للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


فتاوى المنار

(أسئلة من صاحب الإمضاء في دربند بوسنة وهرسك)
إلى جناب الأستاذ الأكبر، والمصلح الغيور الأفخم، الإمام العلامة الأجل،
والهمام الفهامة الأكمل، حكيم الإسلام، وفيلسوف الأنام، قدوة العلماء الأعلام،
سيد المحققين وسند المدققين، مقتدَى الأمة، وعمدة أهل السنة، ناصر السنة وقامع
البدعة، فريد العصر ووحيد الدهر، البحر النحرير، والعلم الشهير، صاحب
المنار المنير، السيد الشريف السيد محمد رشيد رضا حفظه الله عز وجل وحيَّاه
وشكر سعيه، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
(س١١) ما قولكم في رجل مسافر يريد إقامة مدة أربعة أيام في بلد فأكثر
على اختلاف الأئمة، هل يسوغ له أن يؤم المقيمين في الرباعية من غير قصر؛
وهل يعد مقيمًا أم لا؟
(س١٢) ما قولكم في قوم مسافرين في البحر أو سكة الحديد هل يتوجهون
عند إقامة الصلاة جماعة أو أفرادًا حيث يتوجه المركب ويسير من غير تَحَرٍّ للقبلة
ولا اعتناء بها، أم يتحرون القبلة ويتوجهون إليها من غير استدارة في الصلاة
واعتناء بحفظها عند تحول المركب عنها، أم يفعلون غير ذلك؟
(س١٣) ما قولكم في رجل يبدأ في الصلاة بأم الكتاب غير أنه يأتي
بالاستعاذة والبسملة بعد التكبير، ولا يقرأ شيئًا سوى ذلك لا نحو (سبحانك اللهم)
إلخ، ولا نحو: وجهت وجهي إلخ، وإذا سئل عن سبب ذلك أجاب: قراءة سبحانك
لم يرد فيه حديث صحيح مرفوع يصلح للاحتجاج به، وقراءة وجهت، لم يرو إلا
في النوافل، بل الذي صح قراءته عنه عليه الصلاة والسلام في الفرائض هو
قوله: (اللهم باعد) إلخ مع أنه لم يأخذ بما ورد في هذا عن أحد من الأئمة.
وعلى كل حال فأم الكتاب أحوى وأشمل للثناء والتحميد والتمجيد من غيرها،
فهو إذًا مستغن عنه وأحب إليه من جميع ما سواه، هل يكون فعله مخالفًا للسنة أم
لا؟
(س١٤) ما قولكم في رجل لا يأتي بـ (آمين) في شيء من الصلاة إلا في
حال الاقتداء وإذا سئل عن ذلك أجاب: لم يرد فيه حديث صحيح صريح يقتضي ذلك
إلا في هذه الحال، وهو قوله عليه الصلاة والسلام: (إذا قال الإمام: ولا
الضالين، فقولوا: آمين) .
ومع ذلك فإني عند الإتيان به في غير حال الاقتداء أخاف الالتباس بالقرآن
والزيادة عليه بما ليس منه، فحينئذ لا أحب الإتيان به إلا في ذلك الحال. هل
يكون تاركًا للسنة أم لا؟
(س١٥) ما قولكم فيما نقل عن الطحاوي من أن من توضأ ولبس الخفين
على طهارة كاملة فسبقه الحدث قبل أن يمسح عليهما لا يجوز المسح عليهما أبدًا،
هل هو صواب وموافق لأصول الشريعة أم لا؟
(س١٦) ما قولكم فيما قاله من قال من العلماء - أظنه صاحب تاج
العروس - من أن الإمام أبا حنيفة أعظم اعتناء في الحديث واشتراط شروطه من
الشيخين: الإمام البخاري والإمام مسلم، مع قلة اشتهار أبي حنيفة برواية الحديث
فضلاً عن الاعتناء به وبوضع شروطه، هل قوله صواب أم لا؟
فأرجو من أمواج علومكم الجواب الشافي عن هذه الأسئلة مع الأدلة الشرعية
والبراهين الواضحة حتى يبين الحق ويظهر اليقين. ولكم الشكر الجميل والحمد
الجليل على ممر الدهور والأوان.
