للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

مسار الصفحة الحالية:

الكاتب: محمد رشيد رضا


رد المنار

المسائل الاجتماعية والسياسية التي يبحث فيها عن أحوال الأمم وطبائعها
وأسباب ترقيها وتدليها وحياتها وموتها؛ هي أعلى وأرقى وأعوص مسائل العلوم
البشرية كلها، ولا سيما إذا كان فهمها يتوقف على معرفة الباحث دين الأمة التي
يبحث عن أحوالها؛ وفقه أصوله والاستقاء من ينبوعه الأول كالأمة الإسلامية.
والمناظرة في هذه المسائل أصعب من المناظرة في سائر العلوم والفنون؛
لأسباب منها أن كل أحد يظن أنه يعرف حقها وباطلها، وقل من يعرف ذلك،
ومنها أن تحرير محل النزاع عسير ولا سيما بالكتابة في لغتين أو لغة واحدة
يتفاوت المتناظران في فهمها، فلهذا وذاك نرى أن مناظرة رصيفتنا الغراء (مجلة
دين ومعيشت) لنا في هذه المسألة من المشكلات؛ لأن ما يترجمه لنا عنها أهل
لسانها من التتار الذين يطلبون العلم عندنا؛ يدلنا على أن محرريها لا يفهمون كلامنا
حق الفهم، بل نراها تخطئ فيه خطأ تستند إلينا به ما لم يخطر لنا على بال وقد
كتبت هي أيضًا في عبارة ترجمت لنا عنها أن الترجمة كانت خطأ. وههنا نقول:
إننا جعلنا التقليد والتشيع هو سبب استيلاء الأجانب على بلاد الإسلام، ويظهر أنها
فهمت أنه هو السبب المباشر لهذا المسبب، وقد أخطأت في هذا الفهم كما أخطأت
في جزمها بأننا ولدنا في مصر وتربينا في قبضة الإنكليز، وفي قولها إن مصر
وقعت في قبضة الإنكليز بسبب حب الرياسة، ومع هذا كله لا بد أن نكتب في هذه
المسألة المهمة (أسباب اختلاف المسلمين وضعفهم واستيلاء الأجانب عليهم) ما
ترجى فائدته في التفاهم بيننا وفي إيقاظ أمتنا من نومها، وأو تنبيهها من غفلتها عن
نفسها، فنقول:
(١) إن لضعفنا الذي كان سبب استيلاء الأجانب علينا أسبابًا كثيرة، من
أطال النظر في بعضها دون بعض يمكنه أن يطيل القول في جعله هو السبب دون
غيره، فيكون خطأه في الحصر فقط، ويكون هذا الخطأ فاحشًا إذا كان السبب
المحصور فيه من الأسباب الفرعية غير الرئيسية؛ كحب الرياسة الذي عدته
رفيقتنا للضعف بذاته لما وجدت دولة قوية، وإننا نذكر من الأسباب التي يمكن
للمرء أن يطيل في بيان كونها المضعفة للأمة خلق الحسد الذي يغري محبي الرياسة
بالبغي على من يسبقهم إلى ما تصبو إليه نفوسهم؛ أو يرونها أحق به ممن ناله
دونهم، فالذي يظهر لنا أن عليًّا كرم الله وجهه كان يرى أنه أحق الناس بإمامة هذه
الأمة بعد نبيها صلى الله عليه وسلم، ولكنه لم يبغ على من سبقه إلى ذلك كما بغى
عليه معاوية، ولا خلاف في كون خروج معاوية على أمير المؤمنين هو الصدمة
الأولى التي أصابت الإسلام، فكانت علة العلل لكل ما جاء بعدها من أسباب
الضعف، فذلك أن تقول: إن ذلك البغي علته الحسد؛ لأن من لا يحسد صاحب
النعمة لا يبغي عليه؛ ولذلك ورد في الحديث (وإذا حسدت فلا تبغ) رواه ابن
أبي الدنيا من حديث أبي هريرة بسند ضعيف ورسته عن الحسن مرسلاً،
والحسد كما يقع بين الأفراد يقع بين الأمم وأهل الملل كما ورد في تفسير] أَمْ
يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ [ ... الآية؛ أنها أنزلت في حسد اليهود
للعرب أن بعث نبي آخر الزمان منهم، وعلى هذا يمكنك أن تقول: إن الحروب
التي وقعت بين الشعوب الإسلامية كان سببها الحسد.
(ومنها) أي أسباب ضعف المسلمين عدم وضع نظام سياسي للخلافة وشكل
الحكومة تكفله الأمة، وهذا ما يرجحه أكثر الباحثين في السياسة اليوم.
