للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


تتمة ترجمة السيد محمد بن عقيل
(٢)

كنت أود لو أتيح لي كتابة ترجمة لصديقي السيد محمد بن عقيل رحمه الله في
وقت فراغ يسهل علي أن أراجع مكتوباته الكثيرة المحفوظة عندي وما نشرته في
المنار من المسائل الإصلاحية التي اختلف فيها رأينا واعتقادنا؛ ولكنني لا أملك من
هذا الفراغ كثيرًا ولا قليلاً، لهذا أقتصر على مسألة واحدة هي أمها وأهمها.

اقتراحي على العلويين وشيعتهم:
أنا أعتقد أن شر ما مُني به الإسلام هو الخلاف والشقاق، وأن أضر أنواعه ما
كان بين أهل السنة والشيعة، فلقد كان كل ضر دون ضره، وكل شر أهون من
شره، ولا أستثني ردة المرتدين ولا قتال الكافرين، ولا ظلم المستبدين، وأعتقد
أيضًا أن الغلو في أئمتنا آل البيت العلوي النبوي عليهم السلام كان أضر عليهم من
كل ما أصيبوا به من البلاء والمحن، بل كان هو سبب أكثرها. إنما أستثني عداء
بني أمية لهم فهو عداء موروث من عهد الجاهلية أذكى ناره في قلوبهم بعد الإسلام
حب الرياسة وعظمة الملك، ولَذَّات الدنيا، واعتقادهم أن أولئك الأئمة أولى وأحق
بالإمامة منهم، وأن الأمة لو تُركت وشأنها فإنها تفضلهم عليهم.
وأعتقد أن شر ذلك الضرر على أكثر سلائل أولئك الأئمة الهادين المهديين هو
ما حدث في أنفسهم من اعتقاد أن شرف النسب أعلى من شرف العلم والعمل
لإعزاز الملة، ومصالح الأمة، وأنه يغني عنه فيما تحبه الطباع من كراهة الجاه
ونعمة المال، فأعرض الأكثرون منهم عن الجد والاجتهاد في تحصيل العلوم
والفنون، والجهاد في سبيل مصالح الأمة العامة، اكتفاء بشرف النسب الذي يجذب
الرؤساء والحكام إلى تقبيل أيديهم والأغنياء إلى بذل كثير من المال لهم، فصار
جميع الذين فتنوا بهذا المظهر منهم عالة على الناس، ولقد حرَّم الشرع عليهم
الصدقات تكريمًا لهم فأحلوها لأنفسهم بهذه الفتنة، وتوهمهم أن تقبيل المتصدقين
عليهم لأيديهم ينافي كون تلك الصدقة من أوساخهم التي كرمهم الشرع بمنعهم منها.
حدثني صادق باشا أحد شرفاء مكة المشهورين، قال: إنني أردت أن أُعلِّم
أولادي في مدارس الدولة في الآستانة فبلغني رئيس كتاب السلطان عبد الحميد أن
جلالة السلطان لا يرضيه ذلك لأنه لا يليق بأبناء الرسول صلى الله عليه وسلم أن
يزاحموا سائر طبقات الناس في المدارس توسلاً بها إلى الدنيا، وأن أكبر رجال الدنيا
ليقبلون أناملهم تبركًا بهم وتقربًا إليهم، فأحضرت لهم معلمًا يلقنهم الدروس في داري
فبلغني (الباشكاتب) كراهة السلطان لذلك ومنعني منه، والسبب الباطن لهذا المنع أن
السلطان كان يكره أن يوجد في أبناء هذه الأسرة المشهورة في الأشراف علماء يعرفون
أصول الشرع وطبائع الأمم وسنن الاجتماع لئلا تسمو هممهم بالعلم إلى قيادة الأمة
التي تمكِّنهم من ناصية الملك.
فلما رأيت ما يبثه السيد محمد بن عقيل وشيخه السيد أبو بكر بن شهاب - عفا
الله عنهما - من تجديد الغلو في إطراء العلويين والاحتجاج لهم في استعلائهم على
الناس بأنسابهم، حتى بما يجدد التفريق بين المسلمين وإلقاء العداوة والبغضاء بينهم
من الطعن في بعض الصحابة وأئمة السنة - اعتقدت أن هذه الدعاية ستأتي بضد ما
يرومه دعاتها منها في هذا العصر الذي تغلغلت في شعوبه وأقوامه كلها نزعة
المساواة التي يعبرون عنها في عرف هذا العصر بكلمة (الديمقراطية) وأنه ستهيج
عليهم الناس وتحملهم على بغضهم والطعن فيهم وفي أنسابهم - وكان الأمر كذلك
كما تقدم - ففكرت في تلافي هذا الشر قبل تفاقمه، وتوجيه عصبية النسب إلى
عمل لا يمكن إعلاء شأن أهل البيت النبوي، وحمل المسلمين كافة على الاعتراف
بفضلهم وشرفهم في هذا العصر بغيره، فاهتديت لما أذكره هنا بمعنى ما كتبته
