للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


كتاب الوحي المحمدي
دعوتي إلى انتقاده، وذات بيني وبين صديقي الأستاذ الشيخ عبد الله اليابس

تعودت من سن الشباب وعهد طلب العلم أن أسأل خاصة أصدقائي عما
ينتقدون مني؛ لأستعين به على تربية نفسي وأن أنتقدهم كذلك بحرية وإخلاص، ثم
جريت على هذه العادة في مجلة المنار، فأنا أقترح على قرائها في كل عام أن يكتبوا
إليّ ما ينتقدون فيها، وأذكر في أثناء العام، أو في آخره ما يرد إليّ من ذلك وأبين
رأيي فيه.
ولما جمعت بحثي المطول في (الوحي المحمدي) في كتاب مستقل، وختمته
بدعوة شعوب الحضارة العصرية إلى الإسلام، سألت خواص العلماء من أصدقائي
وأذكياء تلاميذي عن رأيهم فيه، وما ينتقدونه منه؛ لاعتقادي أنه لا بد أن يعاد
طبعه فأكون على بصيرة فيما ينبغي له من تنقيح أو إيضاح أو زيادة أو نقصان،
وأول من سألتهم ذلك بالمكاتبة جلالة أمير المؤمنين الإمام يحيى حميد الدين صاحب
اليمن فقرَّظه بما نشرته في أول التقاريظ ولم ينتقد شيئًا منه، وأول من سألتهم ذلك
بالمشافهة أكبر علماء مصر العلامة الأستاذ الأكبر الشيخ محمد مصطفى المراغي
شيخ الأزهر والمعاهد الدينية بالأمس، ثم العلامة الأستاذ الفاضل الشيخ عبد المجيد
سليم مفتي الديار المصرية، فأما الأول فلم ينتقد شيئًا من مسائله، بل سألته: أترى
بحث الآيات وخوارق العادات طويلاً يحسن اختصاره؟ قال: كله ضروري لا
يُحْذَف منه شيء. وبيَّن رأيه في جملته بكتابه الوجيز البليغ الذي كتبه إليّ عقب
مطالعة الكتاب، ونشرته فيما اخترته من التقاريظ للطبعة الثانية، وأما الثاني فكان
بيني وبينه محاورة طويلة في مسألة وجوب تعلم اللغة العربية على جميع المسلمين
ووجوب تدبر القرآن؛ فإنه أنكر إطلاقي الكلام في هذا الموضوع بما يُفْهَم منه جعله
ذلك واجبًا عينيًّا، ووافقه فيه صديقنا العلامة الأستاذ الشيخ علي سرور الزنكلوني،
وقد اقتنعا بعد طول البحث بأن أقل الواجب وجوبًا عينيًّا على أفراد الأعاجم هو ما
يتلى في الصلاة، وأن ما فوق ذلك من العلم بالقرآن ولغته، فهو من فروض الكفاية
التي يجب على أولي الأمر نشرها والسعي لتعميمها، وكذا من قدر عليه من الأفراد
والجمعيات.
وكان صديقي العلامة الأستاذ الشيخ عبد الله بن علي بن اليابس ممن أهديتهم
الكتاب وسألتهم إبداء رأيهم لي فيه بعد مطالعته، وكنت أحرص على الوقوف على
رأيه؛ لأنه تلقى العلم أولاً في نجد وحذق طريقتهم السلفية المأثورة عن مشايخهم في
اتباع الآثار، ثم عرف طريقة علماء مصر في التدريس والبحث والاستدلال،
وألف أسلوب المنار ونهجه في تأييد السلف تجاه الماديين، ودعاة النصرانية
والمتكلمين والمبتدعين، فصار أعرف بالحاجة إلى هذا من علماء بلاده المقيمين
فيها، وأرى من المفيد له أن يتمرن على الانتقاد، ويتعود سماع الرد الحر عليه مع
حسن النية من الجانبين، وقد قصدت هذا، فقرأ الكتاب بقصد البحث فيه عما يسهل
انتقاده، ثم جاءني وذكر لي ما أحصاه منه، فأجبته عنه أجوبة مختصرة لم يقتنع
بها، قلت له مرغبًا في الكتابة: لعلك لو كتبت هذه المسائل، وعُنيت بإقامة الدليل
عليها يتجلى لك الصواب، والتمييز بين الغث والسمين؛ لأن الاستدلال بالكتابة
يخرج الكاتب من حيز الإجمال إلى حيز التفصيل، فكتب فأطال كأنه يناظر خصمًا
ليقنعه أو يفند مذهبه.