(منها) أنهم لم يوفقوا إلى تأليف جند دائم بنظام يكفل طاعته لأولي الأمر؛
كالنظام المعروف اليوم.
(ومنها) وهو أعمها الجهل بعلم الاجتماع والسياسة والفنون التي عليها مدار
القوة، وهو الذي أزال ممالكنا في هذا القرن وما قبله لا التعصب الجنسي ولا حب
الرياسة، وسبب هذا الجهل جمودنا على التقليد الذي أضعف عقولنا لعدم الاستقلال
في استعمالها، وأضعف رابطتنا الدينية ووحدتنا العامة.
ومنها غير ذلك من الأسباب الاجتماعية والدينية التي بحثنا فيها من قبل،
وبحث غيرنا من الناس كثيرًا، وناهيك بما جمع من تلك الأبحاث في سجل جمعية
أم القرى، وغرضنا من هذه الأمثلة أن نبين أن ما بيناه من ضرر اختلاف الأمة
في دينها وتفرقها إلى مذاهب وكونه من أسباب ضعفها، لا ينافي ما جاء في مجلة
(دين ومعيشت) من ضرر العصبية الجنسية وحب الرياسة، وكونها من أسباب
ضعف المسلمين، ونحن لم نحصر جميع الحروب والفتن بين المسلمين في
الاختلاف والتقليد كما حصرها أصحاب تلك المجلة في التعصب للجنسية والقومية
(وهم يعبرون عن ذلك بالملية كالترك والفرس، فقد استعملوا الملة بغير معناها
الشرعي واللغوي) وفي حب الرياسة.
(٢) أخطأت أختنا مجلة دين ومعيشت فيما ذكرته من الشواهد التي استدلت
بها على ما ذهبت إليه، أخطأت في قولها: إن الخلاف الضار والتقاليد حدث في
الأمة قبل التشيع، والصواب أن التشيع حدث في القرن الأول، وأخطأت في
قولها: إن العصبية الجنسية هي التي كانت سبب الحروب بين المسلمين في القرون
الأولى، وأنه لم يكن للتشيع والمذاهب أدنى تأثير فيها، والصواب أن سم العصبية
الجنسية والقومية لم يسر في المسلمين في تلك القرون سريانًا قويًّا يؤثر فيها، وقد
كنا بينا ما فعله زنادقة الفرس بسائق هذه العصبية من الإفساد في الإسلام ومحاولة
رد أهله عنه وإزالة ملكه، وكونهم ألبسوا ذلك لباس الدين وبثوه في شيعة عليّ
وأبنائه آل بيت الرسول عليهم السلام، التي تفضلهم على بني أمية الباغين
الجائرين، وكانت هذه الشيعة مؤلفة من خيار المؤمنين، فسرى بعد ذلك إلى عامتها
الغافلة بعض دسائس أولئك الزنادقة، وما أحدثوا من تعاليم الباطنية الكفرية ولكن
المسلمين الصادقين من العرب والعجم لم يفطنوا لدسيستهم، وظلت أخوة الإسلام
جامعة بينهم، ولا يستثقل عربي إمارة عجمي ولا مشيخته، وكانوا كلهم يتعاونون
على نقد ما وضعه الزنادقة من الأحاديث وما بثوه من البدع وروجوه بزعمهم أنه
مذهب شيعة آل البيت الطاهرين، وقد كانت الحروب والفتن التي أثارها الباطنية
من القرامطة والإسماعيلية وغيرهم تشب نيرانها باختلافه التعاليم الدينية لا
باختلاف الجنسية والقومية. والعبيديون ما استولوا على مصر وأسسوا ملكهم باسم
الجنسية بل باسم المذهب، وما أزال ملكهم صلاح الدين الأيوبي بالعصبية الجنسية
والقومية بل بعصبية المذهب، ولم يكن أحد من العرب يكره حكم نور الدين التركي
ولا صلاح الدين الكردي، ولا يخطر في باله أنه من غير قومه، بل لا يزال
العرب يعدونهما خير خلف للخلفاء الراشدين.