... ... ... ... ... ... ... ... أحد قراء المنار المنير
... ... ... ... ... ... ع. ظ. م. ر. ر. ت. ر. ب. ر
أجوبة المنار
عن هذه الأسئلة بالترتيب
(صلاة المسافر ينوي أن يقيم أربعة أيام فأكثر)
إن السائل الفاضل يعرف خلاف العلماء في هذه المسألة، وإنما يسألنا عن
الراجح المختار عندنا فيها، فنحن نصرِّح له به تصريحًا، مع بيان أننا لا نجيز
لأحد أن يقلدنا فيه تقليدًا، وهو أن المسافر الذي يمكث في بلد أربعة أيام أو أكثر،
وهو ينوي أن يسافر بعد ذلك منها لا يعد مقيمًا منتفيًا عنه وصف السفر لا لغة ولا
عرفًا، وإنما يُعد مقيمًا من نوى قطع السفر واتخاذ سكن له في ذلك البلد، وإن لم
يتم له فيه إلا يوم أو بعض يوم، إننا نرى المسافر يخرج من بلده، وقد قدر لسفره
تقديرًا منه أنه يقيم في بلد كذا ثلاثة أيام؛ وفي بلد كذا عشرة أيام، وفي بلد كذا
عشرين يومًا إلخ، وهو إذا سئل في أي بلد أو سئل عنه هل هو من المسافرين
السائحين؟ أم من المقيمين الوطنيين أو المستوطنين؟ لم يكن الجواب إلا أنه من
المسافرين السائحين؛ فالمكث المؤقت لا يسمى إقامة إلا بقيد التوقيت، بحيث لو
سئل صاحبه هل أنت مقيم في هذا البلد؟ يقول: لا وإنما أنا مسافر بعد كذا يومًا،
أو أمكث أيامًا معدودة ثم أسافر إلى بلد كذا، أو أعود إلى بلدي، وقد يعبر عن هذا
المكث بلفظ الإقامة، وذلك لا ينافي أنه مسافر، ولا فرق في التوقيت بين اليوم
الواحد والأيام، بل يصح أن يقول المسافر: إنني أقيم في هذا البلد ساعة أو
ساعتين أو ساعات، ولا تخرجه هذه التسمية عن كونه مسافرًا، ولذلك ترى
الشافعية الذين يشترطون في الجمعة أن تقام بأربعين فأكثر مقيمين في البلد لا يعدون
من المقيمين فيه من ينوي المكث فيه أربعة أيام أو ثمانية عشر يومًا أو أكثر ثم
يسافر، بل يعدونه مسافرًا لا يحسب من الأربعين. ولكنهم يناقضون أنفسهم
ويعدونه مقيمًا بالنسبة إلى صلاة المسافر. وإني لم أعجب لغلط أحد في هذه المسألة
كما عجبت لغلط الشوكاني فيها؛ إذ قال: إنه يعلم بالضرورة أن المقيم المتردد غير
مسافر حال الإقامة، فإطلاق اسم المسافر عليه مجاز باعتبار ما كان عليه أو ما
سيكون عليه. اهـ.
وإنما المعلوم بالضرورة ما ذكرناه آنفًا من عرف الناس قديمًا وحديثًا، وهذا
المجاز الذي ذكره إنما يصح فيمن كان مسافرًا وعاد إلى بلده، فقال الناس المسلِّمون
عليه: كنا نسلم على فلان المسافر، أو هيا بنا نزور فلان المسافر. فهذا هو
المجاز باعتبار ما كان عليه، وأما المجاز الآخر فمثاله قول من تجهز لسفر من بلده
وعزم عليه، وقد طلب منه أن يعمل عملاً لا يعمله إلا المقيم: إنني مسافر فلا
أستطيع أن أعمل بهذا العمل. ولم يقل أحد: إن السفر عبارة عن الحركة والانتقال
بين البلاد، وقد أقام النبي صلى الله عليه وسلم في مكة عام حجة الوداع عشرًا وهو
يقصر. رواه الشيخان وغيرهما، وأقام فيها عام الفتح تسعة عشر يومًا يقصر الصلاة
ويأمر أهلها بالإتمام ويقول: (يا أهل مكة، أتموا صلاتكم فإننا قوم سفر) رواه
مالك في الموطأ. وأقام بتبوك عشرين يومًا يقصر أيضًا، رواه أحمد وأبو داود.
