للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


شروط الواقفين
وعدم التعبد بكلام غير المعصومين

جرى على الألسنة واشتهر بين الناس قول بعض الفقهاء: (إن شرط الواقف
كنص الشارع) وهو ما عليه عمل المحاكم من عهد بعيد إلى اليوم فيتمسكون
بكلمات كُتِبَتْ في (الوقفيات) وربما لم يكن يفهمها الواقف، وإنما كتبها
الكاتب فيما يكتب من عباراته التقليدية ويتركون أحيانًا المقصود من الوقف للشارع
وللواقف؛ وقوفًا عند الألفاظ. وقد رأيت بحثًا نفيسًا في هذا الموضوع للإمام الحافظ
الفقيه ابن القيم في كتابه (إعلام الموقعين) أحببت أن أنشره في المنار ليعلم الناس
أن ديننا دين مقاصد عالية ومصالح تقوم بها المنفعة لا دين ألفاظ تبتدع ثم تتبع قال
رحمه الله تعالى - مناقشًا فقهاء الحنفية والمالكية والشافعية في مسائل خالفوا فيها
النص أو خرجوا عن القياس الصحيح - ما نصه بمقدمته:
(فصل) وقالت الحنفية والمالكية والشافعية: إذا شرطت الزوجة أن لا
يخرج الزوج من بلدها أو دارها وأن لا يتزوج عليها ولا يتسرى فهو شرط باطل
فتركوا محض القياس بل قياس الأولى فإنهم قالوا: لو شرطت في المهر تأجيلاً أو
غير نقد البلد أو زيادة على مهر المثل لزم الوفاء بالشرط. فأين المقصود الذي
لها في الشرط الأولى إلى المقصود الذي لها في هذا الشرط؟ وأين فواته إلى فواته؟
وكذلك من قال منهم: لو شرط أن تكون جميلة شابة سوية فبانت عجوزًا شمطاء قبيحة
المنظر أنه لا فسخ لأحدهما بفوات شرطه حتى إذا فات درهم واحد من الصداق فلها الفسخ بفواته قبل الدخول فإن استوفى المعقود عليه ودخل بها وقضى وطره منها ثم فات الصداق جميعه ولم تظفر منه بحبة واحدة فلا فسخ لها.
وقِسْتُم الشرط الذي دخلت عليه على شرط أن لا يودها ولا ينفق عليها ولا يطأها
ولا ينفق على أولاده منها ونحو ذلك مما هو من أفسد القياس الذي فرقت الشرعية بين
ما هو أحق بالوفاء منه وبين ما لا يجوز الوفاء به وجمعتم بين ما فَرَّقَ القياس والشرع
بينهما وألحقتم أحدهما بالآخر، وقد جعل النبي صلى الله عليه وسلم الوفاء بشروط
النكاح التي يستحل بها الزوج امرأته أولى من الوفاء بسائر الشروط على الإطلاق
فجعلتموها أنتم دون سائر الشروط وأحقها بعدم الوفاء.
وجعلتم الوفاء بشرط الواقف المخالف لمقصود الشارع كترك النكاح (أي
بأن وقف على أهل هذه التكية ما لم يتزوجوا) وكشرط الصلاة في المكان الذي
شرط الصلاة فيه وإن كان (المصلي) وحده وإلى جانبه المسجد الأعظم وجماعة
المسلمين. وقد ألغى الشارع هذا الشرط في النذر الذي هو قربة محضة وطاعة فلا
تتعين عنده بقعة عيَّنها الناذر للصلاة إلا بالمساجد الثلاثة (المسجد الحرام ومسجد
المدينة ومسجد بيت المقدس) وقد شرط الناذر في نذره تعيينه فألغاه الشارع
بفضيلة غيره عليه أو مساواته له فكيف يكون شرط الواقف الذي غيره أفضل
منه وأحب إلى الله ورسوله لازمًا يجب الوفاء به؟ وتعيين الصلاة في مكان معين لم
يرغب الشارع فيه ليس بقُربة لا يجب الوفاء به في النذر ولا يصح اشتراطه في
الوقف.