نعم.. إن فتنة العصبية الجنسية الجاهلية قد أضرت بالدولة العثمانية كما بينا
ذلك مرارًا بالنقد المر، ومع هذا نقول على علم وخبر: إن عرب اليمن وحوران
لم يقاتلوا الدولة ولم يعصوها؛ لاختلاف الجنس والعنصر. فأما أهل اليمن فهم
يدافعون الدولة ويحاربونها عندما تحاربهم؛ لاختلاف المذهب ولظلم رجال الدولة
وإفسادهم هنالك، كما اعترف كتاب الترك بذلك في جرائدهم في أثناء الفتنة الأخيرة
في هذا العام، ولم يكن اليمانيون هم البادئين في الحرب الأخيرة، بل كان الإمام
يطلب الاتفاق مع الدولة. ومذهب الزيدية الذين جل تلك الحروب معهم وجوب
الخروج على أهل الجور وقتالهم، وأما دروز حوران فهم على كونهم من الباطنية
لم يعصوا الدولة؛ لأنها تركية وهم عرب، والقتال بينهم وبين العرب الخلص
المجاورين لهم مستمر، وإنما تحرشت بهم الحكومة لتستريح من شقاوتهم وكثرة
اعتدائهم على من حولهم، ولم يكن تحرشها بهم من حسن الإدارة في شيء إذا كان
يمكن إخضاعهم بحسن السياسة؛ كما يعرف الخبيرون من رجال الدولة، وكذلك
أخطأت في تلك الفعلة الشنعاء في الكرك.
إنني أرى تأثير الإسلام في إزالة عصبية العرب القومية لا يزال أقوى من
تأثيره في إزالة عصبية غيرهم من المسلمين، فأهل جزيرة العرب الذين لم يروا
من الدولة خيرًا قط، وإنما رأوا منها الغارات الشعواء، وسفك الدماء، يودون لو
يفدونها بأرواحهم، ويتمنون لو توفق إلى إدارة بلادهم بإقامة حكم الشرع فيها، مع
كونهم لم يتعودوا الخضوع لسلطة غريب عنهم، فهم من أعرق أهل الأرض في
الاستقلال، ولو كان أهل اليمن يكرهون سلطة الترك؛ لأجل العصبية الجنسية
لخرجوا عليهم في هذا الوقت الذي لا تستطيع الدولة أن ترسل فيه إليهم جندًا،
ولكنهم في هذا الوقت عرضوا أنفسهم واستعدوا لبذل أرواحهم في الحرب مع الدولة
التي لم يروا منها خيرًا قط، وما ذلك إلا لأن رابطة الإسلام فيهم أقوى من رابطة
الجنسية والقومية.
نعم.. إن الأرنؤط يطلبون ما يطلبون باسم العصبية القومية، وما ألجأهم إلى
ذلك إلا سوء سياسة المتفرنجين في الآستانة الذين يحاولون تتريكهم بالقوة القاهرة،
ولو جروا معهم على سنة الإسلام؛ لما كان للعصبية الجنسية أثر يذكر فيهم.
(٣) أخطأت رصيفتنا أيضًا فيما أشارت إليه من سبب احتلال الإنكليز
لمصر كما أخطأت في قولها عن صاحب المنار: إنه ولد في مصر وتربى فيها،
كما قلنا في أول هذا الرد، ونزيد هنا أن زمن وجودنا بمصر هو أربع عشرة سنة
كعمر المنار ويزيد أشهرًا، وأنه لم تكن العصبية الجنسية ولا حب الرياسة سبب
دخول الإنكليز في مصر؛ وإنما سببه سوء إدارة إسماعيل باشا وضعف توفيق باشا،
فالأول أغرق البلاد بالديون وجعل إنكلترة وفرنسة رقيبتين على حكومته، حتى
أدى ذلك إلى خلعه، والثاني أحدث حركة عسكرية ليتخلص بها من وزارة رياض
باشا، ولم يستطع تسكينها فاستعان بالإنكليز عليها. وليس هذا محل شرح ذلك،
أفرأيتم أيها الرصفاء كيف تبنون أحكامكم على أسس من الرمل لا تمسك بناء ولا
تحقق رجاء.
