النبذة السادسة تابعة لما نشر في الجزء ٢٣ من المجلد الثالث
ينبغي للإنسان أن يجتنب الوعد ما استطاع، وأن يجتنب تحديد الوعد بزمان أو مكان، إذا هو وعد إلا إذا اضطر إلى ذلك اضطرارًا، وقلما يأتي الاضطرار في الأمور العامة، كُنَّا شرعنا في السنة الثالثة للمنار بكتابة مقالات في مدنية العرب أو مدنية الإسلام في عهد الدول العربية، فكتبنا خمس نُبَذ في منشأ تلك المدنية، وكونها قامت على أساس الدين وتولدت من تعاليمه، ثم في اشتغال العرب بالعلوم الكونية، وما اكتشفوه واخترعوه في علم الفلك وسائر العلوم الرياضية كالحساب والجبر والهندسة، ووعدْنا بأن نتم هذا المبحث في السنة الرابعة، فمرت السنة الرابعة ولم يتح لنا فيها الوفاء بالوعد، ولكننا استأنفنا وعدًا آخر في آخرها بأننا نتم ذلك في هذه السنة، وقد مرت السنة حتى لم يبق منها إلا هذا الجزء ولم نتمكن من إنجاز الوعد لأن المقالات المتسلسلة زادت في هذه السنة عما قبلها بنشر مقالات جمعية أم القرى ومقالات (الإسلام والنصرانية مع العلم والمدنية) التي كان فيها شيء إجمالي من موضوع مدنية العرب، وقد رأينا أن نختم هذا الجزء بنبذة سادسة وفاءً بالوعد بقدر الإمكان فنقول: *** الجغرافيا الرياضية وتقويم البُلْدان أشهر كتب الجغرافيا اليونانية كتاب بطلميوس وأَزْياجه وقد كانت آراء بطليموس تؤخذ على عِلاتها؛ لأن العلم صار تقليديًّا حتى تناوله اجتهاد العرب؛ فطَفِقوا من عهد المأمون يصححون أغلاط اليونان في الفلك وسائر الرياضيات - كما تقدم -، ومن ذلك أنهم صححوا أرصاد المجسطي بالزِّيج الجديد، وأعادوا تحديد أطوال الأرض فكان أتمها تصحيحًا تحديد بلاد العرب والخليج الفارسي والجزيرة وبلاد فارس والبحر المتوسط، ولما اشتغل الأوربيون بهذا العلم ظلوا زمنًا طويلاً مغرورين بكتاب بطليموس حتى ظفروا بكتب العرب وتصحيحهم لأغلاط بطليموس. بدأ العرب بتصحيح أَزْياج بطليموس في أول القرن الثالث على عهد المأمون، ولكن ذلك التصحيح لم يكن تامًّا، فإن البيروني في أول القرن السابع هو الذي صحح الغلط في حساب أطوال بلاد الروم، وما وراء النهر، والسند، وألف قانونًا جغرافيًّا، كان قدوة للمشتغلين بالقسموغرافية من بعده. وأتم عمر الخيّام حساب جداول التقويم السنوية (الروانامه) في سنة ٤٦٩ و ٤٧٠ وحدد مدة السنة الفلكية أصح تحديد وصنع الشريف الإدريسي في أوائل القرن السادس خريطة جغرافية من الفضة لملك صقلية حفر فيها باللغة العربية صور جميع الممالك المعروفة في ذلك العهد، وألَّف كتابًا في الجغرافية بَيَّن فيه أول نقطة تماس بين جغرافية اللاتينيين وجغرافية المدارس الإسلامية، وقد عكف رسامو الخرائط الجغرافية في أوربا على مُؤَلَّفِهِ ثلاثة قرون ونصف، يتقلدونه كما هو لا يزيدون فيه ولا ينقصون منه، وكان من علماء هذا الفن في المغرب أبوالحسن علي المراكشي في أول المئة السابعة للهجرة الشريفة، وقد قال سيديو: إن كتابه كان أجلّ الآثار العلمية فيما عليه العرب من علم الجغرافية، وكان لعلم الجغرافية خرائط بحرية أيضًا عثر الأوربيون على بعضها في أول المئة التاسعة للهجرة، ووجدوا خريطة بحرية أخرى من رسم عمر العربي سنة ١٦٨٤م أي سنة ١٠٥٨ هـ. أما الجغرافية الوصفية أو التخطيطية فقد عرفها العرب قبل الجغرافية الرياضية، واتسعت معرفتهم بها باتساع فتوحاتهم وتجارتهم، قال سيديو: إنهم حين امتدّت مملكتهم من المحيط الأطلانطيقي إلى تُخُوم مملكة الصين أنشؤوا