فكان غير مسافر حقيقة على رأي الشوكاني بل مجازًا، وإذًا يثبت القصر في السفر
المجازي فلمَ لم يقل به؟ وليراجع السائل تتمة هذا البحث في تفسيرنا لقوله تعالى:
{وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ} (النساء:
١٠١) الآية، فإننا حررناه هناك تحريرًا، ومنه يعلم أن صلاة السفر ركعتيتن
ركعتين إلا المغرب عزيمة لا رخصة؛ خلافًا لعائشة إن صح عنها الإتمام والتأول
بأنها تطيقه، وجزم بعضهم بعدم صحته؛ لمخالفته عمل النبي صلى الله عليه وسلم
المطرد في القصر ولروايتها، فهي قد روت أن الصلاة شرعت ركعتين ركعتين
ثم زيد في صلاة الحضر كما مر مفصلاً، ولولا أن جعل الرباعية في السفر ثنائية
عزيمة لكان الخطب فيما سأل عنه السائل سهلاً، فملخص السؤال هل يتم المسافر
الذي ينوي الإقامة أربعة أيام إذا أم المقيمين؟ وملخص الجواب أنه لا يتم في هذه
الحالة كما لا يتم في غيرها على المختار من كون القصر عزيمة، وإلا فهو مخير،
والله أعلم.
استقبال المصلي في المراكب والقطارات الحديدية:
استقبال القبلة في الصلاة فرض وشرط لصحتها يسقط بتعذره، والميسور لا
يسقط بالمعسور، فعلى المسافر في البر أو البحر أن يتحرى القبلة ويستقبلها إذا
أمكن؛ هذا متيسر في سفن البحر الكبيرة المعدة للسفر في هذا العصر؛ وقلما
تتحول السفينة تحولاً سريعًا ينحرف به المصلي عن القبلة في أثناء الصلاة، بل هذا
شيء كأنه لا يحصل، فإذا فرضنا أنها تحولت وعلم بتحولها يتحول هو إلى القبلة
أيضا، وأما القطارات الحديدية فلا يتيسر فيها استقبال القبلة كما يتيسر في البواخر
والسفن الشراعية الكبيرة، فالأولى للمسافر فيها أن ينتظر وقوفها ويصلي صلاته
تامة، ولو بالجمع بين الصلاتين، فإن خاف أن تفوته صلاة تحرى القبلة وصلى
كيفما تيسر له كما يصلي في السفينة الصغيرة قائمًا أو قاعدًا مستقبلاً يتحول بتحولها
ويستدير باستدارتها إذا أمكن، وإلا بقي على حاله، والصلاة في السفينة معروفة في
الفقه وهي محل الإجماع.
الاستفتاح في الصلاة بين التكبير والقراءة:
حديث الاستفتاح بسبحانك اللهم وبحمدك، وتبارك اسمك، وتعالى جدك ولا
إله غيرك. لا يصح كما قال الرجل، وأما قوله: إن حديث (وجهت وجهي) لم
يرو إلا في النوافل دون الفرائض، فغير صحيح، فإن حديث علي كرم الله وجهه
فيه - وإن قيده مسلم بصلاة الليل - قد قيده الشافعي في سننه وابن حبان في
صحيحه بالصلاة المكتوبة، ولا منافاة بين القيدين فإنه كان يستفتح بذلك في المكتوبة
وفي صلاة الليل، وأما حديث (اللهم باعد بيني وبين خطاياي) إلخ فلا يمنع العمل
به عدمُ أخذِ أحدٍ من الأئمة به إن صح هذا، وعدم العلم بأخذهم به لا يقتضي عدمه،
ولم يؤثَر عن أحد منهم الطعن فيه، فذلك الرجل الذي يبدأ بعد تكبيرة الإحرام
بالاستعاذة والبسملة وأم الكتاب يعد مخالفًا للسنة فيما ثبت وصح عن النبي صلى الله
عليه وسلم عنده، ثم رغب عن العمل به؛ لأنه لم يعرف عن أحد من الأئمة أنه أخذ
به، كحديث: (اللهم باعد....) وكذا حديث علي إذا علم به ولم يكن له مطعن في
تقييد الشافعي وابن حبان إياه بالصلاة المكتوبة، فينبغي له أن يأتي بما صح ولو لم
يواظب عليه.