وبعد هذه الإشارة الوجيزة والتذكرة المختصرة، أقول: إنني صرحت في
الكلام على ذلك الحديث؛ بعد بيان أنه لا يصح بأن أهون الاختلاف الأمة اختلاف
السلف في فهم أحكام الدين؛ ومنهم علماء الأمصار كأئمة الفقه المشهورين: أبي
حنيفة ومالك والشافعي وأحمد وغيرهم (رحمهم الله تعالى ورضي عنهم)
وقلت: إن مثل هذا الاختلاف طبيعي لا ضرر فيه، ثم بينت أن ضرر الاختلاف
في الدين قد نجم في دور التشيع والتعصب، وكان من أسباب ضعف الأمة الذي
فرق شملها حتى صارت إلى ما نحن فيه، ولم أقل: إن الضعف زوال الممالك لا
سبب له إلا الاختلاف والتشيع، على أن من يقول هذا لا يعجزه أن يستدل عليه،
وبيان ذلك حتى يصعب المراء الظاهر فيه يطول، وليس هذا محل التطويل، وإنما
هو محل التذكير، فنذكر إخواننا الفضلاء أصحاب تلك المجلة وغيرهم من القراء
ببعض المسائل في ذلك فنقول:
إن كتاب الله تعالى قد بين في آيات كثيرة ضرر الاختلاف والتفرق ولا سيما
في الدين، وتوعد على هذا بمثل ما يتوعد على الكفر، حتى صرح بأن الذين
يكونون شيعًا وفرقًا في الدين هم برآء من النبي صلى الله عليه وسلم، وقد بينا هذا
مرارًا في التفسير وغير التفسير تارات بالإطناب وتارات بالإيجاز.
إن النبي صلى الله عليه وسلم بين مثل ذلك في قوله وعمله، حتى لم يكن
يغضب لشيء كما يغضب إذا رأى الاختلاف بين أصحابه قد أفضى أو كاد يفضي
إلى التفرق؛ وانتصار كل طائفة لرأي، والنقول في ذلك كثيرة وفيما يقابله من
الأمر بالاتفاق والاعتصام كثيرة جدًا.
إن السلف الصالحين كانوا يتحرون هذا الهدي النبوي، ويحذرون من إفضاء
الخلاف في الفهم؛ وهو طبيعي لا مندوحة عنه إلى التفرق والتشيع المحظور،
حتى إن الشافعي ترك القنوت في الصبح عندما صلى في مسجد أبي حنيفة مع
أصحابه ببغداد، ورأى أن ترك سنة غير مجمع عليها مرة (أو أكثر) أهون من
مخالفة جماعة من المسلمين؛ أداهم اجتهادهم إلى عدم سنيتها. وقد خفي هذا على
من علل ذلك بأنه ترك القنوت تأدبًا مع أبي حنيفة وهو في قبره إذ لا يعقل أن يترك
مثل الشافعي سنة الرسول تأدبًا مع أحد الناس، وخفي أيضًا على من زعم أن
اجتهاده في المسألة تغير في ذلك الوقت ثم عاد، وهذا بعيد أيضًا كبعد الأرض عن
السماء. وأما ما قلناه فهو معهود من السلف، يترك الواحد اجتهاده والعمل بظنه في
مثل هذه المندوبات؛ ليوافق الجماعة الذين خالف اجتهادهم اجتهاده فيه إذا كان
عمله به يظهر به الاختلاف والتفرق؛ كالقنوت وتكبيرات صلاة العيد، وإلا عمل
كل باجتهاد نفسه وعذر الآخر في اجتهاده. ومن هذا الباب جواب الإمام أحمد لمن
سأله: أيصلي من لم يتوضأ من خروج الدم، وكان يرى الوضوء منه، قيل له:
فإن كان الإمام قد خرج منه الدم ولم يتوضأ هل تصلي خلفه؟ فقال كيف لا أصلي
خلف الإمام مالك وسعيد بن المسيب، وكان مالك قد أفتى هارون الرشيد بأنه لا
وضوء عليه إذا هو احتجم، فصلى يومًا بعد الحجامة، وصلى خلفه أبو يوسف ولم
يعد الصلاة، وقال بعض الفقهاء: إن من علم أن الإمام مخالف له في اجتهاده أو
تقليده في مثل ذلك لا يصلي خلفه، وجعلوا المسألة خلافية وصوروها بقولهم: هل
العبرة برأي الإمام أم برأي المأموم؟ وفرقوا بين المؤمنين في ذلك وغيره، حتى
إنهم صاروا يعقدون في بيت الله تعالى بمكة وفي سائر المساجد عدة جماعات في
وقت واحد، ولا يرون في هذا بأسًا وإن خالفوا السنة وعمل السلف؛ لأجل تمتع
أئمة الصلوات بالرواتب الموقوفة عليهم.
يري أصحاب مجلة (دين ومعيشت) أن هذا الخلاف والتفرق لا ضرر فيه،
وأنه لم يترتب عليه حرب ولا عداء، ولم ينكره أحد من العلماء في كل هذه
الأعصار، وكتب التاريخ ومصنفات أشهر العلماء الإعلام ترد رأيهم هذا وتنقضه
عروة عروة.