بالتدريج أربع طرق عظيمة تجارية توصل بين مدينتي قادس وطَنجة إلى أقصى آسيا. (إحداها) تخترق أسبانيا وأوربا وبلاد سلاوونة إلى بحر جرجان ومدينة بَلْخ وبلاد تجزجز. (والثانية) تخترق بلاد المغرب ووادي النيل ودمشق والكوفة وبغداد والبصرة والأهواز وكرمان والسند والهند. (والثالثة والرابعة) تعبران البحر الأبيض المتوسط وتتجه إحداهما من الشام والخليج الفارسي والأخرى من الإسكندرية والبحر الأحمر للتوصل إلى بحر الهند، فكثرت بهذه الطرق السياحات ونقل السياحون إلى أقصى البلاد ما عند العرب من الأفكار والتمدن واستفاضت الأخبار الجليلة الفوائد؛ فنورت أذهان الملاحين وعرفتهم الأخطار التي يخشى عليهم الوقوع فيها؛ إذا سافروا في ولايات غير مكتشفة تمام الاكتشاف، واشتملت الأزياج التي حررها البتاني بالرَّقَّة سنة تسعمائة (٢٨٧هـ) وابن يونس في القاهرة سنة ألف (٣٩٠هـ) على كتاب رَسْم الأرض بلا تغيير كبير، وأما ابن حوقل والإصطخري والمسعودي المشهورون في نصف القرن العاشر من الميلاد فوصفوا في كتبهم صورة الاكتشاف الجديد، وحسب العلامة الكومي سنة ١٠٦٧ الأطوال من ابتداء الطرف الشرقي من الأرض القارة. وزعم بعض الفرنج أن العرب كانوا متَّبعين في أول عصر بني العباس الرواياتِ الهندية مع أن كتاب مبادئ الفلك المسمى (بسند هند) إن صح نقله إلى المنصورة سنة ٧٧٥ (١٥٨) لم يكن له عظيم اعتبار عند العرب؛ فإنهم ظفروا عما قليل برسالات يونانية وتركوه لا يتفوّهون باسمه إلا ليبينوا ما فيه من الغلط، ولم يعولوا في شيء من الجغرافية على كتب توضح أن شبه جزيرة هندستان في مركز العالم وأن خط نصف النهار الذي يبين نقطة وسطها يخترق مدينة أوجين وجزيرة سيلان، وبحث العرب في كتبهم عن خط نصف نهار القبة الأرضية، وهي فيه عرين للتنصيص على الأطوال، فظن بعض الفرنج أن المراد من (عرين) مدينة أوجين وهو خطأ فادح، فإن القبة المنسوبة إلى عرين هي نقطة تقاطع الدرجة التسعينية من حساب بطلميموس مع خط الاعتدال على بعد متساوٍ من الجهات الأربع الأصلية، وليست هي قبة أوجين فإن العرب كانوا يعرفون حق المعرفة محل أوجين الجغرافي وأما (عرين) فكلمة اصطلاحية أرادوا بها جزيرة موهومة بين هندستان وبلاد الحبشة سماها المؤرخ ديودور الصقلي جزيرة أورانوس، وبدل العرب خط نصف نهار عرين أو قبة الأرض بخط نصف النهار المار بالجزائر الخالدات فاتُّبِعَ ذلك من ابتداء القرن الحادي عشر إلى الثالث عشر. اهـ وقد ألف العرب كتبًا مخصوصة في مسالك البلدان حتى صار علمًا مستقلاً وفي أسماء البلاد والأماكن ككتاب مراصد الاطلاع على أسماء الأمكنة والبقاع ومعجم ياقوت والمشترك، وتقويم البلدان للملك المؤيد صاحب حُمَاه وتقويم البلدان للبلخي كتاب (أوضح المسالك إلى معرفة البلدان والممالك) (وهذا أُلِفَ في عهد الدولة العثمانية وأهداه مؤلفه محمد بن علي الشهير بسباهي إلى السلطان مراد الثالث ٩٨٠ ثم اختصره بالتركية. *** العلوم الطبيعية الكيمياء والصيدلة: قد ارتقت العلوم الطبيعية عند العرب، واتسعت مذاهبها، وكثر الاكتشاف والاختراع فيها، على أن حظها كان دون حظ العلوم الرياضية؛ لأن العمدة في العلم الرياضي العقل والعمل مؤيد له، والعمدة في العلم الطبيعي العمل والعقل مساعد له، وما يتوقف الارتقاء فيه على العمل لا يرتقي إلا بالزمن الطويل، كانت العلوم الطبيعية من عهد أستاذها الأول أرسطاليس ضئيلة ضاوية، ثم ماتت بضعفها، ولمَّا أحياها