(فإن قلتم: الواقف لم يخرج ماله إلا على وجه معين فلزم اتباع ما عينه في
الوقف من ذلك الوجه، والناذر قصد القربة، والقُرَب متساوية في المساجد غير
الثلاثة فتعيين بعضها لغو. قيل: فهذا الفرق بعينه يوجب عليكم إلغاء ما لا قربة
فيه من شروط الواقفين واعتبار ما فيه قربة فإن الواقف إنما مقصوده بالوقف
التقرب من الله فتقربه بوقفه كتقربه بنذره، فإن العاقل لا يبذل ماله إلا لما فيه
مصلحة عاجلة أو آجلة، والمرء في حياته قد يبذل ماله في أغراضه مباحة كانت أو
غيرها وقد يبذله فيما يقربه إلى الله.
وأما بعد مماته فإنما يبذله فيما يظن أنه تَقَرُّبٌ إلى الله. ولو قيل له: إن هذا
المصرف لا يقرب إلى الله عز وجل أو إن غيره أفضل منه وأحب إلى الله منه وأعظم
أجرًا لبادر إليه.
ولا ريب أن العاقل إذا قيل له: إذا بذلت مالك في مقابلة هذا الشرط حصل لك
أجر واحد، وإن تركته حصل لك أجران فإنه يختار ما فيه الأجر الزائد فكيف إذا
قيل له إن هذا لا أجر فيه ألبتة؟ فكيف إذا قيل له: إنه مخالف لمقصود الشارع
مضاد له يكرهه الله ورسوله. وهذا كشرط العزوبية وترك النكاح فإنه شرط لترك
واجب أو سنة أفضل من صلاة النافلة وصومها أو سنة دون الصلاة والصوم.
فكيف يلزم الوفاء بشرط ترك الواجب والسنن اتباعًا لشرط الواقف وترك شرط
الله ورسوله الذي قضاؤه أحق وشرطه أوثق.
(يوضحه أنه لو شرط في وقفه أن يكون على الأغنياء دون الفقراء وكان
شرطًا باطلاً عند جمهور الفقهاء، قال أبو المعالي الجويني - هو إمام الحرمين
رضي الله عنه -: ومعظم أصحابنا قطعوا بالبطلان. هذا مع أن وصف الغنى
وصف مباح ونعمة من الله، وصاحبه إذا كان شاكرًا فهو أفضل من الفقير مع صبره
عند طائفة كثيرة من الفقهاء والصوفية فكيف يلغى هذا الشرط ويصح الترهب في
الإسلام الذي أبطله النبي صلى الله عليه وآله وسلم بقوله: (لا رهبانية في الإسلام)
يوضحه أنَّ مَنْ شَرَطَ التعزبَ فإنما قصد أنّ تركه [١] أفضل واجب إلى الله فقصد أن
يتعبد الموقوف عليه بتركه، وهذا هو الذي تبرأ النبي صلى الله عليه وآله وسلم منه
بعينه (فقال: من رغب عن سنتي فليس مني) وكان قصد أولئك الصحابة [٢] هو
قصد هؤلاء الواقفين بعينه سواء فإنهم قصدوا ترفية [٣] أنفسهم على العبادة وترك
النكاح الذي يشغلهم تقربًا إلى الله بتركه فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم فيهم ما
قال وأخبر أن من رغب عن سنته فليس منه. وهذا في غاية الظهور فكيف يحل
الإلزام بترك شيء قد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن من رغب عنه فليس
منه؟ هذا مما لا تحتمله الشريعة بوجه [٤] .
فالصواب الذي لا تُسَوِّغُ الشريعةُ غيرَه عرضُ شروط الواقفين على كتاب
الله سبحانه وعلى شرطه فما وافق كتابه وشرطه فهو صحيح وما خالفه كان شرطًا
باطلاً مردودًا ولو كان مئة شرط وليس ذلك بأعظم من رد حكم الحاكم إذا خالف حكم
الله ورسوله ومن رد فتوى المفتي. وقد نص الله سبحانه على رد وصية الجنف (وفي
نسخة الحائف وكلاهما بمعني الجائر في وصيته والآثم فيها) مع أن الوصية تصح في
غير قربة وهي أوسع من الوقف وقد صرح صاحب الشرع برد كل عمل ليس عليه
أمره فهذا الشرط مردود بنص رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا يحل لأحد أن يقبله
ويعتبره ويصححه.