لا يماري أحد فيما جرى بين المسلمين من الفتن والحروب باختلاف أهل
السنة مع الخوارج والشيعة؛ ومنها فتنة ابن العلقمي المشهورة، وآخرها ما جرى
بين العثمانيين مع شيعة إيران الإمامية ومع شيعة اليمن الزيدية فلا نخوض في هذا،
بل نشير الآن إلى بعض الفتن التي شوهت التاريخ باختلاف أهل المذاهب الفقهية
الحنفية والشافعية والحنبلية، ومن أخذ مثل تاريخ الكامل لابن الأثير وتصفح
فهرسه، يستخرج من كل مجلد عدة فتن ولا سيما في بغداد.
أثبت لنا التاريخ أن إغارة التتار على المسلمين، قد كانت أول مزلزل لقوتهم
وخاضد لشوكتهم، وأنه كان للعداوة بين الشافعية والحنفية يد في إغراء التتار
الوثنيين بالمسلمين وتنكيلهم بهم، وكانوا قد كادوا يعودون أدراجهم، بعد إخضاعهم
الأعاجم وأخذ البلاد منهم، وموت ملكهم وقائدهم جنكيز خان، وعجزهم عن فتح
أصبهان الإسلامية، قال ابن أبي الحديد في (ص٣٢٩) من الجزء الثاني من
شرحه على نهج البلاغة: (المطبوع بمصر) ما نصه:
(ورجع جنكيز خان إلى ما وراء النهر وتوفي هنالك، وقام بعده ابنه قاآن
مقامه، وثبت جرماغون في مكانه بآذربيجان، ولم يبق لهم إلا أصبهان، فإنهم
نزلوا عليها مرارًا في سنة ٦٢٧ وحاربهم أهلها، وقتل من الفريقين مقتلة عظيمة،
ولم يبلغوا منها غرضًا، حتى اختلف أهل أصبهان في سنة ٦٣٣ وهم طائفتان
حنفية وشافعية وبينهم حروب متصلة وعصبية ظاهرة، فخرج قوم من أصحاب
الشافعي إلى من يجاورهم ويتاخمهم من ممالك التتار، فقالوا لهم: اقصدوا البلد
حتى نسلمه إليكم، فنقل ذلك إلى قاآن بن جنكيز خان بعد وفاة أبيه والملك يومئذ
منوط بتدبيره، فأرسل جيوشًا من المدينة المستجدة التي بنوها وسموها (قراحرقم)
فعبرت جيحون مغربة، وانضم إليها قوم ممن أرسله جرماغون على هيأة المدد
لهم، فنزلوا أصفهان في سنة ٢٣ المذكورة وحصروها. فاختلف سيفا الشافعية
والحنفية في المدينة، حتى قتل كثير منهم، وفتحت أبواب المدينة فتحها الشافعية
على عهد بينهم وبين التتار؛ أن يقتلوا الحنفية ويعفو عن الشافعية، فلما دخلوا البلد
بدأوا بالشافعية فقتلوهم قتلاً ذريعًا، ولم يقفوا مع العهد الذي عهدوه لهم، ثم قتلوا
الحنفية ثم قتلوا سائر الناس، وسبوا النساء وشقوا بطون الحبالى، ونهبوا الأموال
وصادروا الأغنياء، ثم أضرموا النار فأحرقوا أصبهان، حتى صارت تلولا من
رماد) اهـ.
