حديث صحيفة علي كرّم الله وجهه (س١٢) من صاحب الإمضاء بمصر السلام عليكم ورحمة الله وبركاته؛ وبعد فأرجوكم شرح حديث علي الذي نقلتموه في (ص٤٨٣ م ١٦) من المنار وقوله فيه: (وما في هذه الصحيفة: العقل وفكاك الأسير ولا يقتل مسلم بكفار) فما الذي تعرفه عن هذه الصحيفة؟ وأين هي؟ ولماذا أهملها المسلمون؟ وهل ما فيها متفق عليه في جميع المذاهب؟ وإن لم يكن متفقًا عليه فلِمَ ذلك؟ ولماذا أمر - صلى الله عليه وسلم - بكتابتها مع أنه نهى عن كتابة شيء عنه غير القرآن؟ ومتى أمر بكتابتها؟ ومَن كتبها وأين؟ وكيف لا يقتل المسلم بالكافر؟ فالرجاء الإجابة الشافية عن كل هذه الأسئلة كعادتكم حتى لا نحتاج لمزيد بيان بعد ذلك. (المخلص محمد توفيق صدقي) (ج) الحديث رواه الجماعة؛ أحمد والشيخان وأصحاب السنن بألفاظ متقاربة. أمّا البخاري فقد روى الحديث عن أبي جحيفة في كتاب العلم بلفظ: (قلت لعلي: هل عندكم كتاب؟ قال: لا إلا كتاب الله، أو فهم أعطيه رجل مسلم، أو ما في هذه الصحيفة. قلت وما في هذه الصحيفة؟ قال: العقل وفكاك الأسير ولا يقتل مسلم بكافر) . ورواية الكشميهني (وأن لا يقتل ... إلخ) . وفي باب فكاك الأسير من كتاب الجهاد بلفظ: (قلت لعلي: هل عندكم شيء من الوحي إلا ما في كتاب الله؟ قال: لا والذي فلق الحبة وبرأ النسمة، ما أعلمه، إلا فهمًا يعطيه الله رجلاً في القرآن، وما في هذه الصحيفة. قلت: وما في هذه الصحيفة؟ قال العقل وفكاك الأسير وأن لا يقتل مسلمٌ بكافرٍ) . وفي باب الدِيَات بلفظ: (سألت عليًّا رضي الله عنه: هل عندكم شيء ممّا ليس في القرآن؟ - وقال ابن عيينة مرةً: ممّا ليس عند الناس - فقال: والذي فلق الحبة وبرأ النسمة، ما عندنا إلا ما في القرآن، إلا فهمًا يعطى رجل في كتابه، وما في هذه الصحيفة. قلت: وما في هذه الصحيفة؟ قال: العقل وفكاك الأسير ... إلخ) . ورواه في باب حرم المدينة من كتاب الحج عن إبراهيم التيمي عن أبيه بلفظ: عن علي - رضي الله عنه - قال: ما عندنا شيء إلا كتاب الله، وهذه الصحيفة عن النبي صلى الله عليه وسلم: (المدينة حرم ما بين عائر إلى كذا من أحدث فيها حدثًا، أو آوى محدثًا فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل منه صرف ولا عدل. (وقال) : وذمة المسلمين واحدة، فمن أخفر مسلمًا فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل منه صرف ولا عدل، ومَن تولّى بغير إذن مواليه فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل منه صرف ولا عدل) . وفي باب ذمّة المسلمين من كتاب الجزية بلفظ (خطبنا علي فقال: ما عندنا كتاب نقرؤه إلا كتاب الله وما في هذه الصحيفة. قالوا: وما في هذه الصحيفة؟ فقال فيها الجراحات وأسنان الإبل، والمدينة حرام ما بين عير إلى كذا، فمَن أحدث فيها حدثًا أو آوى فيها محدثًا فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل منه صرف ولا عدل. ومتى تولى غير مواليه فعليه مثل ذلك وذمة المسلمين واحدة، فمَن أخفر مسلمًا فعليه ذلك) . وفي باب إثْم مَن عاهد ثم غدر بلفظ: عن علي قال: ما كتبنا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - إلا القرآن وما في هذه الصحيفة. قال النبي صلى الله عليه وسلم: (المدينة حرام ما بين عائر إلى كذا، فمَن أحدث حدثًا أو آوى محدثًا فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين لا يقبل منه عدل ولا صرف، وذمّة المسلمين واحدة يسعى