الفصل الثاني والعشرون [*] (الإيمان والآيات وخوارق العادات) قال بعض الناس في تلك الأيام: لا عجب إذا آمنت خديجة ببعلها فإن رابطة الزوجية تستدعي مثل ذلك ولكن ذا القدرة العظيمة قد أتى هؤلاء القائلين بما يعارض مزاعمهم؛ إذ طفق بعض من سمع هذا النبأ يؤمن به، ولم يبق المصدق به خديجة وحدها فاضطروا أن يخترعوا أسبابًا أخرى للإيمان به. حرب فكرية قامت أمام هذا النبأ الجديد عند شيوعه، ارتجّت له مكة وما حولها، انقسمت الأفكار، تباينت الأنظار، وفي مثل هذه المواقف يعرف الراجحون بحسن الفطرة، وقوة الفطنة؛ إذ يكونون من السابقين في رؤية الدقائق، والوصول إلى الحقائق. قال نفر منهم: (لقد عرفنا محمد طول هذه السنين فما عرفنا الكذب صاحبًا له، ولا عرفناه صاحبا للخداع، وقد قام اليوم يخبرنا بأمر وقع له ليس هو بدعًا من الأمور، ولا هو بضارنا شيئًا، أتانا يخبرنا بأمر يشبه ما نسمعه عن أمر موسى نبي بني إسرائيل، ولم يكن أمر موسى إلا نافعًا لقومه فلعل الله سبحانه يريد أن يهدي إلينا نفعًا بواسطة هذا الرجل الصادق الأمين منا) . قالوا: (يقول صاحبنا: إن روحًا أتاه وأوحى إليها ما أوحى، ولا شيء من هذا ببعيد عن العقل إذا تأدب العقل ووقف أمام بحر القدرة الأزلية الأبدية وقفة العارف أن هذا بحر لا حد له، ويقول: إنه أمر بتبليغ الناس هذا الوحي وما سيتلوه) . قالوا: (إن هذه الدعوى عظيمة فإن كان ما ادعاه حقًّا كان من العار العظيم والضرر الكبير أن نرد هدية ربنا عز وجل الذي أهدى إلينا العقل من قبل، وهو يعزز اليوم تلك الهدية بهدية أخرى ربما كانت من نوعها وربما كانت من نوع أعلى. وهل يرد حامل العقل مثل هذه الهدية بعد أن يذيقه العقل طعم الرشد والمعرفة ويأتيه بروائح ما يهب الفاطر جل وعلا من صنوف المعارف؟! وإن كان ما ادعاه غير حق فإن حبله سيكون قصيرًا؛ لأن لدينا عقولاً ولا يضرنا حينئذ ظهور أمره) . وقال نفر: (لماذا يدعي الصادق الأمين هذه الدعوى إن لم تكن صحيحة، هل فقد عقله؟ كلا، فإنا لا نزال نرى صحته واعتداله على أتمها، هل تغيرت أخلاقه؟ كلا فإن من الأخلاق ما يرسخ مع كثرة الأعوام وقل أن يئيض الصادق مائنًا، كلا، بل الأمر جد، والدعوى صدق، وإن لهذا الأمر لناصرًا من قوة ساقته بعد أن عاش أربعين سنة إلى الإتيان بهذا الأمر الغريب الصعب عليه، وإن الإيمان بقدرة الله تعالى ليدعونا إلى إجابة هذه الداعي من لدنه، وإن الإخلاص ليدفعنا إلى إعلاء الكلمة التي تنزلت إلينا فضلاً من ربنا ورحمة، إنا به مؤمنون) . كان في مقدمة هذا النفر أبو بكر ذلك الرجل الذي لم يعرف إلى ذلك الوقت بعيب عند قومه، وليت شعري لماذا تجول الظنون وتحوم في تلمس الأسباب لإيمان أمثال هؤلاء الأفاضل مع اتفاق العقلاء على أن الذي رسمنا صورته من تفكراتهم هو المطابق لحكمة المعتدلين؟! القائل: إن خديجة إنما آمنت ببعلها؛ لأنه بعلها هو في سعة من ظنه هذا إذا شاء ولكن بما مهدنا له من المثل بإيمان أبي بكر نتمنى أن يكون انتفع بمعرفة أن طريقة إيمان خديجة كانت أعلى مما