لشيخ الإسلام أحمد بن تيمية رحمه الله تعالى (تابع لما قبله)
(والطريقة الثانية) أن يقولوا: هذا قول ابن عمر , وابن عباس , ولا مخالف لهما من الصحابة؛ فصار إجماعًا. وهذا باطل , فإنه نقل عنهما هذا وغيره , وقد ثبت عن غيرهما من الصحابة ما يخالف ذلك، وثم طريقة ثالثة سلكها بعض أصحاب الشافعي وأحمد , وهي أن هذا التحديد مأثور عن النبي صلى الله عليه وسلم كما رواه ابن خزيمة في مختصر المختصر , عن ابن عباس , عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (يا أهل مكة لا تقصروا في أقل من أربعة برد من مكة إلى عسفان) , وهذا ما يعلم أهل المعرفة بالحديث أنه كذب على النبي صلى الله عليه وسلم , ولكن هو من كلام ابن عباس، أَفَتَرَى رسولَ الله صلى الله عليه وسلم إنَّما حدَّ مسافةَ القصر لأهل مكة دون أهل المدينة التي هي دار السنة , والهجرة , والنصرة , ودون سائر المسلمين؟ وكيف يقول هذا , وقد تواتر عنه أن أهل مكة صلوا خلفه بعرفة ومزدلفة ومنى؟ ! ولم يحد النبي صلى الله عليه وسلم قط السفر لا بمسافة , لا بريد , ولا غير بريد , ولا حدها بزمان. ومالك قد نقل عنه أربعة بُرُدٍ كقول الليث والشافعي وأحمد وهو المشهور عنه. قال: فإن كانت أرض لا أميال فيها؛ فلا يقصرون في أقل من يوم وليلة؛ للثقل , قال: (وهذا أحب ما تقصر فيه الصلاة إلي) , وقد ذكر عنه: (لا قصر إلا في خمسة وأربعين ميلاً , فصاعدًا) , وروي عنه: (لا قصر إلا في اثنين وأربعين ميلاً , فصاعدًا) , وروي عنه: (لا قصر إلا في أربعين ميلاً , فصاعدًا) , وروى عنه إسماعيل بن أبي أويس: (لا قصر إلا في ستة وأربعين ميلاً قصدًا) . ذكر هذه الروايات القاضي إسماعيل بن إسحاق في كتابه المبسوط، ورأى لأهل مكة خاصة أن يقصروا الصلاة في الحج خاصة إلى منى , فما فوقها , وهي أربعة أميال , وروى عنه ابن القاسم أنه قال فيمن خرج ثلاثة أميال كالرعاء وغيرهم , فتأول؛ فأفطر في رمضان: (لا شيء عليه إلا القضاء فقط) ، وروي عن الشافعي أنه: (لا قصر في أقل من ستة وأربعين ميلاً بالهاشمي) . والآثار عن ابن عمر أنواع، فروى محمد بن المثنى , حدثنا عبد الرحمن بن مهدي , حدثنا سفيان الثوري , سمعت جبلة بن سحيم يقول: سمعت ابن عمر يقول: لو خرجت ميلاً؛ لقصرت الصلاة. وروى ابن أبي شيبة، حدثنا وكيع، حدثنا مسعر، عن محارب بن زياد، سمعت ابن عمر يقول: (إني لأسافر الساعة من النهار؛ فأقصر) ؛ يعني الصلاة. محارب قاضي الكوفة من خيار التابعين أحد الأئمة , ومسعر أحد الأئمة. وروى ابن أبي شيبة , حدثنا علي بن مسهر , عن أبي إسحاق الشيباني , عن محمد بن زيد بن خليدة , عن ابن عمر قال: (تقصر الصلاة في مسيرة ثلاثة أميال) . قال ابن حزم: محمد بن زيد هو طائي , وَلاَّهُ محمد بن أبي طالب القضاء بالكوفة مشهور من كبار التابعين. وروى مالك , عن نافع , عن ابن عمر أنه قصر إلى ذات النصب , قال: وكنت أسافر مع ابن عمر البريد , فلا يقصر. قال عبد الرزاق: ذات النصب من المدينة على ثمانية عشر ميلاً , فهذا