بها أدناهم، فمَن أخفر مسلمًا فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين لا يقبل منه صرف ولا عدل، ومَن والى قومًا بغير إذن مواليه فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين لا يقبل منه صرف ولا عدل) . وفي باب إثم مَن تبرّأ مِن مواليه بلفظ: ما عندنا كتاب نقرؤه إلا كتاب الله غير هذه الصحيفة، (قال) فأخرجها فإذا فيها أشياء مِن الجراحات وأسنان الإبل، (قال) وفيها المدينة حرام ... إلخ) وذكر مسألة الولاء فمسألة الذمة بمثل ما تقدم) . وفي باب كراهة التعمق والتنازع والغلوّ في الدين مِن كتاب الاعتصام بلفظ: خطبنا علي على منبر من آجرّ فقال: والله ما عندي مِن كتابٍ يُقرأ إلا كتاب الله وما في هذه الصحيفة، فنشرها فإذا فيها أسنان الإبل، وإذا فيها المدينة حرم من عير إلى كذا، فمَن أحدث فيها حدثًا فعليه لعنة الله - ... وإذا فيه: ذمّة المسلمين واحدة يسعى بها أدناهم فمَن أخفر مسلمًا فعليه ... (إلا أنه قال) : لا يقبل الله منه صرفًا ولا عدلاً. وروايات مسلم وأصحاب السنن بمعنى روايات البخاري، وصّرح مسلم بِحَدَّي المدينة وهما عير وثور (جبلان) ، قال الحافظ في فتح الباري في الكلام على حديث علي من طريق إبراهيم التيمي عن أبيه: وسبب قول علي هذا يظهر مما أخرجه أحمد من طريق قتادة عن أبي حسان الأعرج أن عليًّا كان يأمر بالأمر فيقال له: (فعلناه) . فيقول: صدق الله ورسوله. فقال له الأشتر: إن هذا الذي تقول؛ أهو شيء عهده إليك رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال: ما عهد إليّ شيئًا خاصةً دون الناس إلا شيئًا سمعته منه فهو في صحيفة في قراب سيفي، فلم يزالوا به حتى أخرج الصحيفة فإذا فيها - فذكرت الحديث - وزاد فيه: (المؤمنون تتكافأ دماؤهم، ويسعى بذمتهم أدناهم، وهم يدٌ على مَن سِواهم. ألا لا يقتل مؤمن بكافر، ولا ذو عهدٍ في عهده. (وقال فيه) : إن إبراهيم حرّم مكة، وإنّي أحرم المدينة ما بين حَرَّتَيْها وحماها كله، لا يُختلى خلاها ولا يُنفّر صيدُها، ولا تُلتقط لقطتُها، ولا يُقطع منها شجرةٌ، إلا أن يعلف رجلٌ بعيره، ولا يُحمل فيها السلاح لقتالٍ) ، والباقي نحوه. وذكر في موضعٍ آخر أن سبب سؤال علي زَعْم بعضهم أن النبي خصه بشيء دون الناس. وقال في الكلام على حديث في باب إثم مَن تَبَرّأ من غير مواليه: وكان فيها أيضًا ما مضى في الخمس من حديث محمد ابن الحنفية أن أباه علي بن أبي طالب أرسله إلى عثمان بصحيفةٍ فيها فرائض الصدقة، فإن رواية طارق بن شهاب عن علي في نحو حديث الباب عند أحمد أنه كان في صحيفته فرائض الصدقة. وقال الحافظ: إن الصحيفة كانت مشتملة على كل ما ورد؛ أي فكان يذكر كل راوٍ منها شيئًا، إمّا لاقتضاء الحال ذكره دون غيره، وإمّا لأن بعضه ملمٌّ يحفظ كل ما فيها أو لم يسمعه، ولا شك أنهم نقلوا ما نقلوه بالمعنى دون التزام اللفظ كله، ولذلك وقع الخلاف في ألفاظهم، ولم يقل الرواة: إنه قرأها عليهم برمّتها فحفظوها أو كتبوها عنه؛ بل تدل ألفاظهم على أنه كان يذكر ما فيها أو بعضه من حفظه، ومَن قرأها لهم كلها أو بعضها لم يكتبوها؛ بل حدّثوا بما حفظوا، ومنه ما هو من لفظ الرسول - صلى الله عليه وسلم - ومنه ما هو إجمالٌ للمعنى كقوله: (العقل وفكاك الأسير) ؛ فإن المراد بالعقل: دِيَةُ القتل. وسميت عقلاً لأن الأصل فيها أن تكون إبلاً تعقل؛ أي تربط بالعقل في فِنَاء دار المقتول أو عصبته المستحقين