للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد توفيق صدقي


الإسلام هو القرآن وحده
آراء وأفكار
للدكتور محمد توفيق أفندي الطبيب بسجن طره

هذا عنوان مقال لي جديد، أريد أن أفصح فيه عن رأي أبديه لعلماء المسلمين،
المحققين منهم لا المقلدين، حتى إذا ما كنت مخطئا أرشدوني، وإذا ما كنت
مصيبًا أيدوني، وبشيء من علمهم أمدوني، فإني لست ممن يهوى الإقامة على
الضلال، ولا ممن يلتذّ بحديث مع الجهال، فلذا أجهد النفس في تحقيق الحق
وتمحيصه، والإسراع إليه إذا ما بدا لي بارق من بصيصه، وها أنا ذا أشرع في
إيضاح المقصود بالتدقيق، راجيًا من الله التوفيق، للهداية إلى أقوم طريق فأقول:
لا خلاف بين أحد من المسلمين، في أن متن القرآن الشريف مقطوع به؛
لأنه منقول عن النبي صلى الله عليه وسلم باللفظ بدون زيادة ولا نقصان، ومكتوب
في عصره بأمر منه عليه السلام، بخلاف الأحاديث النبوية فلم يكتب منها شيء
مطلقًا إلا بعد عهده بمدة تكفي لأن يحصل فيها من التلاعب والفساد ما قد حصل،
ومن ذلك نعلم أن النبي عليه السلام لم يرد أن يبلغ عنه للعالمين شيء بالكتابة سوى
القرآن الشريف الذي تكفل الله تعالى بحفظه في قوله جل شأنه: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا
الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} (الحجر: ٩) فلو كان غير القرآن ضروريًّا في الدين
لأَمَرَ النبي بتقييده كتابة ولتكفل الله تعالى بحفظه، ولما جاز لأحد روايته أحيانًا على
حسب ما أداه إليه فهمه.
فإنْ قيل: إن النبي لم يأمر بكتابة كلامه لئلا يلتبس بكلام الله، قلت: وكيف
ذلك والقرآن معجز بنظمه ولا يمكن لبشر الإتيان بمثله ولِمَ لَمْ يضمن ما في
الأحاديث من الواجبات كما ضمن ما في القرآن حتى نأمن عليه من التغيير
والتحريف والاختلاف ولما كان بعض الدين قرآنًا والبعض الآخر حديثًا، وما
الحكمة في ذلك، وما الفرق بين الواجب بالقرآن والواجب بالسُّنة؟ فهذه بعض
أسئلة ألقيها على الباحثين ليجيبوا عنها إن كان ثَم جواب.
سأل بعض الصحابة النبي صلى الله عليه وسلم: (هل يجب الوضوء من
القيء؟) فأجاب عليه السلام: (لو كان واجبًا لوجدته في كتاب الله تعالى) فهذا
الحديث صح أو لم يصح، فالعقل يشهد له ويوافق عليه، وكان يجب أن يكون مبدأ
للمسلمين لا يحيدون عنه. ولكن ويا لَلأسف لَحِقَ المسلمين ما لحق غيرهم من الأمم،
فدفع بهم في ظلمات في بحر لُجيّ يغشاه موج من فوقه موج من فوقه سحاب،
ظلمات بعضها فوق بعض، إذا أخرج أحدٌ منهم يده لا يكاد يراها، ومن لم يجعل
الله له من كتابه نورًا فما له من نور.
ولع الناس في الأعصر الأولى بالروايات القولية ولوعًا، وتفاخروا بكثرة
جمعها جموعًا، حتى ملأت الأحاديث الآفاق، وكثر فيها التضارب والاختلاف.
وصار من المستحيل أن يعمل الإنسان بدينه بدون أن يقلد غيره ممن أفنوا أعمارهم
في عمل مذهب لهم فأصبح التقليد من أوجب الواجبات في دين المسلمين بعد أن كان
من ألدّ أعداء القرآن المجيد. تنوعت المذاهب واختلفت المشارب وتعددت الآراء
في كل فرع من فروع الفقه حتى تجد في كل مسألة أن كل ممكن من الممكنات
العقلية قد صار مذهبًا لأحد الأئمة ووجب على المقلدين القول (بأن الكل على الحق)
فأصبح القول باجتماع الضدين بل النقيضين عقيدة من عقائد الدين بين المسلمين
فحق عليهم القول بأن سيتبعون سنن مَنْ قبلهم حتى لو دخلوا جُحْر ضب لدخلوه.