يظن. إن الذي آمن به أبو بكر ثم مئات ثم ألوف غيره لا يجوز للعاقل المنصف أن يحرم زوجته العاقلة من شرف الطريقة التي آمن بها هؤلاء الأفراد ثم الجماعات. إن ظنون الناس تكون على حسب أخلاقهم وطباعهم وتصوراتهم، فالذين يصرون على ادعاء أن السيدة خديجة لم تؤمن بهذا الروح الجديد إلا لأن صاحبه هو بعلها، هم إما جامدون في معرفة الأخلاق البشرية على شيء يستعيذ العاقل بالله من تفاهته وهو القسم الرديء منها، وإما هم مجبولون على العناد، وإما هم مستعظمون لتصديق الإنسان بالأمور العظيمة من غير أدلة وآيات. نحن لا نسوغ لأنفسنا أن نعيب أحدًا ممن كان حظهم قليلاً من علم أخلاق الناس، ولا ندعي أن نستطيع بالكلمات القليلة التي نقولها الآن بمساعدة وإذن من الصدد أن نودع في أفكارهم علمًا جديدًا واسعًا، ولكنا نستطيع أن نذكرهم بأن أخلاق الأفراد ليست على شاكلة واحدة بل منها ما هو في أسفل السفل ومنها ما هو في أعلى العلى، ومن الناس من يغلب عليه من الصدق والإخلاص ما يملك قلوبهم ويجعلها بعيدة عن التصنع والرياء، وعن الارتياب بالأمور التي ليست غريبة عن محيط القدرة والحكمة والعناية الأزليات إذا حدث بها المعروفون عندهم بالصدق والأمانة، ويجعلها قريبة من كل ما فيه تمجيد اسم الفاطر جل وعلا، وتعظيم مظاهر أمره وسره، وبعد هذه التذكرة نستطيع أن نقول لهم: إن سيدتنا هذه كانت من أهل هذا الخلق الجليل كما تشهد سيرتها، ومتى زحزح هؤلاء عن مركزهم في علم الأخلاق سهل عليهم أن يشتركوا معنا في معرفة أنه ليس محكومًا على خديجة بالحرمان من الإيمان الصحيح المبني على أسباب صحيحة، لا على كونه بعلها. وأما المجبولون على العناد، والغرور والإعجاب، فلا نتعبهم بسماع أقوالنا؛ إذ ربما أتت ثقيلة عليهم، ولا نتعب أنفسنا بمخاطبتهم إذ قد تأتي علينا ثقيلة، فلهم دينهم فيما توقفهم فيه جبلتهم، ولي ديني فيما يمشي معه قلبي. وبقيت لي كلمة مع الذي يستعظم تصديق الإنسان بالأمور العظيمة من غير أدلة وآيات كثيرة، إن هذا معذور في نظري والتفاهم بيني وبينه سهل؛ لأني لا أطلب أن يترك ما بيده من النظريات بل أمشي معه في الحديث - وهي في يده - فنبلغ معه غاية حسنة تصلح أن تكون ملتقى لنا، مهما تشعبت حولها آراء أخرى لكل واحد منا. أنا أقول معك يا صاحبي: إن الذي يطالبه غيره بالتصديق له أن يطالب هو بالأدلة والآيات، ولكن إذا سمعت بمصدق ولم تسمع قصة طلبه للدليل والآية؛ فلا تحكم بأنه آمن من غير دليل وآية إلا إذا كنت تعرفه من قريب وتعرف أن بضاعته كلها تقليد الآباء والمعلمين. أنت تعرف أن أبا بكر وأمثاله ممن صدقوا محمدًا صلى الله عليه وسلم لم يكن لهم آباء سبقوهم في تصديقه، ولا معلمون حملوهم على تأييده، وتعرف أنهم كان لهم حلوم راقية رائقة، وألباب زكية فائقة، فهل تظن أنهم صدقوه بغير آيات بينات وأدلة ساطعات. المشارب في الاستدلال مختلفة، وأخشى أن يكون مشربك فيه كمشرب الذين لا يعدون الآية إلا الأمر الخارق للعادة؛ ولذا رأيت أن لا أودع هذا المقام من غير أن أحادثك بالآيات والخوارق بعد أن أسلفت طريقة خديجة على النحوين لتعلم كيف يمكن أن يكون إيمان كل مؤمن بمحمد عليه الصلاة والسلام. إذا وقع شيء خارق للعادة لا يستطيع أحد حينئذ أن ينكر أنه آية عظمى، ولكن ما هي العادة؟ وهل يمكن أن تخرق؛ أي: تخالف؟ وهل وقع شيء من هذا؟ يعنون بالعادة عادة الأشياء وطبيعتها، ويعبر بعضهم عنها بسنة الله تعالى في الكوائن، والذين بحثوا في إمكان خرق العادة لم يفرقوا بين شيء وشيء بل جعلوا الكلام في هذه الموضوع على إطلاقه، ومن هنا اشتد خلافهم. والذاهبون إلى وقوع الخوارق لم يذكروا في الأمثلة التي أوردوها من صور هذه الخوارق إلا شيئًا يسيرًا جدًّا لا يصلح أن يلتفت إليه خصومهم فضلاً عن أن تكون به قناعتهم. إن لله عز وجل سننًا في كل موجود، أو نقول: إن لكل موجود عادة وطبيعة. والشمس مثلاً من جملة الموجودات، فهل يقول الذين يعتصمون بالخوارق: يمكن أن تصير هذه الشمس برغوثًا وتبقى هذه الأرض على حالها ويظل الناس يبصر بعضهم بعضًا بغير نور ويحيون هذه الحياة عينها متمتعين بحدائق وفواكه ولحوم وشحوم، ومياه جارية، وأزهار زاهية، وصيف وشتاء وربيع وخريف ... إلى آخره ... إلى آخره؟ أنا لا أعرف ماذا يقولون، ولكني مع إيماني كإيمانهم أو أكثر بعظيم قدرة الله تعالى يجدونني إذا قالوا في هذه المسألة: (نعم) مفارقًا لهم وقائلاً: إذا تغيرت سنة الله سبحانه في الشمس فصارت هي برغوثًا تتغير سنته في أيضًا فأصير أنا غير إنسان وغير باحث عن الخوارق. الذكي يفهم من هذا المثال: أن بحث الخوارق المدون في كتب جميع الملل لا يقف أمام نفخة من روح الله الحكيم إذا أراد عز وجل إعلان الغيرة على حكمته وسنته، ويفهم أيضًا أن الدين الذي هو من أكبر هدايا العناية الأزلية لا يتوقف عليها؛ إذ لو توقف عليه وكان لا بد في ظهور صدق المأمور بتبليغه من ظهور خارقة لما تيسر تصديق أحد؛ لأن كل واحد حينئذ يخترع فيقترح صورة من الخوارق لسنن الله، وناظم الكون سبحانه لم يشأ إلى الآن نثره على ما يهواه المقترحون. الاقتراحات لا حد لها ولا عد ولا نظام، هذا يقترح مثلاً أن تصير الشمس برغوثًا، وآخر يقترح أن يصير المشتري عصفورًا، وآخر يقترح أن يكون المريخ طرطورًا، وآخر يقترح أن يصير القمر قمريًّا، وآخر يقترح أن يكون عطارد عطارًا، وآخر يقترح أن تكون الزهرة زهرة لا تذبل أبدًا، وآخر يقترح أن ينضب البحر كله وتظل الأنهار جارية، وآخر يقترح أن يصير البحر كله برًّا أو البر بحرًا والناس كلهم سمكات مؤمنات مصليات صائمات، وآخر يقترح أن يكون التراب كله ذهبًا، وتنبت عليه أشجار التفاح والليمون والأعناب والزيتون، وآخر يقترح أن يصير الوقت كله ليلاً وتحبس الشمس في حجرة من حجرات الملوك، وآخر يقترح أن يصير الوقت كله نهارًا ويذهب النوم إلى الشجرات الدائمة اليقظة.. إلى آخره.. إلى آخره. نعم إن مبدع منظومات الكون لم يشأ إلى الآن نثرها، ونستطيع أن نقول: إنه ينثرها على حسب الاقتراحات لتأييد الرسل. فما معنى مباحثاتنا معشر البشر بأنه هل يستطيع