للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


عبر الحرب البلقانية
وخطر المسألة الشرقية

(٣)
مقدمات الخذلان في هذه الحروب
محاربة الاتحاديين للدين
من المسلمات التي لا يختلف فيها عاقلان، ولا يَنْتَطِحُ فيها عَنْزَان أن
القوة المعنوية هي الأصل الباعث على الأعمال المادية، وأن الدين هو أعظم
القوى المعنوية أثرًا، وأشدها على المخالف خطرًا، وأن الفريقين المتحاربين
إذا تساويا في جميع ما ينبغي للقتال من علم ومعرفة، وذخيرة وعدة، وتفاوتا
في قوة الإيمان بالله عز وجل والرجاء في الحياة الآخرة، فإن أقواهما إيمانًا
وأعظمهما رجاء هو الجدير بأن يكون له الفلج ويتيسر له النصر. وقد صرحت
الجرائد الأوربية بهذه الحقيقة في سياق البحث في أسباب رجحان البوير على
الإنكليز في حرب الترنسفال، كما بيناه في المجلد الثاني من المنار.
وقد نشرنا في المجلد الأول من المنار نبذة في هذه المسألة ترجمها الأستاذ رحمه
الله تعالى من (وقائع بسمارك) التي نشرها بعد موته أمين سره مسيو
(بوش) قال: غطاء المائدة فقال لأصحابه: كما تنتشر هذه البقعة في النسيج شيئا
فشيئا كذلك ينفذ الشعور باستحسان الموت في سبيل الدفاع عن الوطن في أعماق
قلوب الشعب ولو لم يكن هنالك أمل في الأجر والمكافأة، ذلك لما استكن
في الضمائر من بقايا الإيمان. ذلك لما يشعر به كل أحد من أن واحداً مهيمنًا يراه
وهو يجالد ويجاهد ويموت وإن لم يكن قائده يراه.
فقال بعض المرتابين: أتظن سعادتكم أن العساكر يلاحظون في أعمالهم
تلك الملاحظة؟ فأجابه البرنس: ليس هذا من قبيل الملاحظات وإنما هو شعور
ووجدان، هو بوادر تسبق الفكر، هو ميل في النفس، وهوًى فيها كأنه غريزة
لها، ولو أنهم لاحظوا لفقهوا ذلك الميل، وأضلوا ذلك الوجدان، هل تعلمون أنني
لا أفهم كيف يعيش قوم، وكيف يمكن لهم أن يقوموا بتأدية ما عليهم من
الواجبات، أو كيف يحملون غيرهم على أداء ما يجب عليهم إن لم يكن لهم
إيمان بدين جاء به وحي سماوي. واعتقاد بإله يحب الخير، وحاكم ينتهي إليه
الفصل في الأعمال في حياة بعد هذه الحياة؟
بعد هذا تكلم ذلك الرجل العظيم عن نفسه فأكد القول بأنه لولا إيمانه
بالعناية الإلهية ويقينه بحياة بعد الموت وشعوره بأنه يرضي الله بخدمته للأمة
الألمانية وسعيه لوحدتها وإعلاء شأنها - لما رضي لنفسه أن يكون من حزب
الملكية وأن يخدم الملك لأنه هو جمهوري بالطبع. والوظائف والرتب
والألقاب لا بهاء لها في نظره. وإنه لا يحب إلا العيشة الخلوية في المزارع،
ومما قاله: (اسلبوني هذا الإيمان تسلبوني محبتي لوطني) ومنه: إن لم
أكن خاضعًا لأمر إلهي فلمَ أضع نفسي تحت طاعة هذه الأسرة المالكة مع أنها
تتصل بأصل ليس بالأعلى ولا بالنبيل من الأصل الذي تنصل به عشيرتي؟
ومن أراد ترجمة نص قوله برمته فليرجع إلى المنار (ص ٨٤٦ م١ من
الطبعة الثانية) .
وقد قال الأستاذ في مقدمة هذه الترجمة أنه ترجمه ليطلع عليه من لم يُعن
بقراءة هذا الكتاب من شبابنا الذين يعدون النسبة إلى دينهم سبة، والظهور
بالمحافظة عليه معرة، وليعلموا أن الإيمان بالله وبالوحي الإلهي إلى أنبيائه
ليس نقصًا في الفكر، ولا ضلة عن صحيح العلم، ولا عيبًا في الرئاسة، ولا
ضعفًا في السياسة.