أراد بعضهم أن يزيل عن العين الرمد فقال بسد باب الاجتهاد. وبذلك شفى الرمد
بالإعماء، فصار كل من أراد أن يستعمل عقله في الدين رموه بأنه من المارقين
وهكذا ضاع الحق بين الأباطيل: ولولا عناية الله لأزهقت رُوحَه الأضاليلُ.
نظر المجتهدون في الأحاديث نظرة علموا ما فيها من الاختلاف، وتحققوا أن
أكثرها موضوعات، ولما أراد كل منهم أن يستخرج مذهبه اضطر أن يرفض منها
ما صح عند غيره، فهل يعقل أن الله يدين العالمين بشيء لا يمكن لأحد أن يميز
حقه من باطله؟ وهل يعذر المسلمون في تركهم القرآن خلف ظهورهم والاشتغال
عنه بهذه المذاهب وصرف الوقت في مراجعة الروايات التي لا تحصى لظنهم أن
القرآن غير وافٍ بالدين كله، والله تعالى يقول: {مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ} (الأنعام: ٣٨) وإذا صحت مذاهبهم، فأي تفريط أكبر من ترك القرآن لأكثر
واجباتهم في الصلاة والصوم والحج والزكاة وغير ذلك؟
دين الله سهل ميسور، والتقليد فيه محظور، فلو كان العمل بما في الأحاديث
واجبًا لَلَزِمَ كل مكلف أن يترك أي شغل آخر ويقضي الليالي الطويلة في مطالعة
المجلدات الضخمة من كتب الحديث، ليعرف الضعيف والصحيح والموضوع،
والحسن والموقوف والمرفوع، والناسخ والمنسوخ:
فهل في شرعة الإنصاف أني ... أكلف خُطَّةً لا تستطاع؟
يحتج السنيون على صحة قولهم بنحو قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ} (النساء: ٥٩) ولكننا نحن
القرآنيين نقول: إن إطاعة الرسول لا نزاع فيها ولكن النزاع في مسألة أخرى وهي:
هل يفرض علينا الرسول فرضًا لم يفرضه كتاب الله؟ فإذا كان ذلك صحيحًا فهل
لأولياء الأمر أن يفرضوا علينا صلوات سبعًا بدل الخمس أو صيام شهرين بدل
الشهر ونحن مأمورون بطاعتهم مثل طاعة الرسول؟ وإذا كان الأمر كذلك فما
بال جميع أصحاب المذاهب ميزوا بين أمر الله وأمر الرسول أو بين الواجب والسنة
وبين المفروض والمندوب؟ أليس ذلك إقرارًا منهم بالفرق الهائل بين الكتاب
والسنة؟
نحن لا نجهل أن كل مذهب منها يقول ببعض فرائض لا أثر لها في الكتاب،
ولكن الذي نلاحظه على أصحابها ونشكرهم عليه أنهم كانوا دائمًا يجتهدون أن
يأخذوا دليلهم على الفرضية من الكتاب إن أمكنهم حتى إن كثيرًا منهم قال بعدم
وجوب أشياء كان النبي عليه السلام يواظب عليها ويأمر أصحابه بها، إذ لم يجد
دليلاً عليها من القرآن، فأبو حنيفة مثلاً قال بأن قراءة الفاتحة في الصلاة ليست
بواجبة؛ لأنه لم يجد أمرًا بذلك في كتاب الله، وكذلك قال في الاستنجاء، وذهب
الجميع إلى القول بأن المضمضة والاستنشاق ليستا من فرائض الوضوء، وغير
ذلك كثير حتى إنك تجدهم يستنبطون كل ما قالوا بأنه فرض من الآية الواردة فيه،
وبعد ذلك يقولون بأن ما زاد عليه فهو سنة، ولو لم يثبت أن النبي تركه مرة
واحدة، أليس ذلك أثرًا من آثار الفطرة السليمة الباقية في نفوسهم؟
إذا نظر ناظر في جميع المذاهب المعروفة واستخرج منها جميع ما أجمعوا
على وجوبه وجد أنه كله مستنبط من القرآن الشريف إلا مسائل قليلة جدًّا أذكر منها
بعضها لأهميتها كعدد ركعات الصلاة، ومقادير الزكاة وما يتعلق بها.
