشأ سعادتهم التي ذهبت بتركه)

(٨) وقال صلى الله عليه وسلم: (خيار أئمتكم الذين تحبونهم ويُحبونكم،
وتصلون عليهم ويصلون عليكم، وشرار أئمتكم الذين تبغضونهم ويبغضونكم،
وتلعنونهم ويلعنونكم) [١] وفي رواية الترمذي عن عمر رضي الله عنه (وتدعون
لهم ويدعون لكم) وهي بمعنى تصلون عليهم ويصلون عليكم هنا، ولو علم أمراء
المسلمين اليوم مكانتهم في قلوب الأمة، لا سيما الخاصة منها، وماذا يقولون فيهم،
لعرفوا من أي الفريقين هم، على أن منهم من يعتقدون أن الأمة عدوة لهم؛ ولذلك
اتخذوا عليها الجواسيس والعيون.
(٩) وقال صلى الله عليه وسلم: (ما من أمير يلي أمر المسلمين، ثم لا
يجتهد لهم ولا ينصح إلا لم يدخل معهم الجنة) [٢] .
(١٠) وقال صلى الله عليه وسلم: (من ولي من أمر المسلمين شيئًا فلم
يَحُطهم بنصيحته كما يحوط أهل بيته فليتبوأ مقعده من النار) [٣] .
(١١) وقال صلى الله عليه وسلم: (أيما والٍ ولي شيئًا من أمر أمتي فلم
ينصح لهم ويجتهد لهم كنصيحته وجهده لنفسه، كبَّه الله تعالى على وجهه يوم القيامة
في النار) [٤] فمن لنا بمن يوصل مثل هذا الحديث إلى الأمراء الذين يهملون أمور
الرعية، ويصرفون همتهم كلها إلى تنمية أرزاقهم وتكثير غلاتهم لعيالهم والادخار -
ليعتبروا به إن كانوا مؤمنين.
(١٢) وقال صلى الله عليه وسلم: (أيما راعٍ استرعي رعية فلم يَحُطْها
بالأمانة والنصيحة ضاقت عليه رحمة الله التي وسعت كل شيء) [٥] .
(١٣) وقال صلى الله عليه وسلم: (ما من أمير عشرة إلا وهو يؤتى به
مغلولاً يوم القيامة حتى يفكَّه العدل أو يوبقه الجور) [٦] .
(١٤) وقال صلى الله عليه وسلم: (أيما رجل استعمل رجلاً على عشرة
أنفس علم أن في العشرة أفضل ممن استعمل، فقد غش الله وغش رسوله وغش
جماعة المسلمين) [٧] وهذا الحديث بمعنى الحديث الأول في النبذة الماضية الذي
هو في صحيح مسلم، والمراد بالأفضل هنا من يزيد على غيره في العلم بالعمل
الذي استُعمل لأجله، فإن كان العمل حربيًّا يجب أن يولَّى الأعلم بفنون الحرب،
وكذلك إن كان علميًّا أو إداريًّا، ويعتبر مع العلم الهمة والأخلاق التي من أثرها العمل
بالعلم. ومن أكبر أسباب ضعف المسلمين أن أمراءهم صاروا يولون العمال بالهوى
لما أعطوه من السلطة المطلقة التي تخالف ما جاء به الإسلام، قال عمر رضي الله
عنه: (من استعمل رجلاً لمودة أو قرابة لا يستعمله إلا لذلك، فقد خان الله ورسوله
والمؤمنين) .
(١٥) وقال صلى الله عليه وسلم: (كلكم مسئول عن رعيته فالإمام راع
وهو مسئول عن رعيته، والرجل راع في أهله وهو مسئول عن رعيته، والمرأة
راعية في بيت زوجها وهي مسئولة عن رعيتها، والخادم راعٍ في مال سيده وهو
مسئول عن رعيته، والرجل راع في مال أبيه وهو مسئول عن رعيته وكلكم راع
وكلكم مسئول عن رعيته) [٨] ولا يخفى أن الإمام هو الأمير الحاكم، والمسئولية في
الدنيا بمعنى المطالبة شرعًا بإقامة العدل والأمانة في العمل، فمن خالف يُعاقب ولو
بالعزل، وفي الآخرة يسأله الله ويجزيه الجزاء الأوفى.
(١٦) وقال صلى الله عليه وسلم: (إنه سيفتح لكم مشارق الأرض
ومغاربها وإن عمالها في النار إلا من اتقى الله وأدَّى الأمانة) [٩] .
احتجاب الأمراء والحكام
(١٧) وقال صلى الله عليه وسلم: (من ولي من أمر الناس شيئًا فأغلق
بابه دون المسلمين أو المظلوم أو ذوي الحاجة أغلق الله دونه أبواب رحمته عن
حاجته وفقره أفقر ما يكون إليه) [١٠] .
(١٨) وقال صلى الله عليه وسلم: (من ولاه الله شيئًا من أمور المسلمين
فاحتجب دون حاجتهم وخلتهم وفقرهم احتجب الله عنه يوم القيامة دون حاجته وخلته
وفقره) [١١] .
(١٩) وقال صلى الله عليه وسلم: (من ولي من أمر الناس شيئًا فأغلق
بابه دون ذوي الفقر أو الحاجة أغلق الله عن فقره وحاجته باب السماء) [١٢] .
(٢٠) وقال صلى الله عليه وسلم: (من ولي من أمر المسلمين شيئًا
فاحتجب عن ضَعَفَة المسلمين وأولي الحاجة احتجب الله عنه يوم القيامة) [١٣] .
(٢١) وقال صلى الله عليه وسلم: (من احتجب عن الناس لم يحتجب عن
النار) [١٤] .
