للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: مستر كراين


محاضرة مستر كراين
عن جزيرة العرب - أو - الحجاز واليمن
في جمعية الرابطة الشرقية
(٣)
(يهود اليمن)
إن قسمًا يذكر من أهالي صنعاء يهود، وهم يسكنون في حي خاص بهم ,
ويقولون: إنهم لقرنين مضيا كان يؤذن لهم بالسكون فيها حيث أرادوا , ولكن الحاكم
في ذلك الحين أمر بذلك الفصل. وإنهم مع السماح لهم بالطواف أين شاؤوا لقضاء
الأعمال لم يكن يؤذن لهم بركوب غير الحمير من الدواب.
وقد زرت حيَّ اليهودِ هناك مرارًا عديدة وقابلت ربانيهم ومعابدهم فرأيتهم
كسائر مواطنيهم من أهل الفاقة؛ ولكنهم بفضل ما أوتوا من الحذق والقبض على
أزمة الحرف تراهم أرقى شيئًا من إخوانهم مما ينيلهم شيئًا من عطف الحكام مع
ما بينهم وبين المسلمين من بلوى التفرقة المذهبية.
وقد تعسر عليك التفرقة بين اليهودي والمسلم العربي لولا فارق من الشعر
يتحتم عليه اتخاذه شعارًا له.
ثم إن هناك مسألة تاريخية تتعلق باليهود , ولا سيما أول ظهورهم في اليمن ,
قال لي الإمام والشيوخ: إن اليهود كانوا في اليمن منذ فجر التاريخ , ويروى أن
(يارم) يعرب الملك الذي ملك قبل المسيح بألفي سنة فصل العبرية عن العربية ,
على أن الربانيين يقولون: إن اليهود أتوا إلى اليمن من أورشليم سنة ٢٠٠ قبل
المسيح تقريبًا.
وكنت حيث أذهب في اليمن نحو الجنوب؛ أجد يهودًا حتى في أحقر القرى ,
وأفقرها , وقد كان من بواعث دهشتي أني لقيت في قرية غاية في الفقر مبنية من
القش يهوديًّا مر عليه فيها ثلاث سنين في حالة لا بأس بها يشتغل فيها صائغًا , فلم
يكن ينجلي لي كيف يمكن وجود سوق للصياغة في مثل تلك القرية من بلاد الدنيا؟
ولكني فطنت للأمر لما علمت أن اليمينين مولعون بزينة واحدة تستهوي أفئدتهم ,
وهي الخناجر المنحنية ذات المقابض والأغماد المزينة أو المموهة بصنع الصياغ.
***
(أعمال الإمام العمرانية)
لقد وضح أن هم الإمام الأعظم هو جيشه العزيز , ومع ذلك فهو يقول: إنه
كثير العناية , والاهتمام بأمر التعليم - والحق أن ذلك على قياس ضئيل محدود -
وبإصلاح الطرق أيضًا. فقال لي: إنه أصدر الأوامر لكل حاكم مدينة أن يقوم
بشغل معين كل سنة يتعلق بإصلاح الطرق التي في نطاق حكمه , ويظهر أن بعض
الحكام أتوا شيئًا من هذا الإصلاح مع بناء الجسور (الكباري) , وكنا في طريقنا
إلى عدن نسلك في الأحايين آثارًا من طرق قديمة لا بد أن تكون قد بنيت بحذق ,
وحسن نظر قبل الإسلام بنحو ألفي سنة على ما قيل.
وفي سفرنا نحو الجنوب , وعلى إحدى طرق القوافل المستغرقة في القدم
الآتية من عدن إلى أورشليم كان من بواعث دهشتنا كثرة ما وجدنا من آثار التجارة ,
فكثيرًا ما كنا نمر وسط قافلة صغيرة من الجمال أو الحمير أو البغال وهي تسير
بغاية المشقة بسبب رداءة الطرق , فكان مشيها شديد الإيلام , والتعسر , وهي تتسلق
المسالك العالية الوعرة.