وقال بعده: هذا كلام بسمارك وهو يدلنا على أن هذا الرجل العظيم كان
يعتقد أن عظائم أعماله إنما كانت من مظاهر إيمانه، وأن الإيمان بالله
والتصديق باليوم الآخر هما الجناحان اللذان طار بهما إلى ما لم يدركه فيه
مُفَاخِر، ولم يكثره مكاثر.
أقول بعد هذا التمهيد: ولكن زعماء الاتحاديين قد فخروه وكثروه في
السياسة، فكان اتحادهم العثماني أقوى وأعلى وأثبت من اتحاده الألماني؛ لأنه
بني على صخر الإيمان، وبنوا على رمل الإلحاد.
لقيت في الآستانة الدكتور ناظم بك الزعيم الأكبر للاتحاديين الذي خلف
صادق بك أمير الألاي بعد أن تبرأ من الجمعية فصار هو المرخص المسئول
لها. لقيته يتحدث مع فطين أفندي المدرس في دار الشفقة والمدير للمرصد
الفلكي الجديد في ضواحي العاصمة وكان يومئذ من صميم الاتحاديين، على
حين تركهم أكثر أمثاله من المعممين، حتى كان يشك في تدينه رجال الدين،
فقال لي: تعال احكم بيني وبين البك. قلت: ما خطبكما؟ قال: إن البك يقول:
إننا نحن العثمانيين لا يمكن أن نترقى إلا إذا نبذنا الدين وراء ظهورنا
وعصرنا العلماء عصرًا، نمحقهم به محقًا، وسِرنا وراء فرنسة خطوة خطوة.
وأما أنا فقلت له: إننا يجب أن نأخذ من أوربة لا من فرنسة خاصة، الفنون
الصناعية والزراعية وكل ما نحتاج إليه للترقي العملي في دنيانا. وأما الأمور
المعنوية والأدبية فنرجع فيها إلى أصول ديننا ونستمدها منه. فقال: يجب أن
نأخذ عن فرنسة كل شيء فإن جميع ما عندنا فاسد وموجب للتدلي.
لا يحتاج القارئ إلى القول بأن رأي فطين أفندي هو الموافق لرأيي في
هذه المسألة وقلما رأيت أحدًا أوجز وأفاد في تحرير هذه المسألة الكبيرة مثل
هذا الرجل، ولكنني سلكت في تأييده مسلك بيان السبب في هذه التفرقة
والخلاف بين المتعلمين، وتطرف بعضهم في التفرنج وبعضهم في الجمود
على القديم، وشدة الحاجة إلى المعتدلين الذين يعرفون القديم والحديث، أي
كفطين أفندي، وانتقلت من هذا إلى مشروع العلم والإرشاد الذي كنت أسعى له
هنالك وليس هذا المقال بمحل تفصيل القول فيه.
جميع زعماء الجمعية على رأي ناظم بك الذي ذكرناه آنفا، ولكن قلما
يوجد فيهم من يتجرأ على التصريح بمثله. وقد سمعت منه ومن غيره منهم
وعنهم غير ذلك ولولا ظهور قوة تأثير الدين لهم في الجيش يوم ٣١ مارس أو
١٣ أبريل لظهر من تهتكهم والجهر بمقاومتهم للدين أضعاف ما ظهر للناس
وما الذي ظهر بقليل، ونكتفي من ذلك بشيء مما يتعلق بالجند حذرًا من
التطويل.
كانت الصلاة في العسكر أمرًا إجباريًّا يتساهل فيه الضباط المارقون
والمرتابون في خاصة أنفسهم، وقد يتعدى ذلك إلى الجنود التابعين لهم. فإذا
جاء متدين منهم وشدد فيه لا يستطيع معارضته أحد لأنه رسمي. فلما دالت
الدولة للاتحاديين جعلوا الصلاة أمرًا اختياريًّا وصاروا يوعزون إلى حزبهم
من الضباط بمنعها وإشغال العسكر عنها بالتمرين أو غيره من العمل في
أوقاتها، حتى في المدرسة الحربية العليا نفسها.