لا شك عندي أن هاتين المسألتين متواترتان عن النبي صلى الله عليه وسلم
فليس ذلك محلاًّ للنزاع، ولكن محل النزاع هو هل كلُّ ما تواتر عن النبي أنه فعله
وأمر به يكون واجبًا على الأمة الإسلامية في جميع الأزمنة والأمكنة، وإن لم يرد
له ذكر في القرآن رأيي أنه لا يجب. وربما كان ما يفعله النبي صلى الله عليه
وسلم هو مندوبًا إليه ندبًا شديدًا أو أنه تطبيق لأوامر القرآن الباقية على أحوال
الأمة العربية، بحيث إن غيرها من الأمم لها أن تستنبط من الكتاب ما يوافق
أمورها وأحوالها كما سنبين ذلك في مسألة الزكاة.
ولنبدأ الآن بالبحث في مسألة ركعات الصلاة. قال الله تعالى: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ
فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَن يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ
كَفَرُوا إِنَّ الكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُواًّ مُّبِيناً * وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ
طَائِفَةٌ مِّنْهُم مَّعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِن وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ
أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ} (النساء:
١٠١- ١٠٢) إلى آخر الآية، فيتضح من هذه الآيات الكريمة أن قصر الصلاة
مباح في السفر إذا خفنا العدو، وأن صلاة الخوف للإمام ركعتان فقط وللمؤتمين واحدة
يصلي نصفهم الركعة الأولى معه، ثم يصلي النصف الآخر الركعة الثانية،
وهذا هو المتبادر من القرآن الشريف وما ذهب إليه ابن عباس وجابر بن عبد الله
ومجاهد فإذا كانت صلاة الخوف ركعة واحدة للمؤتم، وظاهر من السياق أن هذا
قصر، أي دون الواجب، فيكون الفرض في أوقات عدم الخوف هو أكثر من
ركعة، أي أن القرآن يفرض على المسلم أن يصلي في كل وقت من أوقات الصلاة
أكثر من ركعة، ولم يحدد له عددًا مخصوصًا، وتركه يتصرف كما يشاء،
وبعبارة أخرى: إن الإنسان يجب عليه أن يصلي ركعتين على الأقل، وله أن يزيد
عن ذلك ما شاء أن يزيد بحيث لا يخرج عن الاعتدال والقصد، فإن الغلو في الدين
مذموم وكذا في كل شيء {إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ المُسْرِفِينَ} (الأعراف: ٣١) ومن
ذلك تعلم أن عدد ركعات الصلاة غير معين إلا بهذا القدر فقط، وهو أن لا
تنقص عن اثنتين ولا تزيد إلى درجة الإفراط، وبعد ذلك فللمسلم الاختيار فيما يفعل
على حسب ما يجده من نفسه ومن وقته، ولا يجوز له القصر عن الركعتين إلا
فيما ذكره القرآن الشريف، والذي يدلك من السنة على أن هاتين الركعتين لهما
الشأن الأكبر في الدين ما يأتي:
(١) أول ما فُرضت الصلاة كان النبي عليه السلام يصلي دائما ركعتين
ركعتين مدة إقامته بمكة وجزءًا من إقامته بالمدينة , فإن قيل: لعل ذلك كان في أول
الأمر لحدوث عهد المسلمين بالإسلام فناسب أن يكون التكليف حينذاك خفيفًا، قلنا:
إن المعهود في طباع البشر أن يكونوا عند دخولهم في دين جديد شديدي الرغبة في
القيام بجميع واجباتهم الدينية ويطلبون المزيد، وكلما طال عليهم العهد أخذوا في
التهاون فيها، ولذلك كان المسلمون في أول الإسلام يقومون الليل بعضه إن لم يكن
كله، وكلما ازداد اضطهاد المشركين لهم كلما ازدادوا رغبة في الصلاة فلو كلفوا
بأكثر من ركعتين في أول الأمر لوجدوا في أنفسهم من الرغبة الشديدة في العمل ما
لا يجدونه فيما بعد وخصوصًا لأنهم كانوا غير مكلفين بالجهاد ولا بغيره: كالصوم
والحج وغيرهما، ثم لو سلَّمنا أن التخفيف في الصدر الأول كان لمراعاة جانب
المسلمين الحديثي العهد بالدين وهم إذ ذاك نفر قليل فلماذا لا يراعى جانب مَنْ دَخَلَ
في الدين فيما بعد وقد كانوا يُعدُّون بالملايين؟ فلهذه الأسباب نحن نتخذ هذه المسألة
دليلاً على أن النبي ما كان يكتفي بالركعتين في ذلك الوقت إلا لبيان أنهما أقل
الواجب، ثم زاد عليهما فيما بعد لبيان أن الزيادة أولى.