لها. وقوله: (أسنان الإبل) في بعض الروايات معناه ما يشترط في أسنان إبل الدية أو الصدقة. وفكاك الأسير ما يفك به من الأسير من فداءٍ أو مالٍ. ففي الصحيفة بيان ذلك، لا لفظ (العقل، وفكاك السير وأسنان الإبل) . وجملة القول أننا لا نعلم أن أحدًا كتبَ عن أمير المؤمنين ما كان في تلك الصحيفة بنصه، ولا أنه هو كتبها بأمر النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه قال في رواية قتادة عن أبي حسان أنه سمع شيئًا فكتبه. وأمّا كتابة الصحيفة مع ما ورد من النهي عن كتابة شيء عن النبي - صلى الله عليه وسلم - غير القرآن، فيقال فيه: إن النهي عن الكتابة معارض بالأمر بها كحديث (اكتبوا لأبي شاه) وغيره، والكتابة لأهل اليمن، وكتاب الصدقات الذي كتبه أبو بكر - رضي الله عنه - إلى أنس لمّا وجّهه إلى البحرين؛ أي عاملاً على الصدقة. فإنه قال فيه: (إن هذه فريضة وفي رواية فرائض الصدقة التي فرض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على المسلمين والتي أمر بها رسوله ... إلخ) ورواه الشافعي وأحمد والبخاري وأبو داود والنسائي وغيرهم. وروى أبو داود والترمذي وابن ماجهْ عن الزهري عن سالم بن عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: كتب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كتاب الصدقة فلم يخرجه إلى عماله حتى قُبِضَ فقرنه بسيفه. فعمل به أبو بكر حتى قُبِضَ ثُم عمل به عمر حتى قُبِضَ ... إلخ. هذا لفظ أبي داود ثم بيّنه بنحو حديث أنس مختصرًا ولم يذكر الزهري البقر. وفي رواية عن يونس بن يزيد عن الزهري قال هذه نسخة كتاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الذي كتبه في الصدقة وهو عند آل عمر بن الخطاب، قال ابن شهاب: أقرأنيها سالم بن عبد الله بن عمر فوعيتها على وجهها، ثُم ذكر أن عمر بن عبد العزيز انتسخها. وقد تفرّد بوصل هذا الحديث سفيان بن حسين وهو من رجال مسلم إلا أنه ضعيف فيما يرويه عن الزهري خاصة، وتابعه سليمان بن كثيرٍ مِن رجال الصحيحين، وفي رواية أبي داود لحديثِ أنس أن الكتاب كان عليه ختم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وغير ذلك مما ورد في الكتابة. فمِن الناس مَن يجعل الإذن ناسخًا، ومنهم مَن يجعل أحد النصين مطلقًا والآخر مقيدًا كتقييد كون الكتابة عنه لتبليغ نصّها والتعبد بلفظها عنه كالقرآن، لئلا يشتبه بعض الناس، فيمتنع التنافي بينهما حينئذٍ. وقد سَبَقَ للمنار البحث في ذلك كما يعلم السائل. وأمّا الأخذ بالأحكام المرْوية عن تلك الصحيفة: هل هو متفق عليه أم لا؟ فجوابه: إن العلماء لم يتفقوا على العمل بها، فمنهم مَن لم يحرم المدنية كمكة، ومنهم مَن يقول: يقتل المؤمن بالكافر؛ كالحنفية، ومَن خالف مِن العلماء شيئًا مِمَّا في الصحيفة فله مِن الدليل المعارض له ما يراه مرجحًا عليه، كاحتجاجهم بإقرار النبي صلى الله عليه وسلم لِمَن صاد النغر (طائر أحمر المنقار كالعصفور) على جواز صيد المدنية، على أن تلك واقعة حال مجهول تاريخها، وكاحتجاجهم على قتل المؤمن بالكافر بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قتل مسلمًا بمعاهد وقال: (أنا أكرم من وفى بذمته) . رواه البيهقي من حديث عبد الرحمن البيلماني مرسلاً وهو ضعيف. وبقوله في بعض روايات حديث الصحيفة وفي أحاديث أخرى (لا يقتل مسلم بكافر ولا ذو عهد في عهده) قالوا معناه المناسب لعطفه على منع قتل