والظاهر أن من أسباب تلك التعسيرات في الطرق هو أن يجعلوها صعبة
السلوك على الأجانب الذين يقصدن تلك الجهات.
***
(من كلامي في وداع الإمام)
في حديثي الأخير مع الإمام قبل الوداع تكلمنا في كثير من الشؤون المتعلقة
ببلاده عسى أن أجد شيئًا أستطيع فيه خدمة ما له، فذكر أنه يوجد في اليمن قدر
وافر من المعادن الثمنية , وأنه يرغب في الحصول على أهل العلم الواسع في
المعدنيات؛ ليقوموا بدرس الموجود فيها.
إنه يعسر جدًّا على هؤلاء الفقراء أن يزيدوا كثيرًا على ما عندهم من أدوات
الزينة , وكل ما يأتونه من الجهود العقلية في هذا السبيل يؤسف له , ويرثى؛ فإن
الجندي هناك شديد الولوع بأن يشكل في وعاء رأسه عذقًا صغيرًا أخضر اللون،
وأما الرجال والنساء، فلرغبتهم في زيادة التجمل؛ كثيرًا ما يلجؤون إلى النيلة , وما
تجديهم إلا قليلاً.
إن حاكم (صعدة) السابق المؤتلف الآن مع الإمام أنبأنا أن في (صعدة) ,
وحولها اعتاد الناس من قرون أن يرقصوا نوعين من الرقص يشترك فيها الرجال ,
والنساء يشبهان نوعين آخرين من رقص أهل الغرب.
يوجد في اليمن جنسان آخران من الشعوب , أو القبائل غير اليهود (أحدهما)
يزعم أنه من سلالة قحطان , أو (يقطن) , وهو من أخلص الأجناس البشرية،
حسن البنية والشكل، وقوي البأس، عادم اللحية، ربعة القوام , عريض الجهة،
يميل جلده إلى اللون النحاسي على اختلاف في المقدار، وآحاد هذه القبيلة يقلون من
الملابس بحكم البيئة حتى إن شيوخهم ومقدميهم الذين يذهبون إلى عدن يضطرون
اضطرارًا إلى زيادة شيء من الملابس المصنوعة لهذا الغرض , وأما الجنس
الثاني , فإنسانه أطول قامة , وعليه مسحة من الجمال , وتراه على الغالب كامل
اللحية كثير الملابس.
ولما كانت درجة الحرارة الجوية واحدة في كل من البقعتين؛ نرى أن مذهب
الفيلسوف هربوت سنبسر تنجلي حقيقته في حال هذا الشعب , (وهو أن الزينة
تسبق الاكتساء) , وأما أصل هذا الجنس الثاني فيقال: إنه من ذرية إسماعيل صلى
الله عليه وسلم، وإنه أتى من الشمال , وإن دمه ودم اليهود مشتركان.
***
(همة اليمني في العمل)
إن اليمني بما يتيسر له من عدة العمل الحاضرة؛ يمكنه زيادة إنتاجه بكده ,
وكدحه في العمل الذي يمتد من شروق الشمس إلى غروبها حالة كون الأميركي بما
له من تفوق العدة , والأدوات تقدر قوته قوة أربعين حصانًا , أو ما يعادل ٢٥٠ من
قوة اليمني , وتكون نتاج عمله على هذه النسبة.
وإن من اعتاد حياة الغرب ليحار في هذا السؤال وهو: كيف يتأتى لشعب
كأهل اليمن أن يعيشوا في بيئة كبيئته حيث أحوال الحياة تكاد تكون واحدة للإنسان ,
والحيوان؟ وكيف يستطيعون تحمل مشاقها وشظفها؟ لكنا بالرغم من ذلك كله نراهم
عائشين مع قلة وسائل العيشة والراحة ونصب العمل دون أن تبدو منهم أمارات
الشكوى المؤلمة، ولقد انقضى على سكان اليمن القرون وهم في هذه الحالة من بؤس
العيش وخلوهم من مادة البقاء لا يدرون شيئًا من حالة غيرهم في أمور المعيشة ,
ومع ذلك تراهم على الجملة قانعين راضين يحمون أرضهم وحكومتهم التي منها
وعن يدها تنتج لهم هذه الأحوال.