ومن فضائح الخلاف بين الشافعية والحنفية؛ ما ذكره المؤرخون في خبر
انتقال ابن السمعاني من مذهب أبي حنيفة إلى مذهب الشافعي، وما جرى من
التعصبات والمطاعن والفتن، حتى إن ابن السبكي لم يستحِ من نقل الرؤى التي
تقدمت ذلك، ومنها أنه لما اختلج في ذهنه تقليد الشافعي وتردد فيه، رأى رب
العزة جل جلاله في النوم فقال له: (عد إلينا أبا المظفر) قال: فانتبهت وعلمت
أنه يريد مذهب الشافعي فرجعت إليه! ! فهذا العالم العلامة من المقلدين الذين قالوا
عنه إنه شافعي وقته، قد فهم من الرؤيا التي رآها أن الله تعالى يريد بقوله له:
(عد إلينا) الرجوع عن مذهب أبي حنيفة الذي مكث ثلاثين سنة يناظر علماء
الشافعية في ترجيحه على مذهبهم؛ ويتقلد مذهب الشافعي الذي كان يجتهد تلك المدة
كلها في إبطال ما خالف الحنفية منه، ويؤخذ من هذا الفهم أنه كان يرى أن مذهب
أبي حنيفة بعيدًا عن الله وعن مرضاته كأنه ليس من دينه في شيء، أي كان هذا
منه وهو متقلد له، ولماذا لم يفهم من العودة إلى الله العودة إلى الأصل دينه من
كتابه المنزل وسنة نبيه المرسل، ومن غير شوب لهما بظنون الحنفية والشافعية
جميعًا؟
المراد من الإشارة إلى هذه الواقعة من وقائع تعصبات المذاهب وتفرقها بين
السلمين؛ هو بيان أن كبار المقلدين كانوا يعبرون عن المخالفين لهم في المذهب
بمثل ما يعبرون به عن المخالفين لهم في أصل الدين وإن لم يصرحوا بتكفيرهم
بلفظ الكفر والردة، ومن ذلك قول بعض الحنفية: إنه يجوز للحنفي أن يتزوج
البنت الشافعية قياسًا على الذمية! ! بل غلا بعضهم وصرح بالتكفير، ولا يزال
هذا التعصب شديدًا في بعض بلاد الأعاجم كالهند وغيرها على ضعف المذاهب كلها،
ولا تخلوا البلاد العربية من نزغات في ذلك، فقد قال أحد متفقهة الحنفية في
طرابلس الشام في درسه مرة إنه لا يصلي خلف إمام شافعي؛ لأن الشافعية يشكون
في إيمانهم (أي إن علماءهم أجازوا أن يقول المؤمن: أنا مؤمن إن شاء الله)
فذهب بعض الشافعية إلى المفتي، وقال له: اقسم المساجد بيننا وبين الحنفية،
فانتهر المفتي ذلك الحنفي وأطفأ الفتنة، ولعل مصر الآن أشد بلاد الإسلام تساهلاً
وأقلها تعصبًا في ذلك.
تقول مجلة (دين ومعيشت) : إن العلماء قد أقروا خلاف المذاهب الموروثة
وعدوه رحمة، كما ورود في الحديث فلم يكره أحد وهذا غير صحيح؛ فإن العلماء
النابغين المستقلين قد أنكروا ذلك في كل عصر، وحثوا المسلمين على هداية الكتاب
والسنة، وترى في هذا الجزء كلامًا لفقيه شافعي مستقل في ذلك، ولكن ضاع أكثر
أقوالهم في الجماهير التي غلب عليها الجهل والمشتغلين بمدارسة هذه المذاهب؛
لأجل الأوقاف التي حبست على المنتمين إليها، والمناصب التي يخصهم بها الملوك
والأمراء، فلولا الأمراء والسلاطين والأوقاف التي وقفوها على المشتغلين بهذه
المناصب اندرست كما اندرس غيرها، بل لما وجدت بهذه الصفة، وإنما كان
يحفظ منها مثل ما حفظ من مذهب الثوري والأوزاعي وأضرابهم، وهو أقوال
الأئمة ودلائلهم تذكر في شروح الحديث وكتب الفقه التي لا تجيز فيها إلى فئة، ولا
افتراق فيها بين جماعة المسلمين، وهؤلاء المقلدون للمذاهب المتعصبون لها لأجل
ما ذكر، لا يعدون من العلماء حقيقة وإن عدوا منهم عرفًَا، وكان السلف يعبرون
عن المقلد بالجاهل مهما اشتغل بالعلم، وعن المجتهد بالعالم، وترى مثل هذا في
الهداية وشروحها من كتب الحنفية في أحكام القضاء والإفتاء، على أن مقلدي كل
مذهب أنكروا مسائل الخلاف في غير مذهبهم، فكان لنا من مجموع أقوالهم إنكار
جميع ما اختلف فيه، ولا يمكن الترجيح بينهم إلا بالرجوع إلى الأصل الذي أمرنا
الله به في قوله: {فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} (النساء:
٥٩) كما كان يفعل السلف الصالح رضي الله عنهم.