أخبرني من أثق بهم في الآستانة بهذا، وآخرون بخبر آخر أضر منه في
الجيش، وهو أنهم كانوا عند التنسيق العسكري يعنون بإخراج الضباط المتدينين
من الجيش وأكثر هؤلاء المتدينين من الذين ارتقوا إلى رتبة الضباط بالعمل
والتمرن في الجيش في إبان السلم والحرب سنين كثيرة ويسمونهم الألايلية
نسبة تركية إلى ألاي وكان عذرهم في إخراجهم أنهم غير متخرجين في
المكتب الحربي فمعارفهم غير قانونية. وقد أخرجوا بعض المتخرجين في
المكتب الحربي بعلل أخرى، كما أبقوا بعض الألايلية الذين اتبعوا هوى
الجمعية ولو كان عدد الضباط المكتبيين كافيًا لعسكر الدولة لكان لهم في
إخراج من أخرجوا وجهًا للاعتذار وإن أضر ذلك بمالية الدولة وخسر به
جيشها طائفة من الضباط، يفضلون كثيرًا من متخرجي المكتب الأحداث
والأغرار، أي الذين لا تجربة لهم.
وقد كان غرض الاتحاديين من تنسيق عمال الحكومة في جميع النظارات
والمصالح أن يخرجوا منها من شاءوا، ويبقوا من أحبوا، ليعلم كل فرد من
أفراد هذه الدولة أن جمعية الاتحاد والترقي هي ولية أمره وصاحبة السلطان
عليه، فيكون طوع يدها، ويؤدي لها ما عدا الضريبة الأولى ما فرضه
قانونها على كل منتمٍ إليها، وهو اثنان في المائة من جميع دخله (إيراده) وقد
كانت خسارة الدولة بهذا التنسيق أكثر من ثلاثة ملايين جنيه في كل سنة
تُعطى رواتب للمعزولين والمنسقين. وما كان الذين استحدثوهم خيرًا من
الذين أخرجوهم، ولولا هذا التنسيق لكان للدولة في المال الذي خسرته به ما
يمكِّنها من شراء مدرعة وطرادة من الدرجة الأولى في كل سنة.
إن أكثر الضباط الذين تعول عليهم الجمعية في نصرها من الملحدين أو
المرتشين في دينهم، ومنهم الذين يصرحون بالكفر تصريح الحقود المنتقم من
الدين، ومن ذلك ما حدثني به بعض الثقات في الآستانة عن بعض الباشوات
أنه قال: لو كان في بدني شعرة تؤمن بفلان - وذكر خاتم الرسل وسيد العرب
والعجم صلى الله عليه وسلم - لقلعتها مع اللحم الذي حولها وألقيتها. ومن لم
يجدوه على مثل هذا الفساد من قبل حاولوا إفساده بالسياسة، فكانوا لا يقبلون
ضابطًا في الجمعية إلا إذا دخل الماسونية، وهذا وذاك أهم الأسباب التي
حملت أمير الألاي صادق بك الشهير على محادة الجمعية ومقاومتها، بعد أن
عجز عن إقناع زعمائها بترك هذه المفاسد. وكان محمود شوكت باشا جاراه
بإظهاره له أنه مجتهد في منع الضباط من الاشتغال بالسياسة وجهر بذلك في
خطبة له في نظارة الحربية، وخطبة أخرى في أدرنة، كنت من المعجبين
بهما وبه يومئذ وأنا في الآستانة، ثم ظهر لصادق بك أن ذلك خداع، ثم ظهر
لسائر الناس أيضًا في العريضة التي استقال بها محمود شوكت باشا من نظارة
الحربية، فإنه صرح فيها بأنه يترك تنفيذ قانون منع الضباط من السياسة لخلفه،
أي أنه لا يمكنه تنفيذ هذا القانون وهو الذي أسلس العنان للضباط حتى
توغلوا في السياسة أن يمنعهم منها عند ما قامت ثورة طائفة كبيرة منهم في
بلاد الأرنؤوط طالبين إسقاطه وإسقاط جمعيته.