أما بلاد الغرب , فهي مع وجود أسباب الراحة , والهناء حتى لا أقول:
معدات اللذات , والمسرات؛ ترى الناس لا ينقطعون عن التشكي , والتبرم من
أحوالهم , وهم أبدًا على قدم الانفجار , والقيام بإيقاد نيران الثورات كلما أتاحت لهم
الفرصة , وأتاحت لهم الأقدار ذلك.
إن سكان الجبال في جميع الأرض معروفون بحب الاستقلال , وإيثاره على
كل ما سواه من أمور الحياة , مشهورون بقوة البدن , وشدة البأس على نسبة بيئتهم ,
وشظف حياتها , ومما يحسن ذكره ووقعه على الخواطر أني لقيت رجلين يمنيين:
أحدهما يهودي , والآخر مسلم زارا أميركا , وبعد أن أقاما فيها عدة أعوام غلبهما
الحنين إلى تلك الجبال اليمنية التي ولدا فيها ورضعا لبانها وغذيا بهوائها ومائها؛
وإذ جد بهما الوجد واستحكم الهيام؛ عادا أخيرًا إلى تلك الربوع؛ ليقضيا فيها ما
كتب لهما من بقية العمر.
ثم إن اليمنيين لم يكونوا يطيقون حكم الأتراك بحال , ولا بوجه من الوجوه ,
فلم يحولوا عن الاعتقاد بأن إمامهم هو الخليفة الحقيقي , وأن لا خليفة إلا من تحدر
من ذرية النبي صلى الله عليه وسلم.
على أن هناك من ذراريه قومًا يدعون بالأسياد (على ما تعلمون) .
***
(الطب والعلاج في اليمن)
ليس في اليمن شيء يسمى دواءً وطبًّا حتى أن أحقر عشبة من أعشاب الأرض
التي يتداوى بها أحيانًا غير معروفة , فإذا أصيب أحدهم بألم؛ لم يجد مفرًّا من
تحمله، وإذا غلبته عادية الداء؛ قضى نحبه بحكم الطبع بلا علاج , ولا دواء.
على أن هناك عشبة يغلب استعمالها عندهم هي (القات) , فقد أتي بها من
بلاد الحبشة أيام أتي بشجرة القهوة أيضًا.
وعلى مقربة من ساحل البحر مدينة أشهر , فيها شجرتان غرستا فيها في بادئ
الأمر , وهما شجرة (القات) , وشجرة (القهوة) , وقد تمكنت في اليمني عادة
كعادة الإنكليز , وهي أنهم في نحو الساعة الرابعة من ظهر كل يوم يجلسون
جماعات؛ لتناول (القات) ؛ إذ يعدونه ممضوغًا منبهًا , ويزيدونه بهجة ولذة
بتعاطي أقداح الحديث كما يتعاطى الندامى كؤوس المدام.
ومع ما في هذا النبات من أذى إضعاف الأعصاب , فإن كل يمني حتى
الجندي العادي على أجره الذي لا يستحق الذكر يجتهد في اقتصاد شيء ما في سبيل
تناول (القات) وكأن ذلك يذكرنا بعادة الكوكايين عند أهل الغرب.
***
(عند ولادة الأولاد)
إن طريقة ولادة الأم في اليمن شديدة القسوة , فالأمر الوحيد المساعد لها حينئذٍ
هو الإتيان بمن ترقص على بطن المتألمة البائسة مدة المخاض , ومع كثرة النسل ,
فإن متوسط الوفيات منهم وافر جدًّا , وقد قال لي أحد حكام المدن الكبيرة: إنه قد
فقد ٢٢ صبيًّا وهو عدد يستحق الذكر ويستلفت الأنظار حتى في أسرة عادية
أمريكية , ومع ذلك فقد أبقت له العناية ثمانية أولاد على حالة حسنة من الصحة.