ثم كيف يوجبون الوفاء بالشروط التي إنما أخرج الواقف ماله لمن قام بها
وإن لم تكن قربة ولا للواقفين فيها غرض صحيح مما يقربهم إلى الله ولا يوجبون
الوفاء بالشروط التي إنما بذلت المرأة بضعها للزوج بشرط وفائه لها بها ولها فيها أصح غرض ومقصود وهي أحق من كل شرط يجب الوفاء بنص رسوله الله صلى
الله عليه وآله وسلم، وهل هذا إلا خروج عن محض القياس والسنة.
ثم من العجب العجاب قول من يقول: إن شروط الواقف كنصوص الشارع.
ونحن نبرأ إلى الله من هذا القول ونعتذر إليه سبحانه مما جاء به قائله ولا نعدل
بنصوص الشارع غيرها أبدًا. وإن أُحْسِن الظن بقائل هذا القول حُمل كلامه على
أنها كنصوص الشارع في الدلالة وتخصيص عامّها بخاصّها وحمل مًطلقها على
مقيدها واعتبار مفهومها كما يعتبر منطوقها، وأما أن تكون كنصوصه في وجوب
الاتباع وتأثيم من أخل بشيء منها فلا يُظن ذلك بمن له نسبة ما إلى العلم. فإذا كان
حكم الحاكم ليس كنص الشارع بل يرد ما خالف حكم الله ورسوله صلى الله عليه
وآله وسلم من ذلك. فشرط الواقف إذا كان كذلك كان أولى بالرد والإبطال. فقد
ظهر تناقضهم في شروط الواقفين وشروط الزوجات وخروجهم عن موجب القياس
الصحيح والسنة وبالله التوفيق.
يوضح ذلك أن النبي صلي الله عليه وآله وسلم كان إذا قسم يعطي الآهل
حظين، والعزب حظًّا، وقال: (ثلاثة حق على الله عونهم) وذكر منهم الناكح يريد
العفاف. ومصححو هذا الشرط عكسوا مقصوده فقالوا نعطيه ما دام عزبًا، فإذا
تزوج لم يستحق شيئًا ولا يحل لنا أن نعينه؛ لأنه ترك القيام بشرط الواقف وإن
كان قد فعل ما هو أحب إلى الله ورسوله فالوفاء بشرط الواقف المتضمن لترك
الواجب أو السنة المقدمة على فضل الصوم والصلاة لا تحل مخالفته، ومن خالفه كان
عاصيًا آثمًا حتى إذا خالف الأحب إلى الله ورسوله والأرضى له كان بارًّا مثابًا قائمًا
بالواجب عليه؟
يوضح بطلان هذا الشرط وأمثاله من الشروط المخالفة لشرع الله ورسوله
أنكم قلتم: كل شرط يخالف مقصود العقد فهو باطل حتى أبطلتم بذلك شرط دار
الزوجة أو بلدها وأبطلتم اشتراط البائع الانتفاع بالمبيع مدة معلومة وأبطلتم اشتراط
الخيار فوق ثلاثة وأبطلتم اشتراط نفع البائع في المبيع ونحو ذلك من الشروط التي
صححها النص والآثار من الصحابة والقياس كما صحح عمر بن الخطاب وسعد بن
أبي وقاص وعمرو بن العاص ومعاوية بن أبي سفيان اشتراط المرأة دارها أو بلدها
وأن لا يتزوج عليها ودلت السنة على أن الوفاء به أحق من الوفاء بكل شرط وكما
صححت السنة اشترط انتفاع البائع بالمبيع مدة معلومة فأبطلتم ذلك، وقلتم: يخالف
مقتضى العقد وصححتم الشروط المخالفة بمقتضى عقد الواقف لعقد الوقف؛ إذ هو
عقد قربة مقتضاه التقرب إلى الله تعالى، ولا ريب أن شرط ما يخالف القربة
يناقضه مناقضة صريحة، فإذا شرط عليه الصلاة في مكان لا يصلي فيه إلا هو
وحده أو واحد بعد واحد أو اثنان فَعُدُولُه عن الصلاة في المسجد الأعظم الذي يجتمع
فيه جماعة المسلمين مع قِدَمِهِ وكثرة جماعته فيتعداه إلى مكان أقل جماعة وأنقص فضيلة وأقل أجرًا اتباعًا لشرط الواقف المخالف لمقتضى عقد الوقف خروج من محض القياس وبالله التوفيق.