نافع يخبر عنه أنه قصر في ستة فراسخ , وأنه كان يسافر بريدًا - وهو أربعة فراسخ - فلا يقصر , وكذلك روي عنه ما ذكره غندر , حدثنا شعبة عن حبيب بن عبد الرحمن عن حفص بن عاصم بن عمر بن الخطاب قال: (خرجت مع عبد الله بن عمر بن الخطاب إلى ذات النصب , وهي من المدينة على ثمانية عشر ميلاً , فلما أتاها؛ قصر الصلاة) , وروى معمر , عن أيوب , عن نافع , عن ابن عمر أنه كان يقصر الصلاة في مسيرة أربعة برد. وما تقدم من الروايات يدل على أنه كان يقصر في هذا , وفي ما هو أقل منه , وروى وكيع , عن سعيد بن عبيد الطائي , عن علي بن ربيعة الوالبي الأسدي قال: سألت ابن عمر عن تقصير الصلاة , قال: (حاج أو معتمر أو غاز؟) فقلت: لا , ولكن أحدنا يكون له الضيعة في السواد، فقال: (تعرف السويداء؟) فقلت: سمعت بها , ولم أرها. قال: (فإنها ثلاث وليلتان وليلة للمسرع، إذا خرجنا إليها؛ قصرنا) قال ابن حزم: من المدينة إلى السويداء اثنان وسبعون ميلاً أربعة وعشرون فرسخًا. (قلت) : فهذا مع ما تقدم؛ يبين أن ابن عمر لم يذكر ذلك تحديدًا؛ لكن بين بهذا جواز القصر في مثل هذا؛ لأنه كان قد بلغه أن أهل الكوفة لا يقصرون في السواد؛ فأجابه ابن عمر بجواز القصر. وأما ما روي [١] من طريق ابن جريج، أخبرني نافع أن ابن عمر كان أدنى ما يقصر الصلاة إليه مال له بخيبر , وهي مسيرة ثلاث قواصد لم يقصر فيما دونه، وكذلك ما وراه حماد بن سلمة , عن أيوب بن حميد كلاهما , عن نافع , عن ابن عمر أنه كان يقصر الصلاة فيما بين المدينة وخيبر , وهي بقدر الأهواز من البصرة لا يقصر فيما دون ذلك - قال ابن حزم: بين المدينة وخيبر كما بين البصرة والأهواز , وهي مائة ميل غير أربعة أميال , قال: وهذا مما اختلف فيه على ابن عمر , ثم على نافع أيضًا , عن ابن عمر. (قلت) : هذا النفي , وهو أنه لم يقصر فيما دون ذلك غلط قطعًا ليس هذا حكاية عن قوله حتى يقال: إنه اختلف اجتهاده , بل نفي لقصره فيما دون ذلك , وقد ثبت عنه بالرواية الصحيحة من طريق نافع , وغيره أنه قصر فيما دون ذلك , فهذا قد يكون غلطًا , فمن روى عن أيوب - إن قدر أن نافعًا روى هذا - فيكون حين حدث بهذا قد نسي أن ابن عمر قصر فيما دون ذلك , فإنه قد ثبت عن نافع عنه أنه قصر فيما دون ذلك. وروى حماد بن زيد , حدثنا أنس بن سيرين قال: خرجت مع أنس بن مالك إلى أرضه , وهي على رأس خمسة فراسخ , فصلى بنا العصر في سفينة , وهي تجري بنا في دجلة قاعدًا على بساط ركعتين , ثم سلم , ثم صلى بنا ركعتين , ثم سلم. وهذا فيه أنه إنما خرج إلى أرضه المذكورة , ولم يكن سفره إلى غيرها حتى يقال: كانت من طريقه , فقصر في خمسة فراسخ , وهي بريد وربع , وفي صحيح مسلم: حدثنا ابن أبي شيبة وابن بشار كلاهما عن غندر عن شعبة عن يحيى بن يزيد الهنائي سألت أنس بن مالك عن قصر الصلاة؛ فقال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا خرج مسيرة ثلاثة أميال , أو ثلاثة فراسخ - شعبة شك -؛ صلى ركعتين. ولم ير أنس أن يقطع من