مثل جمعية الاتحاد والترقي في إضعاف الدين في الجيش وإخراج عدد كثير من
الضباط المتدينين من صفوفه كمثل من كان له بيت يؤويه ويقيه فواعل الجو
فهدمه لأنه صار يراه غير لائق بمقامه، ولكن قبل أن يبني له بيتًا آخر على
النحو الذي يحب، فبينا هو في العراء يفكر ويقدر ويجلب بعض الحجارة لبناء بيت
آخر عصفت الريح فأثارت السحاب فاعتلجت فيه البروق، وقصفت الرعود،
وانهمر الصيب الهتون، فجرفه هو وما كان جلبه لبناء البيت.
إنهم أرادوا أن يستبدلوا الوطنية العثمانية والجنسية التركية، بما يهدمون
من الرابطة الإسلامية والنزعة الدينية، التي لولاها لم يكن الجيش العثماني
مضرب المثل في شجاعته وبأسه وثباته في مواقف النزال، وبلائه في معارك
القتال، فأنشأوا أناشيد وأغاني باسم الوطن التركي والجيش العثماني، ليخلقوا بها
شعورًا جديدًا للجند يقوم مقام الشعور الديني، ولعل هذا من أقوى الجوامع التي
جمعت بينهم وبين زعماء الحزب الوطني المصري، فإن هذا الحزب يفخر
دائمًا - وليس له أثر صالح في البلاد - بأنه أوجد الشعور الوطني، وهذا الشعور
هو الذي يخرج الإنكليز من القطر، ومن حسن حظ مصر أن هؤلاء المغرورين لم
يتولوا أمرًا من أمور البلاد، وأما الاتحاديون فمن سوء حظنا أنهم تولوا أمر المملكة
ثلاث سنين أفسدوا فيها ما لم يستطع عبد الحميد مثله في ثلاثين سنة.
شهد العلماء الذين أرسلتهم الحكومة لوعظ الجيش في شتالجة بأنه تبين
لهم بعد الاختبار أن أهم أسباب انكساره في هذه الحرب قد كان مما أودعه
الاتحاديون في نفوسهم من أن وظيفة الجيش الدفاع عن الوطن بعد أن نزعوا
منها الاعتقاد بأن هذا الدفاع مشروع دينًا وأن الذي يقتل فيه شهيد له عند الله
حياة خير من هذه الحياة ذات نعيم دائم ورضوان من الله أكبر.
وشهد عظماء الألمانيين الذين يتلقى الجيش العثماني عنهم فنون القتال أن
أهم أسباب انكساره هي إفساد الاتحاديين له بإشغاله بالسياسة، وقد بينا أن
هاتين المفسدتين متلازمتان، فإنهم ما اجتهدوا في إضعاف الدين إلا لغرضهم
السياسي، وما أدخلوا الضباط في السياسة إلا للاستعانة على مقاصدهم بالقوة؛
لعلمهم بأنهم عاجزون عن الوصول إليها بإقناع الأمة. وقد كانوا يظنون
عقب الانقلاب أنه يتسنى لهم أن يقودوا جميع علماء الآستانة وعلماء الولايات
بزمام المنافع والمناصب والرتب والرواتب، غرورًا بما كان من خضوعهم
لعبد الحميد، وببعض المنافقين الذين رأوهم مستعدين لخدمتهم في كل شيء
باسم الدين، ثم بدا لهم من علماء الآستانة ما لم يكونوا يحتسبون، كانوا قد
استمالوا إليهم جمهور العلماء فلما خبرهم الأذكياء من هؤلاء العلماء وبلوهم،
قلوهم وهجروهم، وأسسوا الجمعية العلمية لوقاية الإسلام والمسلمين من
كيدهم، وبقي يدهن لهم أكثر موظفي المشيخة الإسلامية الذين عرفوا حقيقة
حالهم، والتبس الأمر على بعضهم فكانوا يحسنون الظن فيهم، لأنهم لم يعرفوا
أحدًا منهم إلا بعد حادثة (٣١ مارس - ١٣ أبريل) التي صاروا بعدها
يحسبون للدين ورجاله حسابًا، وناهيك بعلماء الآستانة ونفوذهم الروحي في
الشعب التركي، فقد أخبرني محمود شوكت باشا في أول اجتماع كان لي معه أن
الحكومة لا تستطيع أن تعمل عملاً إذا كان العلماء كارهين له يأبون وجوده،
قال هذا عندما بينت له مشروع الدعوة والإرشاد وبين لي رأيه فيه. وأنه لابد
أن يكون بصفة لا يستنكرها العلماء، قلت له: أنا أضمن استحسان جميع
العلماء له وتمنيهم تنفيذه.