ذلك أم لا يستطيع بعد إيماننا بعدم تحدد قدرته، وبعد سماعنا وحيه يرشدنا بهذا الكلام العالي {فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلاً} (فاطر: ٤٣) . بعد تقرير هذا أقول: إن البشر لا يستطيعون أن يعرفوا كل سنن الله تعالى أو عادات الأشياء وطبائعها. بل لا يستطيعون أن يعرفوا جميع أسرار كائن من الكائنات وجميع طبائعه بالتمام، ثم هم لا يعرفون أيضًا مقدار عنايته عز وجل بالإنسان، وأنه مازال يمده بصنوف الهدايات، وأنه قد يشاء إعلان آية له لإظهار عنايته به فيريه شيئًا مثلاً على خلاف ما تعلمه من عادات بعض الأشياء التي لا يترتب على تخلف المعروف من عادتها نثر المنظومات. ومن أمثلة ذلك أن النار شأنها الإحراق وقد تقتضي سنته تعالى لإعلاء معارف الإنسان وهدايته أن يريه النار غير محرقة لسبب تتعلق القدرة بإخفائه. إن مثل هذا يقع ونعده من جملة سنن الله تعالى؛ لأن من جملة سننه إبداع هذا الإنسان وإطلاعه على واسع القدرة، وبديع الصنعة، واحتجاب الحكمة واختصاص العناية. ومن هذا التفصيل يتبين للقارئ أنا مؤيدون للآيات لا منكرون لها، وقصارى ما نقول: إن الدين لا يتوقف على الخوارق بقدر ما يقترح المقترحون ويظن الظانون، ويخترع المخترعون. وإنما يؤيده الله تعالى بآيات تنشرح لها البصائر المستعدة، ولا نقول: إن هذه الآيات فيها تحويل لسنة الله تعالى أو عادة الأشياء وطبائعها؛ إذ لا تبديل لسنته سبحانه، وإنما فيها معونة ربانية نعرفها بآثارها. وربما كرهنا التعبير بالخوارق الذي اصطلح عليه المدونون، وإن كانت المناقشة على الألفاظ بغيضة إلينا وبعيدة عن رأينا، ونحب التعبير بالآيات كما عبر القرآن الحكيم. ويالله ما أكثر الآيات على أن ما أتى به هذا المختار هو فضل رباني وأمر روحاني!! لقد أنبته الله نباتًا حسنًا، وشمله بالعناية منذ كان في الصبا ثم الشباب وهو غير شائن ذلك الإهاب حتى دخل الكهولة وتاق إلى التكمل، وفي هذه السن بدأه بتحبيب العزلة وتفريغ الفكر من الصور الفواني؛ ليشرق فيه الجلال الذي لا يفنى ثم أعلن لروحه روحًا من لدنه كما منح هذا من قبله رجالاً كثيرين من المصطفين كإبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب ويوسف وموسى وعيسى. ومن الآيات أن هذا الوحي صالح مصلح لنا، ولم نجده طلب منا أن نعبده من دون الله، وإنما قال لنا: أنا عبد الله جئتكم ببلاغ من عنده أنه وحده له الحكم، وأنه وحده إليه المرجع والمآب. ولو قال لنا: أنا إلهكم. لوجدنا مقترحين عليه أن يجعلنا خالدين، إذًا لوجدناه عاجزًا. الحمد لله لقد جاءنا هذا الرسول بآيات كثيرة لا نستطيع عدها: جاءنا بالعلوم وهو أميّ، وجمع كلمة الشعوب وهو وحيد، ورفع الله له من الذكر ما لم يرفع لمثله وجعل هديه باقيًا، وصوته عاليًا، وروح تأييده ساريًا؛ ولذا ليس اليوم بنا من تعجب حين نسمع إيمان أقرب الناس منه وأعرفهم به، بل نحن بخديجة وأبي بكر مقتدون، ولربنا على هذه العنايات والآيات شاكرون، وبوحي الله لهذا المصطفى مؤمنون. ((يتبع بمقال تالٍ))