جاءني بما كتب فلم أملك من الفراغ ما أقرؤه، وأبين له رأيي فيه، وهو كل
ما كنت أريده، ورأيته يبغي نشره، فألقيته إلى المطبعة، ولم أقرأه، فجمع لينشر
في باب الانتقاد على المنار المفتوح على الدوام، وفهمت من رغبته في نشره أنه
واسع الحرية لا يسوءه أن يرد عليه ويدان كما يدين، وأنا أظن أنني من أوسع أهل
هذا العصر صدرًا لمثل هذا؛ لأنني ألفته من أول النشأة ورسخ معي في مصر،
وأهلها أوسع أهل الشرق حرية.
ثم إنني قرأت ما كتبه مجموعًا بحروف المطبعة عندما جاء وقت نشره بحسب
الترتيب الذي جريت عليه، ورأيت أنني مضطر للرد على كل ما قاله من المسائل
وأدلتها، فندمت أن وعدت بنشره، كارهًا أن يظهر في المنار هذا الخلاف بيني
وبين صديق كريم، وأخ وديد من قوم أحبهم ويحبونني، وقد علمت منه أنه مثلي
يكره أن نظهر بمظهر الخلاف، وكان مقتضاه أن يختصر في بيان المسائل التي
انتقدها، وفي مطالبتي بالدليل عليها، وإذًا لذكرتها مع دليلي عليها بالإيجاز كما
فعلت في كل انتقاد؛ ولكنه أطال وأكثر السؤال، فصار تطويل الرد حتمًا لا مناص
منه فكان.
وقد ساءني أن رأيت الرد ساءه، ونزغ الشيطان بيني وبينه، وكان ذنبي أن
دعوته إلى النقد ونشرته له، وكان ذنبه أن أسرف فيه فخرج به عن المطلوب وهو
التنبيه لما يحتاج إلى تصحيح أو تنقيح، إلى التفنيد ومناظرة الخصوم، ونحمد الله
أن كنا ببركة الإخلاص وحسن النية فيما أخطأنا فيه ممن قال الله تعالى فيهم: {إِنَّ
الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ} (الأعراف:
٢٠١) .
زارني فبثني الشكوى من ثقل وطأة الرد، وحمله إياه على تزوير مقال طويل
في الرد عليه، فتفكيره بأن هذا لا يليق بمثلنا في صداقتنا وحسن نيتنا، فترجيحه
لاطلاعي على رأيه الأخير فيه، وتفويضه إلى أمر تلافيه، فشكرت له ذلك وقبلته
فأقول:
إن بعض انتقاد الأستاذ كان من سوء الفهم لا سوء القصد، أو عن اختلاف
في الاجتهاد والرأي، وبعضه كان من ناحية البيان والتعبير عنه، وكل منا في هذا
سواء.
فأما اعتراضه على مسألة الرق والسبي فقد أورده على عبارة الطبعة الأولى
من كتاب الوحي وكانت مختصرة مجملة قابلة للاعتراض؛ لأنها غير مؤدية للمراد
وكان ينبغي أن يطلع على عبارة الطبعة الثانية إذ كانت صدرت قبل أن يكتب؛
ولكنه قال: إنه لم يكن قد اطلع عليها. وهو صادق.
وكذلك مسألة كلام الله قد بسطتها في الطبعة الثانية بسطًا لا شبهة عليه عنده
كما قال، على أنني كنت بسطتها في مواضع من التفسير بما هو أوسع مما في
الطبعة الثانية أيضًا؛ ولكنه لم يره أو لم يتذكره.