(٢) إن النبي لما زاد عدد ركعات الصلاة كان يقتصر على ركعتين في
سفره ولو لم يكن هناك خوف من العدو، ولو كان السفر قصيرًا جدًّا، ولو أقام
بالجهة التي سافر إليها بضعة عشر يومًا وزال عنه العناء والتعب، فلو كانت
الزيادة واجبة لعُدَّ هذا تهاونًا، وخصوصًا لأن القرآن لم يبح القصر إلا عند الخوف
من العدو ولكنهم يقولون تحكمًا: إن هذا هو القصر المراد في القرآن ولا يبالون
بمخالفة الظاهر منه ونحن نسمي ذلك (اكتفاء بالواجب) محافظة على مقام القرآن
الشريف ولا نقول في قوله تعالى: {إِنْ خِفْتُمْ أَن يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا} (النساء:
١٠١) إن هذا القيد في الآية المذكورة أنفًا لا مفهوم له كما يقولون اتباعًا لمذاهبهم.
(٣) كان عليه السلام لا يجهر بالقراءة في الركعتين الأخيرتين، وإن جهر
في الأُوليَيْن ولا يقرأ فيهما بعد الفاتحة شيئًا من القرآن، فهل يدل ذلك على أن
منزلتهما أقل من الركعتين الأوليين؟ .
(٤) إننا إذا نظرنا إلى عدد الركعات التي كان يصليها النبي في أوقات
الصلاة مع قطع النظر عما سماه المجتهدون سُنة وما سمَّوْه فرضًا نجد أنه لم يحافظ
على عدد مخصوص، فكان تارة يزيد وتارة ينقص؛ ولذلك اختلفت المذاهب في
عدد السنن وفي المندوب والمستحب والرغيبة إلى غير ذلك من التقسيمات والأسماء
التي ما كان يعرفها الرسول نفسه ولا أصحابه، ثم إن عدد الركعات التي كان
يصليها في الأوقات المختلفة من اليوم هو مختلف أيضًا، فصلاة الصبح مثلاً أربع
ركعات والظهر عشر ركعات أو اثنتا عشرة ركعة، ولكن الشيء المطرد الذي
نلحظه أنه ما صلى وقتًا أقل من ركعتين ولا تقيد بعدد مخصوص، وهذا يؤيد ما
ذهبنا إليه كل التأييد.
وأما كونه كان يصلي بعض هذه الركعات في الجماعة ويواظب على ذلك،
وإذا كانت الصلاة رباعية أو ثلاثية لم يسلم إلا مرة واحدة، وإذا ترك سهوًا بعضها
أعاده وسجد للسهو، فكل هذه أشياء لا يصح أن يُردَّ بها علينا، أما صلاة الجماعة
فهي غير خاصة بالفرض، فصلاة العيدين والكسوف والخسوف والاستسقاء وغيرها
كان يصليها جماعة وكذا صلى بعض النوافل، وأما المواظبة على جعل بعض
الصلوات أربعًا أو ثلاثًا فهو لا يدل على وجوب ما فوق الركعتين؛ لأن هذه
المواظبة المزعومة غير مسلمة كما بينا ذلك فيما سبق، وإذا سلمت فكم من أشياء
واظب عليها طول حياته، وقال بعض الأئمة: إنها غير واجبة مثل الاستنجاء أو
الاستجمار، ومثل قراءة الفاتحة في كل ركعة والمضمضة والاستنشاق، وغير ذلك
كثير جدًّا.