المسافة الطويلة هذا؛ لأن السائل سأله عن قصر الصلاة , وهو سؤال عما يقصر فيه ليس سؤالاً عن أول صلاة يقصرها , ثم إنه لم يقل أحد: إن أول صلاة لا يقصرها إلا في ثلاثة أميال , أو أكثر من ذلك , فليس في هذا جواب لو كان المراد ذلك , ولم يقل ذلك أحد؛ فدل على أن أنسًا أراد أنه من سافر هذه المسافة؛ قصر، ثم ما أخبر به عن النبي صلى الله عليه وسلم فعل من النبي صلى الله عليه وسلم لم يبين هل كان ذلك الخروج هو السفر , أو كان ذلك هو الذي قطعه من السفر؟ فإن كان أراد به أن ذلك كان سفره , فهو نص، وإن كان ذلك الذي قطعه من السفر , فأنس بن مالك استدل بذلك على أنه يقصر إليه إذا كان هو السفر , يقول: إنه لا يقصر إلا في السفر , فلولا أن قطع هذه المسافة سفر؛ لما قصر. وهذا يوافق قول من يقول: لا يقصر حتى يقطع مسافة تكون سفرًا لا يكتفي مجرد قصده المسافة التي هي سفر , وهذا قول ابن حزم , وداود , وأصحابه، وابن حزم يحد مسافة القصر بميل. لكن دواد , وأصحابه يقولون: لا يقصر إلا في حج , أو عمرة , أو غزو. وابن حزم يقول: إنه يقصر في كل سفر. وابن حزم عنده أنه لا يفطر إلا في هذه المسافة , وأصحابه يقولون: إنه يفطر في كل سفر بخلاف القصر؛ لأن القصر ليس عندهم فيه نص عام عن الشارع , وإنما فيه فعله أنه قصر في السفر , ولم يجدوا أحدًا قصر فيما دون ميل، ووجدوا الميل منقولاً عن ابن عمر. وابن حزم يقول: السفر هو البروز عن محلة الإقامة؛ لكن قد علم أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج إلى البقيع لدفن الموتى وخرج إلى الفضاء للغائط، والناس معه، فلم يقصروا، ولم يفطروا، فخرج هذا عن أن يكون سفرًا، ولم يحدوا أقل من ميل يسمى سفرًا، فإن ابن عمر قال: لو خرجت ميلاً؛ لقصرت الصلاة، فلما ثبت أن هذه المسافة جعلها سفرًا، ولم نجد أعلا منها يسمى سفرًا؛ جعلنا هذا هو الحد، قال: وما دون الميل من آخر بيوت قريته له حكم الحضر؛ فلا يقصر فيه , ولا يفطر، وإذا بلغ الميل، فحينئذ صار له سفر يقصر فيه الصلاة، ويفطر فيه، فمن حينئذ يقصر ويفطر، وكذلك إذا رجع، فكان على أقل من ميل؛ فإنه يتم ليس في سفر يقصر فيه. (قلت) : جعل هؤلاء السفر محدودًا في اللغة قالوا: وأقل ما سمعنا أنه يسمى سفرًا هو الميل، وأولئك جعلوه محدودًا بالشرع، وكلا القولين ضعيف، أما الشارع فلم يحده، وكذلك أهل اللغة لم ينقل أحد عنهم أنهم قالوا: الفرق بين ما يسمى سفرًا وما لا يسمى سفرًا هو مسافة محدودة، بل نفس تحديد السفر بالمسافة باطل في الشرع واللغة، ثم لو كان محدودًا بمسافة ميل، فإن أريد أن الميل يكون من حدود القرية المختصة به، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يخرج أكثر من ميل من محله في الحجاز , ولا يقصر، ولا يفطر، وإن أراد من المكان المجتمع الذي يشمله اسم مدينة ميلاً؛ قيل له: فلا حجة لك في خروجه إلى المقابر، والغائط، وفي ذلك ما هو أبعد من ميل، وكان النبي صلى الله عليه وسلم، وأصحابه يخرجون من المدينة إلى أكثر من