بل رأيت الدكتور ناظمًا على صلابته في مقاصد الجمعية وما علمته عنه
من العزم على تجريد الحكومة العثمانية من الدين يدهن لعلماء الآستانة
ويوهمهم أنه هو وجمعيته يودون خدمة الدين. فقد دعيت إلى الحفلة التي
كرمت الجمعية بها الحاج عمر الياباني الذي أسلم وحج وزار الآستانة بعد
حجه، وكانت تلك الحفلة في نادي نور عثمانية أشهر أندية الجمعية في
الآستانة وكان من المدعوين بعض كبار العلماء، وخطب منهم محمود أسعد
أفندي ناظر الدفتر الخاقاني بالتركية، وخطب كاتب هذه السطور بالعربية، وقام
الدكتور ناظم فتكلم كلامًا قال فيه إن الإسلام محتاج إلى خدمة عظيمة من العلماء
وهم مقصرون لا يقومون بالواجب عليهم، وأهم هذه الخدمة الدعوة إلى الإسلام
وتعميم الإرشاد الإسلامي، فعندئذ قال له مصطفى أفندي أوده مشلي مستشار شيخ
الإسلام، وكان جالسًا بجانبي: إن القيام بهذا الواجب لم يكن متيسرًا في زمن
الاستبداد، والآن اقترح رشيد أفندي مشروعًا يكفل القيام به على أكمل وجه
وننتظر مساعدة الحكومة عليه، أو قال: مساعدتكم، أي مساعدة الجمعية، الشك
مني، وقد استبشرت حين سمعت هذه الكلمة من الدكتور ناظم لأنني كنت أسمع أنه
رجل الجد وأنه ليس كثير الكذب والنفاق كطلعت بك، فجئته وقلت له إذا كان هذا
رأيكم فالمرجو منكم أن تكلموا طلعت بك بإنجاز وعده لنا وتنفيذ المشروع. فقال لي
ما معناه: ليس هذا بالوقت المناسب لهذا العمل فلا بد من انتظار سنة أو سنتين.
فتأمل.
ومما عملته الجمعية لإبطال نشر هداية الدين:إصدار أوامر عامة لجميع
رؤساء الإدارة في الولايات العثمانية بمنع الاجتماع في المساجد لإلقاء الخطب
ونحوها وتصريحها بأن المساجد للصلاة دون غيرها. وهذا من جهلهم
بالإسلام وتاريخه فإن المساجد كانت في الصدر الأول لجميع مصالح المسلمين
كالمشاورة في الأمور العامة والوعظ والقضاء وتوزيع الصدقات وغير ذلك.
وجملة القول: أن جمعية الاتحاد والترقي كانت عازمة على إزالة نفوذ
العلماء من الأمة وكل تأثير للدين فيها إلا التأثير السياسي الذي يوافق مقاصد
الجمعية تستخدم له من أرباب العمائم من يميل مع القوة والمنفعة حيث تميل
كالشيخ صالح التونسي والشيخ عبد العزيز شاويش وأضرابهما، وكان
زعماؤها يعتقدون بأنه لم يبق للدين تأثير يؤبه له. ولكنهم بعد مسألة طرابلس
الغرب غيروا رأيهم وعزموا على الجد في الاستفادة من فكرة الجامعة
الإسلامية وهو ما نبينه في النبذة التالية:
(٤)
عبث الاتحاديين بالجامعة الإسلامية
لي كلمة في زعماء جمعية الاتحاد والترقي كادت تكون مثلاً في سورية
وهي: إن هؤلاء الاتحاديين قد توسلوا إلى مقصدهم بكل شيء إلا الحق. ولكنهم
فشلوا في كل عمل إلا جمع المال، ولا سيما عقب الانقلاب، فلولا المال لكانوا
الآن في عداد الموتى.