كان المسلمون في خير القرون أمة واحدة، وكان العلماء فيهم أدلاء ونقلة لدين
الله لا يدون ظن أحد منهم (اجتهاده) في المسائل؛ ليتخذ دينًا يدعي إليه ويلتزم
دون غيره، وكان سبب انتشار هذه المذاهب تعين الحكام من أهلها، ثم انتماء
الملوك والأمراء إليها، فلو بقيت دولة العبيدية في مصر لصار جميع أهلها أو
أكثرهم شيعة ثم باطنية، ولولا تعقب السلطان صلاح الدين لمذهبهم وتعمد محوه
واستبدال مذهب الشافعية وكذا المالكية به؛ لما صار أكثر أهل مصر شافعية
والكثير منهم مالكية كما بين ذلك المقريزي في خططه، ولولا استيلاء العثمانيين
وأسرة محمد علي باشا على مصر وهم حنفية، وجعلهم القضاة والحكام من أهل
مذهبهم؛ لما كثر علماء الحنفية في الأزهر وانتشر مذهبهم في هذه البلاد، فملوك
الدنيا ومناصب الدنيا ومتاع الدنيا وزينة الدنيا وجاه الدنيا هي التي قررت هذا
الخلاف بين المسلمين وحفظته ونصرته؛ كما بين ذلك الإمام الغزالي في كتاب العلم
من الربع الأول من إحياء علوم الدين، وحسبك أن تراجع منه الباب الرابع الذي
عقده لبيان (إقبال الخلق على علم الخلاف) فإنه صرح فيه بنحو ما ذكرناه آنفًا
وبينه كما بينه غيره من العلماء والمؤرخين.
وما زال علماء الدنيا - أو علماء السوء كما يقول الغزالي - يؤيدون الحكام
الظالمين في كل حين لأجل المال والجاه، بل يؤيدون غير المسلمين أيضًا؛ كما
كان بعض علماء مصر يقنعون المسلمين بوجوب الخضوع لفرنسة عندما استولت
على مصر بجيش بونابرت، يفعلون ذلك باسم الإسلام. فلا عجب إذا أيدوا كل
حكومة منسوبة إلى الإسلام، مهما كانت جائرة ومهما كان مذهبها في الأصول
والفروع، وقد وجد من أصحاب العمائم في مصر من أنشأ في هذا العصر مسجدًا في
مصر باسم ملك إيطالية الكاثوليكي، ووقفه على روحه ليكون له ثواب الصلاة فيه،
وهذا المعمم الذي يعد من طائفة العلماء وشيوخ المتصوفة هو ابن الشيخ عليش الذي
كان يعد أشهر علماء الأزهر، وأشدهم تشددًا في الدين. وكان من هذا الخزي أن
اسم الشيخ عليش وشهرته مما استعانت به إيطالية على أخذ مملكة طرابلس الغرب
وبرقة من الدولة الإسلامية، كل ذلك لأجل عرض قليل وحطام حقير يستفيده من
فضلات وكالة إيطالية السياسية بمصر.
فهل يستغرب مع هذا ما قاله الغزالي والمقريزي وغيرهما من المتقدمين في
سبب التعصب للمذاهب ونصرها، وهو أنه طلب المال والجاه والتمتع بالأوقاف
والمناصب؟ أم يستغرب ما كان يكتبه الشيوخ الدجالون من عبيد الدنيا في مدح
السلطان عبد الحميد مدمر الدولة العثمانية، ومذل الأمة الإسلامية من المدائح فيه،
وتكفير المخالفين له، كقول الشيخ يوسف النبهاني في ذيل قصيدة له في مدحه
ومدح كاتبه عزت باشا العابد؛ إنه يتقرب إلى الله بمحبته وموالاة من ولاه ومعاداة
من عاداه، قال: (وذلك لازم لكل مسلم، وإن عكسه من أكبر الكبائر وأعظم
الذنوب الموجبات لسخط الحق سبحانه، بل ربما أدى ذلك إلى الكفر) ثم ذكر
أن الذين عادوه يعني أحرار العثمانيين طلاب إصلاح الدولة (قد عصوا الله
ورسوله، وأسخطوا جميع المؤمنين، واستحقوا لعنة الله وغضبه في كل حين) وذكر
في تلك القصيدة أن عبد الحميد جدد الدين والدولة، وأنه لا يوجد له مثل في
الأرض. ولكن عسى أن يوجد له مثل فوق السموات. والقصيدة مطبوعة، فهل
مكن المستبدين من إهلاك المسلمين إلا أمثال هؤلاء المقلدين الجاهلين
الطامعين في الأموال والمناصب بعنوان هذه المذاهب، وإذا كان الأمر
كذلك، فأي رحمة استفادها المسلمون من اختلاف أولئك المقلدين المتعصبين غير
تلك الأموال والمناصب التي تمتع بها أولئك المفرقون بين المسلمين باسم
المذاهب، وأئمة الذاهب برآء من ذلك ومن الرضى به.