المؤمن بالكافر: ولا يقتل معاهد حال كونه في عهده لم ينقضه بكافر. وحينئذٍ يكون المراد بالكافر الحربي، أي من كان محاربًا للمسلمين بالفعل أو بالقوة بأن لم يكن بينه وبينهم عهدٌ ولا ذمةٌ. لأنَّ المعاهد والذميَّ لا يقتل بالحربي إجماعًا، وبعموم أدلة القصاص، وليس هذا محل تحرير هذا البحث، وإنك تجد تحرير الأدلة فيه من غير تعصبٍ في (فتح الباري) و (نيل الأوطار) . فمَن صح عنده قتل المسلم بالكافر فله أن يعدَّه من عجائب مبالغة الإسلام في العدل والمساواة، ومَن صح عنده خلافه فلا يراه بدعًا في أعمال الأمم الفاتحة، والزمن زمن الأحكام العرفية أو العسكرية؛ بل ترى الإفرنج لا يقبلون أن يكونوا مساويين لأمم الشرق والجنوب في الدماء لا في البلاد التي يفتحونها فتحًا حربيًا ولا سلميًّا ولا في البلاد التي يكونون فيها نزلاء معاهدين كالضيوف. أمّا أحكامهم العرفية فحسبك نموذجًا منها ما جرى في (دنشواي) من هذه البلاد من تمزيق جلود بعض المصريين بالضرب المُبرح بالسياط ذات العقد، ثُم شنقهم وصلبهم على أعين الناس من رجالٍ ونساءٍ وأطفال مِن أهلهم وغيرِ أهْلهم؛ لأنهم تجرَّؤوا على بعض عسكر الإنكليز الذين صادوا حمامهم عن بيادرهم بالمقاومة والضرب المعتاد الذي لا يُقصد به القتل، ولا يقتل مثله. هذا وقد اشتهر الإنكليز بأنهم أعدل الأوربيين وأقربهم إلى الرحمة. وحجّة الإفرنج في تمييز أنفسهم على الشرقيين أنهم أرقى منهم عدلاً وفضيلةً، وهكذا كان المسلمون فوق جميع الأمم عدلاً وفضيلةً بشهادة جميع مؤرخي الأمم. وإنما ذكرت السائل بمسألة الأحكام العرفية وبهذا الشاهد منها، وبما يعاملنا به الإفرنج في بلادنا، ليحاجَّ به مَن يجادل في أمثال هذه المسائل مِن المخالفين أو متفرنجة المسلمين، محجوبين بنظريات الحقوق عن سيرة العالم العملي. ومَن لم يسدل على نظره هذا الحجاب يقول كما قال غوستاف لوبون الحكيم الفرنسي: (ما عرف التاريخ فاتحًا أعدل ولا أرحم من العرب) . وكذا سائر المسلمين كانوا في فتوحاتهم أعدل وأرحم من غيرهم وإن كانوا دون العرب. *** دليل منع الحائض من الصلاة وحكمته (س١٣) من صاحب الإمضاء في (ههيا - شرقية) سيدي الأستاذ الرشيد المرشد السلام عليكم ورحمة الله. وبعد فقد قرأت مباحثكم الرائقة الحكيمة في موضوع الوضوء والطهارة في المنار فأعجبتني جدًّا، واستفدت منها الشيء الكثير، فجزاكم الله عني وعن الإسلام والمسلمين خير الجزاء. وإنني لمناسبة هذا المقام لسؤالٍ عندي قديم، أنتهز هذه الفرصة لأبديه، عسى أن تتكرَّموا بالجواب على طريقتكم العصرية فأقول: هل سقوط فريضة الصلاة عن المرأة وهي حائض أو في نفاس من الأشياء المجمع عليها بين جميع فرق المسلمين، وإذا كانت كذلك أو كانت صحيحة فلِمَ لَمْ تُذكر في القرآن؛ مع أنه تعالى نهى عن الجماع في الحيض فكان مِن باب أَوْلى أن ينهى عن الصلاة في مثل هذه الحالة لو كان أراد سبحانه وتعالى أن يكون النهي لكل زمانٍ ومكانٍ، كما ذكر مسوغات عدم الحج بقوله: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ البَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً} (آل عمران: ٩٧) ومسوغات عدم الصيام أو بالأحرى ما يمنع الصيام بقوله تعالى: {وَمَن كَانَ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَر} (البقرة: ١٨٥) . لم تذكر موانع للصلاة مطلقًا، وإنما ذكرت أعمال يؤتى بها قبل الشروع فيها، فلا الخوف من الأعداء أو غيرهم في الحرب أو غيرها مسوغ لترك أو تأجيل الصلاة، فكيف يكون دم الحيض وهو ذلك الدم الذي يتغذى منه الجنين في بطن أمه مانعًا مِن الصلاة؟ فإنْ صحَّ أن يقال إنه نجس، يصح أن يقال: إن جسم الطفل؛ بل جسم كل إنسانٍ نجس؛ لأن أصله من ذلك الدم. العلم الحديث لم يثبت أن في دَمِ الحيض عناصر خبيثة في ذاتها؛ بل أثبت أن الإتيان أثناء وجوده ضار جدًّا بالمرأة، لأن أعضاءها التناسلية تكون في حالة احتقان، والأوعية الدموية فيها تكون ممتدة، فيسهل حصول نزيف بسبب حركة عنيفة، كما يسهل جدًّا دخول مكروبات الأمراض، فتحدث التهابات موضعية وغيرها قد تذهب بحياة المرأة أو تورثها العقم الدائم مع الآلام الشديدة؛ ولا سيّما عند مجيء الحيض في كل شهر. والرجل لا يخلو أيضًا من الضرر، فقد يدخل بعض السائل من الحيض في مجرى البول من القضيب فيحدث التهابًا يشبه السيلان. وهذا كله ينطبق على قوله عز وجل: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ المَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي المَحِيضِ وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ المُتَطَهِّرِينَ} (البقرة: ٢٢٢) . فأين هذا من نهي الحائض عن الصلاة وهي عماد الدين؟ ومثلها في طهارة الأرواح كمثل الماء في طهارة الأجسام، على أن حركاتها من قيامٍ وركوعٍ وسجودٍ لا تضر الحائض غالبًا، وإن خيف منها الضرر فيمكن أن تؤتى بشكل خالٍ من كُل مضرة، وليكن أخذ ذلك من قوله تعالى: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ * فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالاً أَوْ رُكْبَاناً فَإِذَا أَمِنتُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَمَا عَلَّمَكُم مَّا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ} (البقرة: ٢٣٨-٢٣٩) . الحيض لا يمكن اعتباره إلا مرضًا شهريًّا مِن أخفِّ الأمراض فِلَمَ تؤمر المرأة بالصلاة في أشدّ الأمراض وأكثرها أذًى لها ولغيرها؛ وتنهى عنها في الحيض الذي لا ينهى عن القيام بأكثر أعمالها اليومية؟ فما رأيكم دام فضلكم. ... ... ... ... ... المستفيد من علمكم والمستضيء بمناركم ... ... ... ... ... ... الدكتورعبده إبراهيم (ج) : نقل الحافظ إجماع المسلمين على أن الحائض لا يشرع لها الصلاة ولا الصيام، وأنها تقضي الصيام دون الصلاة. إلا أنهم نقلوا أن سمرة بن جندب - من الصحابة - رضي الله عنه - كان يقول بمطالبة المرأة بقضاء الصلاة أيضًا فأنكرت ذلك عليه أم المؤمنين أمّ سلمة رضي الله عنها. ونقلوا أيضًا مثل ذلك عن بعض الخوارج ولم يعتدوا به ولا رأوه مخلاًّ بالإجماع. وأما مخالفة سمرة فهي تخرق الإجماع، وظاهر كلامهم أنه رجع إلى قول أم سلمة لأن أمهات المؤمنين هن القدوة فيما يروينه من هذه الأحكام المتعلقة بالنساء؛ إذ لا يجوز أن يوجب الله على النساء قضاء الصلاة ولا يأمرهن به النبي صلى الله عليه وسلم؛ بل لا يجوز منه السكوت عن ذلك أو إقراراهن عليه. وقد جعل العلماء حجة الإجماع على ذلك ما ورد فيه من الحديث. ويمكن أن يستنبط الدليل من القرآن على منع الحائض من الصلاة، فإنه تعالى قد اشترط الطهارة للصلاة، والطهارة متعذرة على الحائض مع استمرار سببها وهو نزول الدم. أما الطهارة المشترطة للصلاة إجماعًا؛ فهي الوضوء من الحدث الأصغر والغسل من الحدث الأكبر، وأما المشترطة عند الأكثرين فقط فطهارة البدن والثوب والمكان. وقد