وقد سلكوا طرق النفاق فهم دائمًا يظهرون غير ما يبطنون كما صرح لي
بذلك رجل في الآستانة من أعظم أنصارهم. فإنه سألني مرة: إلى أين وصلت
في تشبثك؟ أي مشروع الدعوة والإرشاد، قلت: وعدني طلعت بك بكذا وكذا
من المساعدة، وحقي باشا قال: إنه طالما فكر في هذا المشروع، وهو يبذل
الجهد في تنفيذه. فقال: أو صدقت أقوالهم؟ إن هؤلاء ظاهرهم غير باطنهم.
وأنا أكشف لك الغطاء عن هذا الأمر فأمهلني إلى يوم كذا.. . وبعد مراجعة
حقي باشا ثم طلعت بك ظن أنه جاءني بالنبأ اليقين وما هو إلا أن طلعت بك
كذب عليه أيضًا.
نعم إنهم كانوا يظهرون غير ما يبطنون، ويُسرُّونَ ضد ما يعلنون، لا
في مشروعي الذي غذوني فيه بالوعود سنة كاملة فقط بل في كل مقاصدهم،
فمن أوائل مقاصدهم تتريك العناصر العثمانية وكانوا يعاقبون من يحث
عنصره على الارتقاء من غيرهم بدعوى أنه يفرق عناصر الدولة، ومن
مقاصدهم إزالة سلطة الدين وقوته من الدولة، ولكنهم يظهرون للمسلمين أنهم
يريدون القيام بالجامعة الإسلامية، على أن سيرتهم وأعمالهم تكذب هذه
الدعوى، وحسبك أن جميع زعماء الجمعية من الماسون، وأصول الماسونية
تنافي الجامعة الدينية، وهم لا يخالفون الماسونية إلا في العصبية التركية، فهم
يخادعون المسلمين في شيء والماسون في شيء آخر.
سيقول بعض الغارين والمغرورين بزعماء هذه الجمعية من مسلمي
سورية وغيرها: إننا قد علمنا ما أسره إلينا بعض رجال الجمعية ومن بعض
أعمالها أنها لا تريد إحياء الجامعة الإسلامية، وأن هذا هو غرضها الباطن
وإنما لاذت بالماسونية وأحيت كلمة الوطنية؛ لأجل مخادعة الشعوب المسيحية
والدول الأوروبية.
لا أقول أنهم سيقولون هذا، إلا لأنني سمعتهم قد قالوه من قبل، وأعلم أن
بعض قائليه مأجورون، وبعضهم مخدوعون، وأنا أعرف سبب هذا ومنشأه،
ولا أعجب من تصديق بعض أغرار المسلمين كلام هؤلاء الذين يظهرون لكل
قوم بوجهه، ويخاطبون كل أناس بلسان، فقد خدع هؤلاء الاتحاديون قبلهم
دهاة السياسة ورجال الخبرة من إخوانهم النصارى السوريين في سورية
ومصر جميعًا. إذ أوهموهم أن ميلهم إليهم واتحادهم بهم خير لهم من اتحادهم
بأهل وطنهم من المسلمين وأن مسلمي العرب يغلب عليهم التعصب الديني فلا
يمكن أن يعترفوا أو يرضوا بمساواة إخوانهم في الجنس والوطن لهم. وأما
الاتحاديون الترك فإنه لا يقيمون للدين وزنًا ويرون من المصلحة التركية
ترجيح نصارى العرب ليضعف مسلموهم فلا يكون لهم مجال للمطالبة
بالخلافة التي هي أكبر خطر على نصارى العرب ثم على غيرهم لأنها تكون
دينية محضة.
وسوس دعاة الجمعية آذان كتاب النصارى ووجهائهم بمثل هذا الكلام
فصدقوه وانخدعوا به، وظهر أثر ذلك في جرائدهم في كل مكان، وفي
مساعدتهم للاتحاديين في انتخاب المبعوثين، ولا بدع في ذلك فقد انخدع كتاب
أوربة وساستها من جميع الدول بنفاق هؤلاء الاتحاديين في القول والفعل.
حتى إن جريدة الطان الفرنسية الشهيرة نشرت مرة لأحد مكاتبيها تفضيلاً لهم
على الحزب الوطني المصري بأنهم يصرحون بانتقاد دين الإسلام ولا يبالون بأمر
المسلمين من غير أبناء جنسهم الترك، خلافًا للمصريين الذين تغلب عليهم النزعة
الإسلامية، فيبحثون عن مسلمي تونس، والجزائر ومراكش ويهتمون
بأحوالهم.