يومئذ لعدم تمكني من مراجعته، وربما كان هنا أوضح من ذاك:
اقترحت عليه السعي لإنشاء مدرسة جامعة خاصة بآل البيت يتخرج فيها
الإخصائيون النابغون في جميع العلوم الدينية والدنيوية والفنون التي عليها مدار
العمران في هذا العصر، فيكون منهم الذين ينفردون بعلوم القرآن، ويكونون
المرجع للأمة في تفسيره وبيان إعجازه وصراط هدايته المستقيم، وما أودع فيه من
الحكمة وإصلاح البشر، ودفع الشبهات التي تحوم حوله، وسائر ما يعرض للناس
في هذا العصر من ذلك.
ويكون منهم حفاظ الحديث وعلماء روايته ودرايته وتحرير كل ما يحتاج
الباحثون إلى تحقيقه فيه من جرح وتعديل واستنباط لما قصر فيه المتقدمون من
حكمه وأحكامه وسياسته وسائر ما يحتاج إليه أهل هذا العصر من هدايته.
ويكون منهم أئمة الفقه وأصول التشريع القادرون على بيان ما في الشريعة
السمحة من أصول الإصلاح للبشر الذي تفضل به جميع القوانين الوضعية،
وأساتذة علوم اللغة العربية وآدابها الناهضون بترقية التعليم والتصنيف فيها على
المناهج التي ارتقت بها لغات الأمم الحية والمتقنون لجميع اللغات الراقية.
ويكون منهم الأطباء في كل فرع من فروع الطب والمهندسون البارعون في
كل نوع من أنواع الهندسة والفلكيون وعلماء الاقتصاد السياسي والماليون.
ونقول باختصار: يجب أن يتخرج منهم في هذه الجامعة كل صنف من العلماء
والعاملين الذين تحتاج إليهم الأمة الإسلامية فيما يجب أن تتوجه إليه في نهضتها
التي تحيي بها مجد الإسلام وسيادته وإصلاحه للبشر ليتولوا ترقية التربية والتعليم
والإرشاد والتهذيب في المدارس وتأليف الجمعيات الدينية، والعلمية والخيرية،
والأحزاب الاجتماعية والسياسية والشركات المالية وغير ذلك، وحينئذ تعلم الأمة
أن سلائل آل بيت نبيها هم سادتها وأئمتها وسفينة نجاتها مما سقطت فيه من الذل
والجهل والتفرق والتمزق.
ويتوقف هذا المشروع على وضع نظام لجمع المال الكثير له من جميع أقطار
الأرض بطريقة مأمونة موثوق بها، يقتنع كل من وقف عليها بأن ما يدفعه
سيصرف في الغرض الذي جبي لأجله، وعند الشروع في جباية المال يعلم
المحبون الصادقون لآل البيت، ويعلم المنافقون والمقلدون الذين ينحصر حبهم لهم
في مآتم عاشوراء، ونقل رمم الموتى إلى النجف والكاظمية وكربلاء، وما إلى
ذلك من البدع التي سيقضي عليها روح هذا الزمان بسرعة عجيبة.
قد انتشر اقتراحي هذا واشتهر حتى إن بعض المخلصين من شيعة العراق
طبعوه في رسالة صغيرة نشروها في الناس؛ ولكن السيد محمد بن عقيل الذي كان
أول من خوطب به وعرف قيمته لم تسم به همته إلى السعي لتنفيذه ولا سعى غيره
من العلويين ولا من الشيعة لذلك.
بيد أن الملك فيصلاً أنشأ في بغداد مدرسة باسم (جامعة آل البيت) لم يتح لها
من رجال العلم وأئمة الإصلاح من يعطيها حقها، فقضي عليها في مهدها.
وأختم هذا البحث هنا بكلمة نصح أخص بها إخواني مؤسسي جمعية الرابطة
العلوية في جزائر الهند الشرقية وغيرها (والرائد لا يكذب أهله) وإن اتخذني
الجاهلون منهم خصمًا لهم، وهي: تساهلوا ما استطعتم في الصلح بينكم وبين
الإرشاديين، واعلموا أن التواضع خير لكم من التكبر، وأن تفضيل الناس لكم
بشرف النسب لن يكون في هذا الزمان إلا بوسيلتين أقربهما وأسهلهما مكارم
الأخلاق وعمل البر، وأبعدهما النبوغ في العلوم والأعمال الإصلاحية العامة التي
اقترحتها عليكم من قبل، واعتبروا بالدولة البريطانية (الأرستقراطية) التي صار
رئيس وزارتها من حزب العمال، واعلموا أن تكريمكم لنسبكم رهين بحفظكم
لحرمته بأدبكم، ولا تنسوا قاعدة الشرع في الغنم والغرم، فمن يؤتى أجره مرتين،
يضاعف له العذاب ضعفين، وسأفصِّل هذا في مقال مستقل إن شاء الله.
(للترجمة بقية)