ميل، ويأتون إليها أبعد من ميل، ولا يقصرون كخروجهم إلى قباء , والعوالي , وأحد , ودخولهم للجمعة وغيرها من هذه الأماكن. وكان كثير من مساكن المدينة عن مسجده أبعد من ميل , فإن حرم المدينة بريد في بريد حتى كان الرجلان من أصحابه لبعد المكان يتناوبان الدخول يدخل هذا يومًا، وهذا يومًا، وقول ابن عمر: (لو خرجت ميلاً؛ قصرت الصلاة) هو كقوله: (إني لأسافر الساعة من النهار؛ فأقصر) ، وهذا إما أن يريد به ما يقطعه من المسافة التي يقصدها، فيكون قصده أني لا أؤخر القصر إلى أن أقطع مسافة طويلة، وهذا قول جماهير العلماء إلا من يقول: إذا سافر نهاراً؛ لم يقصر إلى الليل. وقد احتج العلماء على هؤلاء بأن النبي صلى الله عليه وسلم صلى الظهر بالمدينة أربعًا، والعصر بذي الحليفة ركعتين، وقد يحمل حديث أنس على هذا، لكن فعله يدل على المعنى الأول، أو يكون مراد ابن عمر: من سافر؛ قصر هذه المسافة إذا كان في صحراء بحيث يكون مسافرًا لا يكون متنقلاً بين المساكن، فإن هذا ليس بمسافر باتفاق الناس، وإذا قدر أن هذا مسافر، فلو قدر أنه مسافر أقل من الميل بعشرة أذرع، فهو أيضًا مسافر، فالتحديد بالمسافة لا أصل له في شرع، ولا لغة، ولا عرف، ولا عقل، ولا يعرف عموم الناس مساحة الأرض، فلا يجعل ما يحتاج إليه عموم المسلمين معلقًا بشيء لا يعرفونه، ولم يمسح أحد الأرض على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، ولا قدر النبي صلى الله عليه وسلم الأرض لا بأميال، ولا فراسخ، والرجل قد يخرج من القرية إلى صحراء لحطب يأتي به، فيغيب اليومين والثلاثة فيكون مسافرًا، وإن كانت المسافة أقل من ميل، بخلاف من يذهب، ويرجع من يومه؛ فإنه لا يكون في ذلك مسافرًا، فإن الأول يأخذ الزاد والمزاد، بخلاف الثاني، فالمسافة القريبة في المدة الطويلة تكون سفرًا، والمسافة البعيدة في المدة القليلة لا تكون سفرًا، فالسفر يكون بالعمل الذي سمي سفرًا لأجله. والعمل لا يكون إلا في زمان، فإذا طال العمل وزمانه، فاحتاج إلى ما يحتاج إليه المسافر من الزاد والمزاد؛ سمي مسافرًا، وإن لم تكن المسافة بعيدة، وإذا قصر العمل والزمان بحيث لا يحتاج إلى زاد ومزاد لم يسم سفرًا، وإن بعدت المسافة، فالأصل هو العمل الذي يسمى سفرًا، ولا يكون العمل إلا في زمان؛ فيعتبر العمل الذي هو سفر، ولا يكون ذلك إلا في مكان يسفر عن الأماكن، وهذا مما يعرفه الناس بعاداتهم ليس له حد في الشرع، ولا اللغة، بل ما سموه سفرًا؛ فهو سفر. *** فصل وأما الإقامة، فهي خلاف السفر، فالناس رجلان: مقيم، ومسافر، ولهذا كانت أحكام الناس في الكتاب والسنة أحد هذين الحكمين: إما حكم مقيم، وإما حكم مسافر، وقد قال تعالى: {يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ} (النحل: ٨٠) , فجعل للناس يوم ظعن ويوم إقامة، والله تعالى أوجب الصوم، وقال: {فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} (البقرة: ١٨٤) ، فمن ليس مريضًا، ولا على سفر؛ فهو الصحيح