ثم ما عتم أن إن انكشف الغطاء للأوربيين عن نفاق زعماء الاتحاديين
وجهلهم وغرورهم، فسبق إلى بيانه الفرنسيون والإنكليز، ولم يصرح به
الألمانيون كغيرهم إلا بعد هذه الحرب، فقد نقل لنا المقطم منذ أيام أن كثيرًا
من أولئك الزعماء يقيمون الآن في بروكسل عاصمة البلجيك وفي مقدمتهم
حقي بك وطلعت بك وجاويد بك. وذكر أن جاويد بك قال لمكاتب جريدة
فرنكفور زيتونج الألمانية في سياق حديثه له: إن أعمال الحكومة العثمانية هي
التي كانت السبب في فشل الجيش الذي كان متأهبًا أتم التأهب ومجهزًا أحسن
التجهيز ولم يكن ينقصه إلا حكومة منظمة - أي اتحادية - لتنتصر به على
البلقانيين كما انتصرت على الأرنؤوط، كما قال في جوابه لمكاتب جريدة
أوربية أخرى الذي بينته في المقالة الأولى، وطعن في كامل باشا فوصفه
بالغرور وحب الانتقام، رمتني بدائها وانسلت.
ثم نقل المقطم بعد ذلك أن مكاتب التيمس في برلين قال تعليقًا على هذا
الحديث: لم تعد الدوائر السياسية في ألمانية تعير ما يتشدق به الاتحاديون أذنًا
صاغية، حتى أن الذين كانوا يعجبون بجاويد بك وزملائه صاروا أشد الناس
انتقادًا لهم، وأكثرهم سخرية بهم ويذهب أولو الرأي في ألمانية الآن إلى أن
السياسة التي بثَّها الاتحاديون في الجيش كانت السبب الأكبر في فشله وانكساره.
ثم تنبَّه نصارى سوريا في مصر وفيها إلى نفاقهم، وبقي أفراد منهم في
البرازيل على انخداعهم، وظل بعد هذا كله بعض مسلمي السوريين يغرون
الناس بهم، إما بأجر قليل، وإما اتباعًا للوهم، وكان يجب أن يجمع العرب
على مقتهم ومحادتهم؛ لأن العرب أبغض الناس إليهم، وإنني أعتقد أن أكثر
الذين يتحيزون إليهم منا منافقون وطلاب مال وجاه، وأقلهم مخدوعون
مصدقون أنهم يعملون للجامعة الإسلامية، وإنني أذكر مثالا من مخادعتهم
للمسلمين بهذه المسألة:
لما ألممت ببيروت في رمضان الماضي وأنا عائد من رحلتي الهندية
زارني ليلة مع الزائرين بعض رجال الحكومة في الدار التي كنت نازلاً فيها
وكان فيهم رجل من رجال القضاء (العدلية) من إخواننا الترك فنقل الحديث إلى
الجامعة الإسلامية وفوائدها للدولة، وادعى أن جمعية الاتحاد والترقي ترمي
إلى إحياء هذه الجمعية فقلت له: إنما ترمي إلى إحياء الجامعة التركية،
وتتجر باسم الجامعة الإسلامية، تجذب بهذا الاسم المسلمين الغافلين، وتخيف
الأوربيين المستعمرين، وإنني أدرى الناس بمكانها من الدين فقد جئت الآستانة
بإذن الجمعية لأجل مشروع الدعوة والإرشاد الذي شهد العقلاء من الاتحاديين
وغيرهم أنه أنفع ما يخدم به الدين، وكنت موعودًا من الجمعية بالمساعدة
عليه، ثم لما عرف زعماء الجمعية حقيقة المشروع وأنه خدمة حقيقية للدين
قاوموه ولم ينفذوه؛ لأن فاقد الشيء لا يعطيه، وكانوا يظنون أن إسلامي
سياسيّ فيسهل جعلي آلة سياسية، فلما تبين لهم أن إسلامي إيمان ونية وعمل،
ظهر لهم أن مشربي يخالف مشربهم، وعملي يناقض عملهم، وقد كان
بعض علماء الآستانة يحذرني منهم ويقول: لا يغرنك منهم إظهار الميل إلى
مساعدة مشروعك (وهم يقولون) تشبثك فإنهم يريدون أن يستفيدوا من
اسمك وشهرتك ليظن المسلمون أنهم يريدون الخير للإسلام، وكان هؤلاء
العلماء يرون أن عدم تنفيذهم للمشروع خير من تنفيذهم إياه مخادعة ورياء
لأن الأمور بمقاصدها.