وأما قرن الركعات بتسليمة واحدة فكم من أشياء قرنت بل مزجت
بالفرائض، وقال الأئمة: إنها غير واجبة مثل كثير من أعمال الحج والوضوء
والصلاة، ولما لا نتخذ نحن جلوسه صلى الله عليه وسلم دائمًا بين الركعتين
الأوليين والركعتين الأخيرتين، إشارة منه إلى فصل الواجب عن غير الواجب،
وكذا عدم الجهر في الأخيرتين وعدم قراءة شيء بعد الفاتحة فيهما، وأما إعادة ما
تركه سهوًا وسجود السهو فهو أيضًا غير دليل؛ لأن السبب فيه هو أن النبي عليه
السلام لمّا كان ينوي أن يصلي أربع ركعات مثلاً، ويجد أن قلبه اشتغل بشيء آخر
أنساه ما هو فيه كان يعد ذلك تقصيرًا وذنبًا؛ فيسجد سجدتي السهو استغفارًا لله
تعالى وطلبًا للصفح عنه، وذلك بعد أن يعيد ما كان نوى أن يصليه ونسيه عقابًا
للنفس، وإن كان سهوها للفكر في أمر شريف يليق بالأنبياء، فإن حسنات الأبرار
سيئات المقربين، وليس سجود السهو هذا خاصًّا بترك الفرض، بل إذا نسي
الإنسان أي شيء مما نوى عمله لله حق عليه أن يفعله، فإذا نوى أن يصلي مثلاً
أربع ركعات، فصلى سهوًا ثلاثًا، ثم تذكر فليصل ما نسيه وليسجد لله، قال عليه
الصلاة والسلام: (إذا قام أحدكم يصلي أتاه الشيطان فلبَّس عليه حتى لا يدري كم
صلى، فإذا وجد ذلك أحدكم فليسجد سجدتين) .
وأما الاحتجاج بالإجماع فهو غير حجة علينا؛ لأن أصحاب الرسول صلى الله
عليه وسلم ما كانوا يعرفون اصطلاحاتنا هذه الفقهية، فلا يميزون بين ما نسميه
نحن الآن سُنة أو فرضًا أو مندوبًا أو مستحبًّا، بل كانوا يحافظون على كل شيء
رأوا النبي عليه السلام يفعله، وأما إجماع الخَلَف فلا نعبأ به والاستشهاد بحديث
(لا تجتمع أمتي على ضلالة) إن صح هذا الحديث عنه عليه الصلاة والسلام،
فنحن لا نقول: إن المسلمين اجتمعت في هذه المسألة على ضلالة، فإن مَنْ عرف
أن الواجب عليه ركعتان على الأقل فصلى أربعًا تقليدًا للرسول عليه السلام شكرناه
وشكره الله ورسوله وزاده الله أجرًا، وإنما الغرض من هذا البحث هو تمحيص
المسائل علميًّا ليس إلا، وهو يفيدنا أيضًا في مسائل أخرى من الوجهة العملية فوائد
لا تحصى.
***
مبحث الزكاة
نذكر أولاً مقدار النصاب من الذهب والفضة والماشية وما يجب في كل من
الزكاة حسب ما ورد في السُّنة المتواترة [١] :
النصاب ... ... ... ... ... ... ... ... ما يخرج من الزكاة
(١) من الذهب ٢٠ دينارًا (أي ١٠ جنيهات تقريبا) ... ... نصف دينار
(٢) من الفضة ٢٠ دينارًا ... (٢٠٠ درهم) ... ... ... ٥ درهم
(٣) من الإبل ٢٠ دينارًا ... (٥ جمال) ... ... ... شاة واحدة
(٤) من البقر ٢٠ دينارًا ... (٣٠ بقرة) ... ... ... عجل تبيع
(٥) من الغنم ٢٠دينارًا ... (٤٠ شاة) ... ... ... شاة واحدة
فالذي يكاد يجزم به العقل أن قيمة النصاب من كلٍّ لا بد أنها كانت عند العرب
متساوية أي أن مَنْ كان عنده منهم ٢٠ دينارًا كان كمن عنده ٢٠٠ درهم أو٥ جمال
أو ٤٠ شاة؛ ولذلك تؤخذ شاة واحدة ممن عنده ٤٠ شاة وكذا ممن عنده ٥جمال ولو
لم تكن جميع هذه المقادير متساوية لكان هناك ظلم ظاهر لبعض الناس دون
الآخرين، ومما يرجح أن هذه المقادير إن لم تكن متساوية فهي متقاربة جدًّا أن
مالكًا رضي الله عنه جعل القطع ليد السارق مشروطة بسرقة ربع دينار أو ثلاثة
دراهم لتَسَاوِي هذين القدرين، وعليه يكون نصف الدينار يساوي ٦ دراهم، وإذا
لحظنا أن ما يؤخذ من نصاب الذهب هو نصف دينار وما يؤخذ من نصاب الفضة
هو ٥ دراهم أدركنا أن ما يؤخذ من كل هو متقارب جدًّا إن لم نقل: إنه كان
متساويًا في زمن النبي صلى الله عليه وسلم. وإذا كان الأمر كذلك كان ثمن الشاة أو
العجل التبيع هو ٥ دراهم أو نصف دينار: أي نحو ٢٥ قرشًا صاغًا مصريًّا