وجملة القول: إن حديث (اختلاف أمتي رحمة) لا أصل له كما صرح بذلك
غير واحد من أئمة الحديث، وذكر الخطابي له في عرض كلامه، لا يثبت أن له
أصلاً عنده، ولكن قد يشعر بذلك كما قال السخاوي، ووجود أصل له لا يستلزم
صحته ولا حسنه، وهو لا يعرف له سند، ومعناه كلفظه لا يصح ولا يثبت، بل
الثابت في كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وسيرة السلف، وفي
الواقع ونفس الأمر أن الاختلاف قد أدى إلى التفرق والعداوة والبغضاء، فكان من
أسباب ضعف المسلمين وتمزقهم كل ممزق، فهم للتعصب للمذاهب قد أضعفوا
وحدتهم وأضعفوا استقلال عقولهم، فلما ارتقت الأمم باستقلال العقل في فنون العلم،
وما يترتب عليه من الأعمال علوهم وسلبوا ملكهم.
إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (لتسون صفوفكم أو ليخالفن الله
بين وجوهكم) متفق عليه في الصحاح والسنن كلها، وفي رواية أبي داود (أو
ليخالفن الله بين قلوبكم) وفسرت الوجوه في رواية الجمهور بالقلوب كما فسر به {وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ} (الأنعام: ٧٩) قال النووي في
شرح الحديث: معناه يوقع بينكم العداوة والبغضاء، وقال القرطبي: معناه
تفترقون، فيأخذ كل واحد وجهًا غير الذي يأخذه صاحبه، ولا يفقه هذه الحكمة
النبوية إلا العليم بصفات الأنفس البشرية وأخلاقها ونظام الاجتماع الإنساني،
ومن سنن الله في ذلك أن ما ينفق فيه الإفراد من الأعمال الظاهرة المشتركة بينهم،
يكون سببًا لائتلافهم واتفاقهم ووحدتهم، والضد بالضد؛ ولذلك تتحرى الأمم
المرتقية في العلم والنظام أن تربي أفرادها على نظام واحد في الأعمال الظاهرة،
وأن تنشر عاداتها في الأمم الأخرى؛ لتجذب بها قلوبها إليها، وقد أوضحنا
هذا المعنى في مقالاتنا (المسلمون والقبط) فليرجع إليها.
(يا سبحان الله) إن رسولنا صلى الله عليه وسلم لم يسمح لنا أن تختلف
أفرادنا في صف الصلاة، فيتقدم بعضهم على بعض، وأقسم على أن ذلك يكون
سبب اختلاف قلوبنا ووقوع التفرق بيننا، ثم نحن نجيز لأنفسنا أن نقيم في المسجد
عدة جماعات في وقت واحد لاختلاف المذاهب، ونعد هذا رحمة بنا، ونحن نشعر
في أنفسنا بأن ذلك يبعد بعضنا عن بعض ولا شك في ذلك، ونجيز لها غير ذلك
من الفتن والفساد.
لو شئت أن أنقل بعض ما أعلم من وقائع الفتن والعداوة بين أهل المذاهب
لجئت بالفضائح، وكل ذلك قد جرى باسم الانتصار لأئمة العلم والفقه، وما هو إلا
انتصار للأهواء كما قال الغزالي: لا شيء منه يوافق أصول أولئك الأئمة ولا
سيرتهم الشريفة، بل يقل أن يوجد مدعي اتباعهم من يعرف حقيقة ما كانوا عليه،
وإنما يتبع أهل كل عصر علماء عصرهم الذين أشرنا إلى حالتهم لثقتهم بهم وإن
كانوا جاهلين، حتى بالمذاهب التي جعلوها حرفتهم وسبب رزقهم، وهؤلاء القادة
الجاهلون هم الذين منعوا المسلمين من أسباب الرقي المالي العلمي والصناعي؛
فضاعت بلادهم.
منشأ عصبية التقليد الثقة، وأكبر مفاسده أن تكونت بهذه الثقة مذاهب
المبتدعة وطرقهم، بل مذاهب الكفر والزندقة باسم الإسلام كمذاهب الباطنية،
فالبكداشية يعدون الآن في بلاد الترك والأرنؤط بالملايين ويقولون: إنهم من
المسلمين، وما كان الآخذون بتعليم (الفضل الحروفي) من المسلمين في شيء،
أفرأيت لو لم توجد بدعة التشيع أو التعصب من كل طائفة لتعليم معين، هل كان
وجد هذا الضلال، أرأيت لو أن المسلمين يعملون في كل عصر وكل مكان بقوله
تعالى: {فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ
وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} (النساء: ٥٩) هل كان وجد هذا
التفرق والتمزق والانحلال؟ ؟ لا لا وإنما وجد بالتقليد لأن كل طائفة وثقت
برؤسائها فاتبعتهم بغير دليل، وسنزيد هذا بيانًا في وقت آخر إن شاء الله تعالى.