ومما فتن به أمراء المسلمين عندما استبدوا بالسلطة المطلقة بدعة الاحتجاب
دون الرعية، لا سيما الفقراء وذوي الحاجة فطغوا واستكبروا وعتوا عتوًّا كبيرًا
حتى سلط الله عليهم الأمم الأجنبية، فصارت تنتزع ملكهم من أيديهم، وأغلق الله
دونهم أبواب رحمته في الدنيا فلم يجدوا حيلة لإعادة سلطتهم المطلقة {وَلَعَذَابُ
الآخِرَةِ أَخْزَى وَهُمْ لاَ يُنصَرُونَ} (فصلت: ١٦) .
وسنبين بعدُ الأحاديث الواردة في هلاك الأمة بظلم أئمتها وأمرائها.
آثار السلف عبرة للخلف
روى ابن المبارك وابن راهويه ومُسدَّد عن عتاب بن رفاعة بن رافع قال:
بلغ عمر بن الخطاب أن سعدًا اتخذ قصرًا وجعل عليه بابًا وقال: (انقطع الصُّويت)
فأرسل عمرُ محمدَ بن مسلمة وكان عمر إذا أحب أن يؤتى بالأمر كما يريد بعثه،
فقال: ائت سعدًا واحرق عليه بابه، فقدم الكوفة فلما أتى الباب أخرج زنده فاستورى
نارًا، ثم أحرق الباب، فأتي سعدٌ فأُخبر ثم وُصف له صفته فعرفه فخرج إليه سعد،
فقال محمد: إنه بلغ أمير المؤمنين عنك أنك قلت: (انقطع الصويت) فحلف
سعد بالله ما قال ذلك، فقال محمد: نفعل الذي أمرنا ونؤدي عنك ما تقول، وأقبل -
أي سعد - يعرض عليه أن يزوده فأبى، ثم ركب راحتله حتى قدم المدينة فلما أبصره
عمر قال: لولا حسن الظن بك ما رأينا أنك أديت، وذكر - أي محمد - أنه أسرع
السير وقال: قد فعلت وهو - أي سعد - يعتذر ويحلف بالله ما قال، فقال عمر: هل
أمر لك بشيء؟ قال: ما كرهت من ذلك؟ إن أرض العراق أرض رقيقة، وأهل
المدينة يموتون حولي من الجوع فخشيت أن آمر لك بشيء فيكون لك البارد ولي
الحار، أما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (لا يشبع المؤمن دون
جاره) اهـ. ولعل في آخر الكلام حذفًا أوتحريفًا.
وروى ابن سعد عن موسى بن أبي جبير عن شيوخ من أهل المدينة قالوا:
كتب عمر بن الخطاب إلى عمرو بن العاص: أما بعد فإني فرضت لمن قِبَلي في
الديوان [١٥] ولذريتهم ولمن ورد علينا بالمدينة من أهل المدينة وغيرهم ممن توجه
إليك وإلى البلدان، فانظر من فرضت له فنزل بك فاردد عليه العطاء وعلى ذريته
ومن نزل بك ممن لم أفرض له فافرض له على نحو مما رأيتني فرضت لأشباهه
وخذ لنفسك مائتي دينار - أي في السنة - فهذه فرائض أهل بدر من المهاجرين
والأنصار، ولم أبلغ بهذا أحدًا من نظرائك غيرك؛ لأنك من عمال المسلمين
فألحقتك بأرفع ذلك، وقد علمت أن مؤنًا تلزمك، فوَفِّر الخراج وخذه من حقه، ثم
عف عنه بعد جمعه، فإذا حصل إليك وجمعته أخرجت عطاء المسلمين وما يُحتاج
إليه مما لا بد منه، ثم انظر فيما فضل بعد ذلك فاحمله لي، واعلم أن ما قبلك من
أرض مصر ليس فيها خمس؛ وإنما هي أرض صلح وما فيها للمسلمين فيء تبدأ
بمن أغنى عنهم في ثغورهم، وأجزأ عنهم في أعمالهم ثم نقص (كذا في نسخة كنز
العمال ولعلها تفيض) ما فضل بعد ذلك على من سمى الله.
واعلم يا عمرو أن الله يراك ويرى عملك فإنه قال تبارك وتعالى في كتابه
{وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً} (الفرقان: ٧٤) يريد أن يُقتدى به، وأن معك أهل
ذمة وعهد، وقد أوصى رسول الله صلى الله عليه وسلم بهم وأوصى بالقبط فقال
(استوصوا بالقبط خيرًا فإن لهم ذمة ورحمًا) ورحمهم أن أم إسماعيل منهم، وقد قال
صلى الله عليه وسلم: (من ظلم معاهدًا أو كلفه فوق طاقته فأنا خصمه يوم القيامة)
احذر يا عمرو أن يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم لك خصمًا فإنه من
خاصمه خصمه، والله يا عمرو لقد ابتليت بولاية هذه الأمة وآنست من نفسي ضعفًا،
وانتشرت رعيتي، ورق عظمي، فأسأل الله أن يقبضني إليه غير مفرِّط، والله
إني لأخشى لو مات جمل بأقصى عملك ضياعًا أن أسأل عنه يوم القيامة) .
فانظروا أيها المسلمون وتأملوا سيرة سلفكم الذين ملكتم بهم الأرض، وكيف
أكل خلفهم الأموال وظلموا أهل الذمة والمعاهدين حتى دالت لهم الدولة مصداقًا لقوله
صلى الله عليه وسلم (إذا ظُلم أهل الذمة أُديل للعدو) أي عادت لهم الدولة.
((يتبع بمقال تالٍ))