المقيم، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله وضع عن المسافر الصوم، وشطر الصلاة) ، فمن لم يوضع عنه الصوم، وشطر الصلاة؛ فهو المقيم. وقد أقام النبي صلى الله عليه وسلم في حجته بمكة أربعة أيام، ثم ستة أيام بمنى ومزدلفة وعرفة يقصر الصلاة هو وأصحابه، فدل على أنهم كانوا مسافرين وأقام في غزوة الفتح تسعة عشر يومًا يقصر الصلاة، وأقام بتبوك عشرين يومًا يقصر الصلاة، ومعلوم بالعادة أن ما كان يفعل بمكة، وتبوك لم يكن ينقضي في ثلاثة أيام، ولا أربعة حتى يقال: إنه كان يقول: اليوم أسافر، غدًا أسافر؛ بل فتح مكة، وأهلها وما حولها كفار محاربون له، وهي أعظم مدينة فتحها، وبفتحها ذلت الأعداء وأسلمت العرب وسرى السرايا إلى النواحي ينتظر قدومهم، ومثل هذه الأمور مما يعلم أنها لا تنقضي في أربعة أيام، فعلم أنه أقام لأمور يعلم أنها لا تنقضي في أربعة، وكذلك في تبوك. وأيضًا فمن جعل للمقام حدًّا من الأيام إما ثلاثة وإما أربعة وإما عشرة وإما اثني عشر وإما خمسة عشر؛ فإنه قال قولاً لا دليل عليه من جهة الشرع، وهي تقديرات متقابلة، فقد تضمنت هذه الأقوال تقسيم الناس إلى ثلاثة أقسام: إلى مسافر، وإلى مقيم مستوطن، وهو الذي ينوي المقام في المكان، وهذا هو الذي تنعقد به الجمعة، وتجب عليه، وهذا يجب عليه إتمام الصلاة بلا نزاع، فإنه المقيم المقابل للمسافر، (والثالث) مقيم غير مستوطن أوجبوا عليه إتمام الصلاة والصيام، وأوجبوا عليه الجمعة، وقالوا: لا تنعقد به الجمعة، وقالوا: إنما تنعقد الجمعة بمستوطن. وهذا التقسيم - وهو تقسيم المقيم إلى مستوطن، وغير مستوطن - تقسيم لا دليل عليه من جهة الشرع، ولا دليل على أنها تجب على من لا تنعقد به، بل من وجبت عليه؛ انعقدت به، وهذا إنما قالوه لما أثبتوا مقيمًا يجب عليه الإتمام والصيام، ووجدوه غير مستوطن، فلم يمكن أن يقولوا: تنعقد به الجمعة، فإن الجمعة إنما تنعقد بالمستوطن، لكن إيجاب الجمعة على هذا، وإيجاب الصيام والإتمام على هذا هو الذي يقال: إنه لا دليل عليه، بل هو مخالف للشرع، فإن هذه حال النبي صلى الله عليه وسلم بمكة في غزوة الفتح، وفي حجة الوداع، وحاله بتبوك، بل وهذه حال جميع الحجيج الذين يقدمون مكة؛ ليقضوا مناسكهم، ثم يرجعوا، وقد يقدم الرجل بمكة رابع ذي الحجة، وقد يقدم قبل ذلك بيوم أو أيام، وقد يقدم بعد ذلك، وهم كلهم مسافرون لا تجب عليهم جمعة، ولا إتمام، والنبي صلى الله عليه وسلم قدم صبح رابعة من ذي الحجة، وكان يصلي ركعتين، لكن من أين لهم أنه لو قدم صبح ثالثة وثانية كان يتم، ويأمر أصحابه بالإتمام؟ ليس في قوله وعمله ما يدل على ذلك، ولو كان هذا حدًّا فاصلاً بين المقيم، والمسافر؛ لبينه للمسلمين كما قال تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُم مَّا يَتَّقُونَ} (التوبة: ١١٥) , والتمييز بين المقيم، والمسافر بنية أيام معدودة يقيمها ليس هو أمرًا معلومًا لا بشرع، ولا لغة، ولا عرف، وقد رخص النبي صلى الله عليه وسلم للمهاجر أن يقيم بمكة بعد قضاء نسكه ثلاثًا، والقصر في هذا جائز عند الجماعة، وقد سماه إقامة، ورخص للمهاجر أن يقيمها، فلو أراد المهاجر أن يقيم أكثر من ذلك بعد قضاء النسك لم يكن له ذلك، وليس في هذا ما يدل على أن هذه المدة فرق بين المسافر والمقيم، بل المهاجر ممنوع أن يقيم بمكة أكثر من ثلاث بعد قضاء المناسك. إن الثلاث مقدار يرخص فيه فيما كان محظور الجنس، قال صلى الله عليه وسلم: (لا يحل لامرأة تؤمن بالله، واليوم الآخر أن تحد على ميت فوق ثلاث إلا على زوج) ، وقال: (لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث) ، وجعل ما تحرم المرأة بعده من الطلاق ثلاثًا، فإذا طلقها ثلاث مرات؛ حرمت عليه حتى تنكح زوجًا غيره؛ لأن الطلاق في الأصل مكروه، فأبيح منه للحاجة ما تدعو إليه الحاجة، وحرمت عليه بعد ذلك إلى الغاية المذكورة، ثم المهاجر لو قدم مكة قبل الموسم بشهر؛ أقام إلى الموسم، فإن كان لم يبح له إلا فيما يكون سفرًا كانت إقامته إلى الموسم سفرًا، فتقصر فيه الصلاة، وأيضًا فالنبي صلى الله عليه وسلم، وأصحابه قدموا صبح رابعة من ذي الحجة، فلو أقاموا بمكة بعد قضاء النسك ثلاث؛ كان لهم ذلك، ولو أقاموا أكثر من ثلاث؛ لم يجز لهم ذلك، وجاز لغيرهم أن يقيم أكثر من ذلك، وقد أقام المهاجرون مع النبي صلى الله عليه وسلم عام الفتح قريبًا من عشرين يومًا بمكة، ولم يكونوا بذلك مقيمين إقامة خرجوا بها عن السفر، ولا كانوا ممنوعين؛ لأنهم كانوا مقيمين لأجل تمام الجهاد، وخرجوا منها إلى غزوة حنين , وهذا بخلاف من لا يقدم إلا للنسك، فإنه لا يحتاج إلى أكثر من ثلاث. فعلم أن هذا التحديد لا يتعلق بالقصر، ولا بتحديد السفر، والذين حدوا ذلك بأربعة؛ منهم من احتج بإقامة المهاجر، وجعل يوم الدخول والخروج غير محسوب، ومنهم من بنى ذلك على أن الأصل في كل من قدم المصر أن يكون مقيمًا يتم الصلاة، لكن ثبتت الأربعة بإقامة النبي صلى الله عليه وسلم في حجته، فإنه أقامها، وقصر، وقالوا في غزوة الفتح، وتبوك: إنه لم يكن عزم على إقامة مدة؛ لأنه كان يريد عام الفتح غزو حنين، وهذا الدليل مبني على أنه من قدم المصر، فقد خرج عن حد السفر، وهو ممنوع، بل هو مخالف للنص، والإجماع، والعرف، فإن التاجر الذي يقدم ليشتري سلعة، أو يبيعها، ويذهب هو مسافر عند الناس، وقد يشتري السلعة، ويبيعها في عدة أيام، ولا يحد الناس في ذلك حدًّا. والذين قالوا: يقصر إلى خمسة عشر، قالوا: هذا غاية ما قيل، وما زاد على ذلك، فهو مقيم بالإجماع، وليس الأمر كما قالوه، وأحمد أمر بالإتمام فيما زاد على الأربعة احتياطًا، واختلفت الرواية عنه إذا نوى إقامة إحدى وعشرين هل يتم، أو يقصر؟ لتردد الاجتهاد في صلاة النبي صلى الله عليه وسلم يوم الرابع، فإن كان صلى الفجر بمبيته، وهو ذو طوى , فإنما صلى بمكة عشرين صلاة، وإن كان صلى الصبح بمكة، فقد صلى بها إحدى وعشرين صلاة، والصحيح أنه إنما صلى الصبح يومئذ بذي طوى، ودخل مكة ضحى، كذلك جاء مصرحًا به في أحاديث، قال أحمد في رواية الأثرم: إذا عزم على أن يقيم أكثر من ذلك؛ أتم، واحتج بأن النبي صلى الله عليه وسلم قدم لصبح رابعة قال: فأقام اليوم الرابع، والخامس، والسادس، والسابع، وصلى الفجر بالأبطح يوم الثامن، وكان يقصر الصلاة في هذه الأيام، وقد أجمع على إقامتها، فإذا أجمع أن يقيم كما أقام النبي صلى الله عليه وسلم؛ قصر، فإذا أجمع على أكثر من ذلك؛ أتم، قال الأثرم: قلت له: فلم لم يقصر على ما زاد من ذلك؟ قال: لأنهم اختلفوا؛ فيؤخذ بالأحوط؛ فيتم , قال: قيل لأبي عبد الله: يقول: أخرج اليوم أخرج غداً ليقصر؟ فقال: هذا شيء آخر، هذا لم يعزم. فأحمد لم يذكر دليلاً على وجوب الإتمام إنما أخذ بالاحتياط، وهذا لا يقتضي الوجوب، وأيضًا، فإنه معارض بقول من يوجب القصر، ويجعله عزيمة في الزيادة، وقد روى الأثرم , حدثنا الفضل بن دكين , حدثنا مسعر , عن حبيب بن أبي ثابت , عن عبد الرحمن بن المسور قال: أقمنا مع سعد بعمّان - أو بعُمان - شهرين , فكان يصلي ركعتين , ونصلي أربعًا , فذكرنا ذلك له , فقال: (نحن أعلم) ، قال الأثرم: حدثنا سليمان أن ابن حرب حدثنا , عن أيوب , عن نافع أن ابن عمر أقام بأذربيجان ستة أشهر يصلي ركعتين وقد حال الثلج بينه وبين الدخول , قال بعضهم: والثلج الذي يتفق في هذه المدة يعلم أنه لا يذوب في أربعة أيام , فقد أجمع إقامة أكثر من أربع , قال الأثرم: حدثنا مسلم بن إبراهيم , حدثنا هشام، حدثنا يحيى , عن حفص بن عبيد الله أن أنس بن مالك أقام بالشام سنتين يقصر الصلاة. قال الأثرم: حدثنا الفضل بن دكين , حدثنا هشام , حدثنا ابن شهاب , عن سالم قال: كان ابن عمر إذا أقام بمكة؛ قصر الصلاة إلا أن يصلي مع الإمام وإن أقام شهرين إلا أن يجمع الإقامة , وابن عمر كان يقدم قبل الموسم بمدة طويلة حتى إنه كان أحيانًا يحرم بالحج من هلال ذي الحجة , وهو كان من المهاجرين , فما كان يحل له المقام بعد قضاء نسكه أكثر من ثلاث , ولهذا أوصى لما مات أن يدفن بسرف؛ لكونها من الحل حتى لا يدفن في الأرض التي هاجر منها، وقال الأثرم: حدثنا سليمان بن حرب , حدثنا حماد بن زيد , عن أيوب , عن نافع قال: ما كان ابن عمر يصلي بمكة إلا ركعتين إلا أن يرفع المقام، ولهذا أقام مرة ثنتي عشر يصلي ركعتين، وهو يريد الخروج , وهذا يبين أنه كان يصلي قبل الموسم ركعتين مع أنه نوى الإقامة إلى الموسم، وكان ابن عمر كثير الحج، وكان كثيرًا ما يأتي مكة قبل الموسم بمدة طويلة، قال الأثرم: حدثنا ابن الطباع , حدثنا القاسم بن موسى الفقير , عن عبد الرحمن بن ثابت بن ثوبان , عن أبيه , عن مكحول , عن ابن محيريز أن أبا أيوب الأنصاري , وأبا صرمة الأنصاري , وعقبة بن عامر شتوا بأرض الروم؛ فصاموا رمضان , وقاموه , وأتموا الصلاة، قال الأثرم: حدثنا قبيصة , حدثنا سفيان , عن منصور , عن أبي وائل قال: خرج مسروق إلى السلسلة؛ فقصر الصلاة , فأقام سنين يقصر حتى رجع , وهو يقصر , قيل: يا أبا عائشة ما يحملك على هذا؟ قال: (اتباع السنة) . للكلام بقية ((يتبع بمقال تالٍ))