التأمين بعد الفاتحة في الجماعة وغيرها:
ثبتت مشروعية تأمين الإمام والمأمومين بأحاديث متفق على صحتها، وروى
أبو داود وابن ماجه والدارقطني وقال: إسناده حسن، والحاكم وقال: صحيح على
شرطهما، والبيهقي وقال: صحيح - عن أبي هريرة قال: كان رسول الله صلى الله
عليه وسلم إذا تلى {غَيْرِ المَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ} (الفاتحة: ٧) قال:
(آمين) حتى يسمع من يليه في الصف الأول.
وروى مثله أحمد وأبو داود، والترمذي وحسنه، والدارقطني وصححه، وابن
حبان من حديث وائل بن حُجر، قال الحافظ ابن حَجر: وسنده صحيح، وخطّأ ابنَ
القطان في إعلاله، وقد ورد من طرق ينتفي بها إعلاله. وقال ابن سيد الناس: ينبغي
أن يكون صحيحًا. فيدل هذا وما قبله على مشروعية التأمين مطلقًا، فلا حاجة إلى
نص في تأمين الذي يصلي منفردًا، لهذا نرى أن اجتهاد من يترك التأمين في غير
حالة الاقتداء خطأ.
المسح على الخفين بعد الحدث واشتراط الطهارة قبل لبسهما:
الأصل في اشتراط طهارة الرِّجلين قبل لبس الخفين لجواز المسح عليهما:
حديث المغيرة بن شعبة المتفق عليه وما في معناه، قال: كنت مع النبي صلى الله
عليه وسلم ذات ليلة في مسير له فأفرغت عليه من الإداوة فغسل وجهه وغسل
ذراعيه ومسح برأسه، ثم أهويت لأنزع خفيه فقال: (دعهما فإني أدخلتهما
طاهرتين) فمسح عليهما. اهـ.
وورد هذا الحديث بألفاظ أخرى في الصحيحين وغيرهما، وكان ما ذكر فيه
في وقعة تبوك وهي بعد نزول سورة المائدة التي فيها آية الوضوء.
واختلف فقهاء الأمصار من سلف الأمة في المراد بطهارة القدمين، فذهب
الجمهور إلى أنها الطهارة الشرعية، وذهب بعضهم إلى أنها الطهارة الحسية التي
تستفاد من إطلاق اللغة، أي أدخلهما نظيفتين ليس عليها خبث، وهذا مذهب الإمام
داود. وفي حديث عمرو بن أمية الضمري عند أحمد والبخاري وغيرهما وحديث
بلال عند أحمد ومسلم وأصحاب السنن ما عدا أبا داود، وحديث المغيرة عند مسلم
والترمذي: (أن النبي صلى الله عليه وسلم مسح على العمامة، وفي بعض
الروايات: الخمار والخفين) .
وروي العمل بحديث المسح على العمامة عن جماعة من الصحابة والتابعين
وأئمة الأمصار كالأوزاعي وأحمد وإسحاق وأبي ثور وداود. ولم يُروَ اشتراط
وضع العمامة أو الخمار على طهارة إلا عن أبي ثور، وهذا يرجح قول داود بن علي
في طهارة القدمين؛ لأن من شأنهما أن يصيبهما الخبث.