وأما مسألة القتال وآية الأمر به مع النهي عن الاعتداء، وكون غزوات النبي
صلى الله عليه وسلم كلها كانت دفاعًا، فقد كان أكبر أسباب الخلاف بيننا في أصلها
دون بعض فروعها اختلاف فهم المراد من الدفاع والاعتداء، وما كانت عليه الحال
في عهد ظهور الإسلام، وفي هذا العصر أيضًا؛ فإنني رأيت الكثيرين من العلماء
- دع العامة - يفهمون أن الاعتداء أو الابتداء بالحرب يعتبر بالهجوم في كل واقعة
أو معركة أو أخذ غنيمة، ومن ثم يعدون بعض الغزوات والسرايا في صدر الإسلام
دفاعًا، وبعضها اعتداءً أو هجومًا، وهذا خطأ مخالف لعرف العرب وسائر الأمم
وللواقع، والحق أن المعتدية من الأمتين أو الدولتين هي المبتدئة بالعدوان المنشئة
لحالة الحرب، والمدافعة هي المقابلة لها، وإن كانت في أثناء حالة الحرب تغنم
وتهاجم ما استطاعت، ومن المعلوم بالقطع أن قريشًا وسائر قبائل العرب قد عادوا
النبي صلى الله عليه وسلم واعتدوا عليه وعلى من آمن معه منذ أعلن دعوتهم إلى
الإسلام، ومن المعلوم أيضًا أن حالة الحرب بين فريقين لا تزول إلا بمعاهدة، وما
عقدت المعاهدة بين المؤمنين والمشركين إلا في الحديبية أو آخر سنة ست للهجرة،
ولم يلبث المشركون أن نقضوها فعادت حالة الحرب فأباحت للنبي صلى الله عليه
وسلم فتح مكة سنة ثمان، وما تلاها من غزوة حنين والطائف، ونزل في ذلك ما
نزل من الآيات في أول سورة التوبة التي منها ما يسمونه آية السيف، ومن حججها
قوله تعالى: {أَلاَ تُقَاتِلُونَ قَوْماً نَّكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُم بَدَءُوكُمْ
أَوَّلَ مَرَّةٍ} (التوبة: ١٣) ولم يحط الأستاذ الشيخ عبد الله اليابس فهمًا بمرادي
هذا إلا بالمشافهة الأخيرة، فزال الخلاف في الأصل، ولم يبق حاجة إلى البحث
في فروعه والتعبير عنه.
وأما آية {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُوا} (البقرة:
١٩٠) فقد بينا في تفسيرها من جزء التفسير الثاني أنها وما بعدها نزلت في القتال
في الشهر الحرام، وسببها معروف فصلناه هنالك.
وأما مسألة اشتراط المرأة في عقد نكاحها حق عصمتها؛ أي: تطليق نفسها فهو
لا يزال يرى أنه لا يصح، وهو يخالفنا ويخالف من سبقنا إلى تقرير أن الأصل في
العقود والشروط الصحة فيما لم يخالف حكم الله؛ عملاً بإطلاق قوله تعالى: {أَوْفُوا
بِالْعُقُودِ} (المائدة: ١) وأقواهم حجة وبيانًا فيه شيخا الإسلام ابن تيمية وابن
القيم، ويقول: إنه خلاف في الاجتهاد: له اجتهاده وإن لنا اجتهادهم واجتهادنا.
وأما مطالبته إيانا بحديث، أو بخبر صحيح على تعيين يوم مولد النبي صلى
الله عليه وسلم، فيقول: إنه يعني به الخبر التاريخي، لا الخبر المرفوع إلى النبي
صلى الله عليه وسلم، وهو أعلم بمراده سواء وافق ما فهمناه من عبارته أو خالفه.
وجملة القول أننا قد تعارفنا بعد تناكر عارض ضعيف لم يلبث أن زال ولله
الحمد، ولولا حرصي على دوام صداقته ومودته وإعلام من قرأ نقده، وردي عليه
أنه لم يحدث بيننا أقل هجر ولا تقاطع، لما كتبت هذا.
((يتبع بمقال تالٍ))