بالتقريب، وذلك في مبدأ الإسلام وهي قيمة زهيدة جدًّا، ولا شك أن هذه القيمة
تختلف اختلافًا كبيرًا بحسب البلاد وبحسب الأزمنة، ومن ذلك نعلم أن ما بيّنته
السنة للعرب في ذلك الزمن لا يصلح لجميع الأمم في الأوقات المختلفة، ولذلك لم
يَرِد شيء من ذلك في القرآن مطلقًا؛ لأنه هو الكتاب الوحيد الذي أمر النبي
أصحابه بحمله لجميع العالمين، وتركت أمثال هذه التفاصيل فيه لتتصرف كل أمة
في الأمور بما يناسب حالها، فيجب على أولياء الأمر بعد الشورى ومراجعة
نصوص الكتاب أن يضعوا للأمة نظامًا في هذه المسألة، وفي غيرها لتسير عليه،
ولا يصح أن نجمد على ما وضع للعرب في ذلك الزمن جمودًا يبعدنا عن العقل
والصواب، فإن الذي عنده عشرة جنيهات أو خمسة جِمال مثلا إذا عد غنيًّا عند
قوم فلا يلزم أن يكون غنيًّا عند الآخرين، ثم إن ربع العشر إذا قام بإصلاح حال
الفقراء والمساكين وأبناء السبيل والغارمين وبالنفقة منه على العاملين على الزكاة
والمؤلفة قلوبهم وفي سبيل الله وفي تحرير الرقاب إذا قام بكل هذه الشئون في زمن
أو بلد فليس ضروريًّا أن يكون كافيًا كذلك في زمن آخر أو في بلدة أخرى، ومن
ذلك تعلم حكمة الله في عدم تعيين شيء من ذلك في كتابه تعالى , وغاية ما ذكر فيه
الحث على إعطاء الزكاة وأنها تؤخذ من أصحاب الأموال، وأن تعطى من ثمر
النخل والزيتون والرمان يوم حصاده، ولنا أن نقيس على ذلك أن زكاة الأموال
تؤخذ سنويًّا من أربابها، وذكر فيه أيضًا مصارفها التي أشرنا إليها سابقًا.
وخلاصة القول في هذا الموضوع: أننا يجب علينا الاقتصار على كتاب الله
تعالى مع استعمال العقل والتصرف، أو بعبارة أخرى (الكتاب والقياس) وأما
السنة فما زاد منها عن الكتاب إن شئنا عملنا به وإن شئنا تركناه، وما فيها من
الحِكَم الكثيرة نقبلها على العين والرأس، وكذلك أي حكم من أي مصدر آخر.
***
كلمة في الصوم والحج
أما الصوم فجميع ما اتَّفَقَ على وجوبه المجتهدون هو واضح في القرآن
وكذلك جميع أركان الحج، وهنا يناسب أن أذكر شيئًا عن تقبيل الحجر الأسود ردًّا
على أعداء الإسلام فأقول:
هذا الحجر موضوع في أحد أركان الكعبة وأصله علامة وضعها إبراهيم عليه
السلام؛ ليعرف به الركن الذي يبتدأ منه بالطواف، والظاهر أنه قطعة أخذها من
جبل هناك يسمى أبا قبيس كما يستخلص من هذه الرواية (إن الله استودع الحجر
أبا قبيس حين أغرق الله الأرض زمن نوح عليه السلام، وقال: إذا رأيت خليلي
يبني بيتي فأخرجه له، فلما انتهى إبراهيم لمحل الحجر نادى أبو قبيس إبراهيم
فجاء فحفر عنه فجعله في البيت) فهذه الرواية على ما فيها من الأوهام وكذا
غيرها يدلنا على مأخذ هذا الحجر وتاريخه، وقد شوهد أن النبي قبَّل هذا الحجر
وكذا الركن اليماني ولم يقبّل الركنين الآخرين؛ لأنهما ليسا على قواعد إبراهيم،
وهذا العمل هو ضرب من ضروب العبادة والتذلل لله تعالى وحده كوضع الساجد
وجهه على الأرض خضوعًا لله وانكسارًا مع العلم بأن الحجر والأرض لا قيمة لهما
بالمرة، ولولا سقوط منزلتيهما لَمَا كان هناك تعبُّد في وضع الوجه عليهما، ولم
يأت معنى التعبد إلا لوضع أشرف عضو في الإنسان على هذين الشيئين الحقيرين
تعظيمًا لله كمن يُقَبِّلُ أعتاب الملوك أو ذيل ثيابهم؛ ولذلك قال عمر رضي الله عنه:
(والله إني أعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع، ولولا أني رأيت رسول الله يُقَبِّلُكَ مَا
قَبَّلتكَ) ، ومع كل ذلك فليس التقبيل ركنًا من أركان الحج، ولم يقل أحد بوجوبه،
ولم يَرِدْ للحجر الأسود ذكر في القرآن الشريف مطلقًا ولا لبئر زمزم ولا للشرب منها
فلندع ما يهذي به الأغبياء الجاهلون من الطاعنين في الإسلام.