وهذا المسح لا ينافي حكمة الوضوء؛ وهي تعهد أطراف البدن بالنظافة لكثرة
طروء الوسخ عليها وما في غسلها من التنشيط على العبادة مع سهولة ذلك وعدم
الحرج والمشقة فيه إلا في نزع العمامة والخفين، وأعني العمامة التي كانوا
يتعممون بها في عهد التشريع، فقد كانت تدار على الرأس مباشرة في الغالب ويحتنك
بها فتشبه الخمار؛ ولهذا ورد المسح بلفظ العمامة وبلفظ الخمار.
وإزالة مثل هذه العمامة لمسح الرأس وإعادتها لا يخلو من مشقة كنزع الخفين
وغسل الرجلين، فلما كان الأمر كذلك، وكان الله عز وجل يقول في آية الوضوء
{مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ وَلَكِن يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ} (المائدة: ٦) وليس
عندنا نص نقيد به المسح بما اشترطه الطحاوي - فظهر أن قول الطحاوي بوجوب
الوضوء والمسح عليهما قبل أن يحدث بعد لبسهما على طهارة لا يقتضيه نص
الأحاديث الواردة في مشروعية المسح ولا حكمة الوضوء والمسح؛ ولذلك كان
الجمهور على خلافه.
تفضيل الإمام أبي حنيفة بالاعتناء بالحديث وشروطه على الشيخين:
لا ينبغي إبداء الرأي في عبارة من فضل أبا حنيفة في الحديث على الشيخين
رحمهم الله أجمعين، إلا بعد الاطلاع عليها، وما نقله السائل عنه أراه غير صواب،
ولا أحب الخوض في هذه المسألة؛ لأنني لا أرى له فائدة بل ربما كان ضارًّا؛
لأن الناس يتبعون الهوى في الكلام على الأئمة المتبوعين، ولا يقبلون إلا ما وافق
أهواءهم، وليس لأبي حنيفة كتب في الحديث كالصحيحين حتى تكون فائدة
التفاضل الاعتماد على كتبه وما اعتمده في أسانيدها وترجيحها على الصحيحين أو
ترجيح الصحيحين عليها عند الاحتجاج.
والمحدثون الذين تكلموا في الإمام أبي حنيفة قد اعترف جمهورهم بأنه سمع
الحديث من عدة رجال وسمع منه تلاميذه، ولكنهم لم يعدوه من رجال الجرح
والتعديل الذين يعتمد على كلامهم في نقد الحديث كالشيخين، ومَن قبلهما ومن
بعدهما، فلا تكاد ترى اسمه في كتب هذا العلم، وما يعزى إليه من الحديث
كاستدلاله به في كتب الفقه مثلاً يحكِّم المحدثون فيه رواية الحفاظ ويرجعون إليه في
كتبهم كالصحاح والمسانيد والسنن والمعاجم ويعتمدون على أسانيدها وعلى كلام أئمة
الجرح والتعديل في رجالها كابن القطان وأحمد بن حنبل ويحيى بن معين والشيخين
وأصحاب السنن الأربع، ويعتمدون فيما اختُلف فيه منها على تحقيق حفاظ القرون
الوسطى كالذهبي وابن حجر، ولا يعدون استدلال الإمام وأصحابه بحديث كافيًا في
الحكم بصحته، وإن صرحوا بأنه صحيح، بل نراهم يحكمون بضعف كثير من
الأحاديث التي استدل بها الحنفية على قول الإمام وأصحابه، بل جزموا بأن كتبهم
فيها أحاديث موضوعة.
ولو كان لأبي حنيفة كتب في الجرح والتعديل أو رويت عنه أقوال في ذلك
لأحَلَّها هؤلاء محلها من الاعتبار؛ لأنهم ترجموه بالورع والتقوى، وصرح بعض
المتأخرين بأنه لا يخل بمقامه تضعيف بعض الحفاظ له من جهة حفظه كالنسائي
وابن عدي، وجملة القول أن أبا حنيفة يعد عندهم من أئمة الفقه لا من رجال نقد
الحديث فلا وجه للمفاضلة بينه وبين الشيخين في الحديث، ونسأل الله أن ينفعنا
بعلوم الجميع ويحفظنا من العصبية الجاهلية لأحد منهم.