العرب بإحياء الإسلام لهم تنكبوا طريق النظر المحض فيها، واعتمدوا على التجربة؛ فحولوا الكيمياء الوهمية إلى حقيقية واشتقوا منها فن الصيدلة (تركيب الأدوية) ، وانتقلوا إلى التاريخ الطبيعي فاكتشفوا بذلك خواص نبات بلادهم وصموغها البلسمية، وأفادوا بها الطب والصناعة فوائد جليلة، قال سيديو: إن البحث عن الجواهر الطبية الذي مدحه ديوسقوريدس لأهل مدرسة الإسكندرية كان من مخترعات العرب، فإنهم هم المنشئون للصيدليات (الأجزخانات) الكيماوية والموروث عنهم ما يسمى الآن بقواعد تحضير الأدوية الذي انتشر بَعْدُ من مدرسة سالرنة في الممالك التي في جنوب أوربا: ومن مخترعات العرب في الكيمياء، الكحول أو الغُول، الذي صار قِوَام الأعمال الكيمياوية والصيدلية، وتركيب حمض الكبريت، والماء الملكي، والماء المعشر، والجلاب، وغير ذلك من الأدوية والمعاجين والمربيات والهلامات. قال في دائرة المعارف: (وهم أول من اخترع السواغات لإذابة الأصول الفعالة للأدوية سواء كانت معدنية أو نباتية أو حيوانية، واخترعوا الأنبيق والتقطير والتسامي ووضعوا في أيام الخلفاء قانونًا أقرباذينيا، كانت جميع التراكيب الأقراباذينية المذكورة فيه مثبتة من طرف الحكومة لا يجهز خلافها) أي أنهم هم الذين جعلوا عمل الصيدلة رسميًّا بمعرفة الحكومة. وأشهر العلماء المخترعين في الكيمياء والأقراباذين (الصيدلة) أبو بكر الرازي صاحب كتاب (الترتيب) فيها، والكتب الكثيرة في الطب والفلسفة (توفي سنة٣١١هـ) وهو المخترع للمسهلات اللطيفة، ولاستعمال كثير من النبات في الطب، والرئيس أبو علي بن سينا فيلسوف الشرق وأكبر أطبائه، وابن رشد فيلسوف الغرب، وأكبر أطبائه، وقد ترجم الأوربيون أكثر كتب هذين الفيلسوفين، وانتفعوا بها كما انتفعوا بكتب الشيخ أبي بكر الرازي ويشهدون للجميع بالتبريز في العلوم. *** الطب: لا يعرف التاريخ أُمة أقدم عهدًا في صناعة الطب من المصريين فهم أساتذة اليونانيين وأئمتهم، ولكن طبهم كان ممزوجًا بالأوهام والتقاليد الخرافية كاعتقادهم أن الصرع يكون بدخول عفريت من الجن في جسم الإنسان، وكانوا يعالجونه بالرُّقى والعزائم، وإنما برعوا في فرع واحد من فروع الطب، وهو التحنيط، وكان التشريح مذمومًا عندهم، والأطباء من غير الكهنة محتقرين يعاقبون إذا مات من يعالجون، ثم لمَّا دالت دولة العلم إلى اليونان بعد انحلال المصريين عنوا بالطب، فكان علمًا محترمًا، ثم قضى الرومانيون على علم اليونان، كما قضوا على دولتهم، وكانت عنايتهم في المعالجة مقصورة على الرُّقَى والطلاسم ومجربات العامة التي يتناقلونها، ثم أحوجتهم الحضارة إليه فأجلوا الأطباء بعد احتقارهم، ولكن الرومان أنفسهم لم ينبغوا في الطب وفنونه، بل احتقروه في أول دولتهم واحترموه في عنفوانها، ثم عفا وانحلّ بانحلال دولتهم حتى إذا نهض الإسلام بالعرب لم تكن لهذه العلوم سوق نافقة في الأرض فأحيوها بعد موتها. دائرة المعارف: ولما كانت فتوحات العرب، وضربوا في طول البلاد وعرضها كان الطب كسائر العلوم في أسفل دَرْك الهوان والخمول؛ فنهضوا به نهضة جديدة، والتقطوا مسائله من كتب اليونان وغيرهم وأودعوه كتبهم مع زيادة مما توسعوا فيه بالبحث والتحري، وأجادوا بتعريفه ووصفه وتقسيمه: (ثم قال) : ولم يكد يفرغ الخلفاء ومَن وَلِيهم من بني أمية من بسط جناح الإسلام حتى أخذ الخلفاء يلِجون باب العلم كما ولجوا باب الفتوحات فكان للطب علم وافر، واستعانوا بعلماء