بقي عليَّ لإيفاء موضوعنا حقه أن أتكلم عن مسألتين أُخْرَيَيْنِ لوُرود شيء
كثير عنهما في السنة وعدم وُرود شيء في الكتاب.
(المسألة الأولى - قتل المرتد) إنه لم يرد أمر بذلك في القرآن فلا يجوز
لنا قتله لمجرد الارتداد، بل الإنسان حر في أن يعتقد ما شاء {فَمَن شَاءَ فَلْيُؤْمِن
وَمَن شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} (الكهف: ٢٩) وأما ما حصل من ذلك في صدر الإسلام فقد
كان لضعف المسلمين وقلة عددهم بالنسبة لأعدائهم والخوف من إفشاء أسرارهم
وإعانة العدو عليهم، وتمكينه منهم، وتشكيك ضعاف المسلمين في دينهم، أو لأن
المرتد كان ممن آذاهم وأبيح لهم دمه، فلمَّا تظاهر بالإسلام كفوا أيديهم عنه، ثم لما
عاد عادوا إليه فهذه أسباب قتل المرتد في العصر الأول، أما الآن فإن وُجدت
ظروف مثل تلك، وحصل مثل ما كان يحصل جاز لنا قتله؛ لأنه صار ممن
حارب الله ورسوله، وسعى في الأرض بالفساد، قال الله تعالى:
{إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَاداً أَن يُقَتَّلُوا أَوْ
يُصَلَّبُوا} (المائدة: ٣٣) الآية.
وأما قتل المرتد لمجرد ترك العقيدة فهذا مما يخالف القرآن الشريف {لاَ إِكْرَاهَ
فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الغَيِّ} (البقرة: ٢٥٦) ، وورد في الحديث ما معناه
(إذا روي لكم عني حديث فاعرضوه على كتاب الله فإن وافق فاقبلوه وإن خالف
فرُدُّوه) .
(المسألة الثانية - رجم الزاني المحصن) حد الزاني في القرآن الجلد، وقد
أنكر بعض المعتزلة الرجم وكذا جميع الخوارج، واستدلوا على ذلك بقوله تعالى:
{فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى المُحْصَنَاتِ مِنَ العَذَابِ} (النساء: ٢٥) :
أي أن الأَمَةَ إذا زنت بعد الإحصان تُعاقب بنصف عقاب المحصنة من الحرائر:
أي تجلد خمسين جلدة، فقالوا: لو كان عقاب المحصنات الرجم لكان حد الإماء
نصف الرجم، والرجم لا نصف له، ثم إن القرآن تكلم عن الزنا وحَدِّه وعن رمي
المحصنات به وعقوبته، وعن اللعان وكل ذلك بإيضاح تام، فلو كان الرجم واجبًا
لذكره الله تعالى في القرآن، فهذه حجة هؤلاء القوم، والذي نقوله نحن: إن الإمام
إذا وجد أن الأمة قاسية غليظة القلوب منتشر فيها الفسق والفجور ولا يردعهم الجلد
ولا يؤثر فيهم لخشونتهم وشدتهم، وخاف على الأُمة الضعف والانحلال والفساد جاز
له والحالة هذه أن يقرر الرجم عقوبة للزنا، وأن يَعتبر مَنْ أقدم عليه وهو محصن
مفسدًا في الأرض عاصيًا لله ومحاربًا له ولدينه عملاً بالآية السابقة.