يوضحه أن المسلمين مجمعون على أن عبادة الله في المسجد من الذِّكر
والصلاة وقراءة القرآن أفضل منها عند المقابر فإذا منعتم فعلها في بيوت الله
سبحانه وأوجبتم على الموقوف عليه فعلها بين المقابر إن أراد أن يتناول الوقف
وإلا كان تناوله حرامًا كنتم قد ألزمتوه بترك الأحب إلى الله الأنفع للعبد والعدول
إلى بعض المفضول والمنهي عنه (أي كالصلاة إلى القبور أو بقربها) مع مخالفته
لقصد الشارع تفصيلاً وقصد الواقف إجمالاً فإنه إنما يقصد الأَرْضَى لله والأحب إليه
ولما كان في ظنه أن هذا إرضاء لله اشترطه فنحن نظرنا إلى مقصوده ومقصود
الشارع وأنتم نظرتم إلى مجرد لفظه سواء وافق رضا الله ورسوله مقصوده في
نفسه أو لا.
ثم لا يمكنكم طرد ذلك أبدًا فإنه لو شرط أن يصلي وحده حتى لا يخالط
الناس بل يتوفر على الخلوة والذكر أو شرَط ألا يشتغل بالعلم والفقه ليتوفر على
قراءة القرآن وصلاة الليل وصيام النهار أو شرط على الفقهاء أن لا يجاهدوا في
سبيل الله ولا يصوموا تطوعًا ولا يصلوا النوافل وأمثال ذلك، فهل يمكنكم تصحيح
هذه الشروط. فإن أبطلتموها ففعل النكاح أفضل من بعضها أو مساوٍ له في أصل
القربة وفعل الصلاة في المسجد الأعظم العتيق الأكثر جماعة أفضل، وذكر الله
وقراءة القرآن في المسجد أفضل منها بين القبور.
فكيف تلزمون بهذه الشروط المفضولة وتبطلون ذلك؟ فما هو الفارق
بين ما يصح من الشروط وما لا يصح ثم لو شرط المبيت في المكان الموقوف ولم
يشترط التعزب فأبحتهم له التزوج فطالبته الزوجة بحقها من المبيت وطالبتموه بشرط
الواقف منه فكيف تقسموها بينهما أم ماذا تقدمون، أمَا أوجبه الله ورسوله من المبيت
والقسم للزوجة مع ما فيه من مصلحة الزوجين وصيانة المرأة وحفظها وحصول
الإيواء المطلوب من النكاح؟ أم ما شرطه الواقف وتجعلون شرطه أحق والوفاء
به ألزم؟ أم تمنعونه من النكاح والشارع والواقف لم يمعناه منه؟ فالحق أن مبيته
عند أهله إن كان أحب إلى الله ورسوله جاز له بل استحب فلا نص ولا قياس ولا
مصلحة للواقف ولا للموقوف عليه ولا مرضاة لله ورسوله، والمقصود بيان ما في
الرأي والقياس من التناقض والاختلاف الذي يبين أنه من عند غير الله؛ لأن ما كان
من عنده فإنه يصدق بعضه بعضًا ولا يخالف بعضه بعضًا وبالله التوفيق) .
***
(المنار)
إن مسألة الأوقاف هي من المسائل الحيوية في شئون المسلمين فلو أحسن
المسلمون إدارة الأوقاف الخيرية وصرفوها في الوجوه الفضلى فإنها تكون
أكبر الوسائل لتقدمهم وارتقائهم ولكنهم يعتذرون بشروط الواقفين التي تعبدنا بها
بعض الفقهاء وإنما يعتذرون عن صرف الأوقاف في الوجوه الفضلى والمنافع العامة
ولكنهم إذا لاح لهم شيء منها وثبوا عليه والتهموه التهامًا من غير نظر إلى شرط
الواقف ولا إلى نص الشارع، وكذلك شأن أهل الطبقة العليا في علوم المسلمين في
أعظم معهد للعلم الإسلامي، يأكل الأغنياء حقوق الفقراء ويهضم الكبار ما وقف
على الصغار، فهم حجة على أنفسهم وكلام هذا الإمام المجتهد وبراهينه حجة على
كتبهم ولا بد أن يجيء يومٌ تزول فيه سلطة الطامعين، فتصرف أموال الأوقاف في
مصلحة المسلمين أو تقع في سلطة المتغلبين، إذا دمنا على هذا الجمود المبين،
والعاقبة للمتقين.