اليهود والنصارى عملاً بالحديث القائل (استعينوا على كل صنعة بصالح أهلها) فكانت للأمويين من ذلك بعض الآثار، ولكن الآثار المشيدة والمساعي الحميدة، إنما كانت للعباسيين في بغداد ومن ثم للأندلسيين فاتخذ السفَّاح العباسي أطباء ماهرين أقام بختيشوع النسطوري رئيسًا عليهم وطبيبًا خاصًّا له كما كان جويه اليهودي عند عمر بن عبد العزيز الأموي: ثم ذكر بعض كبار أطباء العرب ومؤلفاتهم واكتشافاتهم، وقال: (وعلى هذا كانت دولة العرب عُرْوَة الوصل بين طب المتقدمين وطب المتأخرين، ولولاهم لانتثر العقد، وعفا الكثير من معالم العلم والعرفان، فإن معظم ما تناوله الإفرنج من علم الأقدمين قبل فتح القسطنطينية إنما كان عند العرب، وظل اشتغال العرب مدة مديدة منحصرًا في النقل والتقليد لا يأخذون إلا بما ينقلون ويذهبون مذهب الأقدمين، فبينما تراهم عالمين بالأمزجة والأغذية وباحثين في الداء والدواء؛ وإذا بهم يقولون بالتنجيم والعزائم، والرُّقى والطلاسم، وكان هذا شأنهم إلى أن نبغ منهم علماء حكماء، فاستجلوا كثيرًا من الحقائق العلمية وأبقوا للخَلَف من مبتكراتهم وتوسعاتهم مباحث واكتشافات، فهم أول من دقق البحث في الحُميات النفاطية كالجُدري والحصبة والحمى القرمزية، وحسبنا من ذلك رسالة الرازي وهم الذين لطفوا المسهّلات، وأشاروا باستعمال المن، والسنا، والتمرهندي، والراوند، والكافور، وغير ذلك. وإن كانوا عرفوا منافع أكثر تلك المواد بما ترتب لهم من العلائق التجارية مع الصين والهند فليس في ذلك ما يخفض من قدرهم ويقلل من فضلهم، وهم الذين حسنوا صناعة التقطير والتخمير وتشكيل الأواني المعدنية، وكانت لهم اليد الطُّولى في فن الصيدلة فوضعوا أسسه ووطدوا أركانه فأفادوا العالم فائدة خلدها لهم التاريخ. ثم قال الكاتب: وفوق اشتغالهم بطب البشر عنوا بعض العناء (كذا) بالبيطرة، وهي طب الخيل والزردقة، وهي طب الطيور، وسائر العلوم التي لها علاقة صريحة أو غير صريحة بالطب كالبزدرة، وهي صناعة الغرس والطبيعيات: (إلى أن قال) : ولهذا قبضوا على ناصية الطب كما استقلوا بأزِمَّة العلم من فلك، وهندسة، ونبات، وكيمياء، ومنطق، وطبيعيات وما وراء الطبيعيات، ولبثوا أربعة قرون متوالية مستودع المعرفة وملجأ الحكمة أي منذ تولي الرشيد في بغداد أو قبيل توليه إلى موت ابن رشد، ولا عبرة بالفترة التي حصلت بعد وفاة ابن سينا فإن العلم لم يمت في خلالها. (قال) : والعجب كل العجب أنه قامت بعد ذلك للمسلمين دول شتى ذات قوة وشأن عظيم فكان منها العرب، والعجم، والترك، والتتر، ولم تفلح دولة منها هذا الفلاح، وإن لذلك بلا ريب أسبابًا نضرب عنها صفحًا لخروجها عن دائرة بحثنا. اهـ نقول: إن المدة التي ذكرها هي التي كان فيها العلم العربي في عنفوان شبابه، وقد ولد قبلها ومات بعدها بزمن، وابن رشد مات في ٥٩٥هـ، ولم يكن بعد ذلك للعرب دولة قوية بروح الدين وحياة الخلافة الإسلامية، وإن كان لدولة الترك من القوة الحربية، ما لم تصل إليه دولة سواها، ولم تكن حياة العلم في دول العرب بالقوة الحربية وإنما كانت بالقوة الأدبية التي جاءتهم من الإسلام، ولم يُقم الإسلام غيرهم كما يجب أن يقام، وقد ظهرت الدولة العلية بعد موت ابن رشد بنحو مائة سنة فإن انقراض الدولة السلجوقية كان سنة ٦٩٩هـ وعلى أنقاضها بنى السلطان عثمان الأول بناء سلطنته خلدها الله تعالى بتوفيق القائمين على سريرها للعدل والإصلاح. آمين (للمقالات بقية)