وعَذَرَ مَنْ لم يكن محصنًا، أو إن تكرر منه الذنب ولم يردعه الجلد جاز
للإمام أن يقدر الرجم على غير المحصن أيضًا بعد عدد مخصوص من وقوعه في
الإثم، والخلاصة أن المسألة تركت ليتصرف فيها أولو الأمر وليتشاوروا فيها، فإن
كان الفساد في الأُمَّة قليلاً ويردعها الجلد فبه، وإن كان المفسدون كثيرين ولا يبالون
بالجلد ولا بالدين أوجبوا تقتيلهم.
وكذلك ترك القرآن كثيرًا من الحدود وأطلق الكلام في قطع يد السارق،
والظاهر منه أن القطع لا يجب لأول مرة بل يستتاب السارق فإن تاب وأصلح وإلا
قطعت يده.
فهذه أفكاري في هذه المواضيع أعرضها على عقلاء المسلمين وعلمائهم،
وأرجو ممن يعتقد أنني في ضلال أن يرشدني إلى الحق وإلا كان عند الله آثمًا.
***
الخاتمة
إذا تقرر ذلك المذهب فما على المسلم إلا أن يطالع كتاب الله تعالى مطالعة
إمعان وتدقيق وعمل فكر، وأن يستنتج جميع ما يجب عليه في دينه ودنياه من
اعتقادات وعبادات وأخلاق ومعاملات، فإن في هذا الكتاب الهداية والكفاية وسعادة
الدنيا والآخرة.
ومن اقتصر عليه عَلِمَ سخافة مَنْ عاب الإسلام بأشياء ألصقت به وليست منه،
فاللهم اهدنا بكتابك، وأفهمنا من أسرارك، وافتح أعيننا وأَنِرْ بصائرنا، إنك
هادي الضالين مرشد الحائرين آمين. اهـ
***
(المنار)
قد سبق الكاتب إلى هذا الموضوع غيرُ واحد من المسلمين الباحثين من
أشهرهم ميرزا باقر الشهير الذي كان تنصر وصار داعية لمذهب البروتستنت، ثم
عُني بدراسة سائر مذاهب النصرانية ومذهب اليهود، ثم عاد إلى الإسلام باجتهاد
جديد، ودعا إليه في إنكلترا بغيرة وعزم شديد، وقد ذاكرني الكاتب في هذا
الموضوع مرارًا، وكذلك رفيقه الدكتور عبده أفندي إبراهيم، فأشرت عليه بعد
البحث في كثير من جزئياته أن يكتب ما يراه لعرضه في المنار على العلماء
والباحثين، فننظر ماذا يقولون ثم نقفّي عليه بما نعتقده. فنحن ندعو علماء الأزهر
وغيرهم لبيان الحق في هذه المسألة بالدلائل ودَفْع ما عُرِضَ دونه من الشبهات،
فإن المحافظة على الدين في هذا العصر لا تكون بالنظر في شبهات الفلسفة اليونانية
أو شذوذ الفِرَق الإسلامية التي انقرضت مذاهبها، وإنما تكون بإقناع المتعلمين من
أهله بحقية الدين ودفع ما يعرض لهم من الشبهات على أصوله وفروعه الثابتة،
وأهونها ما يعرض للمعتقدين المستمسكين ككاتب هذه المقالة، فإنني أعرفه سليم
العقيدة مؤمنًا بالألوهية والرسالة على وفق ما عليه جماعة المسلمين مؤديًا للفريضة،
وإنما كان إقناع مثله أَهْوَن على علماء الدين؛ لأنه يعد النص الشرعي حُجة
فلا يحتاج مُناظره لإقناعه بالألوهية والرسالة ليحتج عليه بنصوص الوحي.
وإني أعجل بأن أقول: إن أظهر الشذوذ في كلامه ما قاله في مسألة الصلاة
فإن النبي صلى الله عليه وسلم مبين للتنزيل بقوله وفعله، كما ثبت بنص القرآن وقد
تواتر عنه ما يفيد القطعَ بأن الصلاة المفروضة هي ما يعده جميع المسلمين اليوم
فرضًا، والكاتب لم يستغنِ عن السنة في بيان دعواه أن الفريضة ركعتان وغير ذلك،
ولا أطيل في المسألة الآن، وإنما ذكرتها لئلا تعلق شبهتها بأذهان بعض القراء
فيطول عليهم العهد بالجواب عنها، وسنفصل القول في الموضوع بعد أن ننظر ما
يكتبه العلماء من بيان ما يجب عليهم أو السكوت عنه، ونحب أن يكون معظم ما
يكتب في أصل المسألة لا في الأمثلة التي أوردها والله الموفق.
((يتبع بمقال تالٍ))