صرح القرآن في آيتي الوضوء والتيمم بأن طهارة الجنب الغسل، والحائض ملحقة بالجنب لأن حدثها كحدثه في تأثيره في الروح والجسد، كلاهما يحدث في الجسد ضربًا من الضعف والفتور يزيله تعميم البدن بالماء، كما بيّناه في حكمة الوضوء والغسل، وكلاهما يضعف الروحانية. وقد ثبت في السنة والإجماع القولي والعملي المتواترين أن المراد بقوله تعالى: في بيان طهارة الحيض؛ {فَإِذَا تَطَهَّرْنَ} (البقرة: ٢٢٢) فإذا اغتسلن، فطهارتهن الغسل بالكتاب والسنة والإجماع، وهي متعذرة مع وجود سببها، وإنما تجب بزواله، فإذا تعذرت الطهارة تعذرت الصلاة شرعًا لأنها مشروطة بها. وتتعذَّر عليها الطهارة من الخبث كما تتعذر عليها الطهارة من الحدث، فإن الدم نجس شرعًا وعرفًا لأنه مستقذر جدًّا باتفاق الطباع السليمة من كل الأمم. ولا يلزم من نجاسته نجاسة الجنين الذي يتغذى به، كما لا يلزم أن يكون النبات الذي يتغذى بالعذرة والروث وغيرهما من الأقذار نجسًا، فالنجاسة في الشرع والعرف لا تبنى على قواعد الطب، فإن جميع أدباء البشر؛ بل جميع طبقاتهم تستقذر الملطخ بالدم وتعاف مجالسته ومواكلته ومصاحبته، وإن لم يضرهم ذلك الدم بإفساد صحتهم عليهم، وخروج المني يوجب الغسل وهو طاهر عند بعض الأئمة. وصرّح الفقهاء بأن الدم وغيره لا يحكم بنجاسته في معدنه من البدن؛ بل بعد خروجه. ومتى خرج دم الحيض صار قذرًا ولم يعد غذاء للأجنة. وقد علم مما تقدم أن ما ثبت في السنة العملية والإجماع مِن سقوط الصلاة عن الحائض له مأخذٌ ما مِن القرآن، والقرآن لم يبين أحكام الصلاة التفصيلية بل تركه لبيان النبي - صلى الله عليه وسلم - الذي خاطبه بقوله: {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} (النحل: ٤٤) ؛ إذ يشمل هذا بيان الذكر المنزل وتبليغه، وبيان المُجْمَل منه، وما يستنبط من دقائق تعبيره وأساليبه - كاستنباط النبي - صلى الله عليه وسلم - تحريم الأكل والشرب في أواني الذهب والفضة من قوله تعالى: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلاَ تُسْرِفُوا إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ المُسْرِفِينَ} (الأعراف: ٣١) ، بجعل الإسراف في لزوم الشيء ومتعلقاته كالإسراف فيه نفسه، واستنباطه تحريم الجمع بين المرأة وعمّتها أو خالتها من تحريم الله الجمع بين الأختين، لاتحاد العلة، واطراد الحكمة. ولم نذكر في سياق هذا الاستدلال ما عليه السواد الأعظم من المسلمين من تحريم قراءة القرآن على الجنب والحائض، والقرآن ركن من أركان الصلاة لا تقام بدونه؛ لأنه وقع فيه خلاف ما. ولهذا مأخذ من القرآن وإن لم يكن نصًّا فيه، وهو قوله تعالى: {لاَ يَمَسُّهُ إِلاَّ المُطَهَّرُونَ} (الواقعة: ٧٩) . وجملة القول أن الصلاة أكمل العبادات إذا لم تصح مع الجنابة فلا تصح مع الحيض بالأَوْلى، وكِلا السائلين فيهما من أسباب النسل. والحيض مرض قد تضر معه الصلاة كما قلتم، والفرق بينه وبين سائر الأمراض التي تسقط معها الصلاة أنه طبيعي دائم وسائر الأمراض ليست كذلك، وهي خلاف الأصل ومقتضى الطبيعة المعتدلة. وإذا أسقطها الشرع عن المرأة تخفيفًا عليها، فإن لها من العبادة المزكية للروح ما لا يشترط فيه ما يشترط فيها وهو ذكر الله عز وجل بالقلب واللسان والتفكر في خلق السموات والأرض {اتْلُ مَا أُوحِيَ إلَيْكَ مِنَ الكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ} (العنكبوت: ٤٥) .