وكان هنالك علماء ونبهاء آخرون يرون أن الرياء قنطرة الإخلاص،
وأنهم إذا نفذوا المشروع يربحه المسلمون ولا يضره رياء مساعديه، إذا
صحت نية القائمين به، وكان من رأي هؤلاء أن أكتم عن الجمعية حقيقة
مرادي، وأوهمها أنني أريد أن أربي أناسًا يكونون دعاة للدين في الظاهر
ولسياسة الجمعية في الباطن، وأن أطلب جعل تعليم الفنون في هذه المدرسة
الإسلامية العامة باللغة التركية لا العربية ليقبلوا المشروع، وبعض أصحاب
هذا الرأي من الذين انتموا إلى الجمعية ليتمكنوا بنفوذها مما يريدون من الخير
لأنفسهم ولأمتهم، ولكنني لم أقبل نصحهم وقلت: إنني لا أجعل الباطل وسيلة
إلى الحق، فأنا أبين لهم كل مرادي، وإنني لا أريد ولا أقبل أن يكون المشروع
آلة سياسية بل دينيًّا خالصًا؛ لأن السياسة تفسده باختلاف الأحزاب والحكام
من الداخل، وبمقاومة أوربة من الخارج، ومن الجهل والغرور أن نظن أننا
نستطيع أن نخدع أوربة، فإن الجاهل القاصرلا يستطيع أن يخدع العالم
الراشد.
ذكرت شيئًا من سيرتي هذه للزائر التركي الذكي، ثم قلت له: أليس
الدكتور ناظم صاحب النفوذ الأعلى في هذه الجمعية يصرح بأن الدولة لا
يمكن أن ترتقي ما دامت متمسكة بالإسلام؟ أليس جميع إخوانه الزعماء
وأنصاره فيها على هذا الرأي؟ أليسوا يرون أن فشو الإلحاد في متخرجي
مكاتب العاصمة هو العون لهم على ما يريدون؟ فكيف يرجى منهم مع هذا
تأييد الجامعة الإسلامية؟
قال الزائر ويا لله العجب مما قال: إن الدكتور ناظمًا وكثيرًا من
زعماء الجمعية كذلك ولكن أكثر المنتمين إلى الجمعية متدينون ولعل غير
المتدينين منهم لا يزيدون على ثلاثين في المائة.
قلت: إنني لم أكن أظن أنهم يبلغون هذه الدرجة من الكثرة، وهب أن
المتدينين منهم تسعون في المائة والملاحدة عشرة في المائة، أليست الزعامة
والسلطة في يد الأقلين؟ قال: نعم، ولكن هذا لا يدوم. ثم قلت: إذا كانت
جمعية الاتحاد والترقي تريد تأييد الجامعة الإسلامية فلماذا تحاول إماتة اللغة
العربية وتطهير التركية منها، فهل يمكن للشعوب الإسلامية أن تتعارف
وتتعاون من غير أن يكون لها لغة مشتركة؟ وهل يمكن أن تتوجه كلها إلى
تعلم لغة عامة غير لغة دينها؟
إذا كانت جمعية الاتحاد والترقي تريد تأييد الجامعة الإسلامية فلماذا نرى
جرائدها ودعاتها وأساتذتها في جميع مكاتب الحكومة قد جعلوا شعارهم
وهجيراهم (الملة التركية) والقومية التركية ومحاولة تعميم اللغة التركية فقط،
أليست الأمة الإسلامية أمة واحدة ملتها واحدة وأفرادها إخوة كما يؤخذ من
نص القرآن المجيد، فتقسيمها إلى ملل وأجناس كما يفعلون هو الهدم لا البناء
للجامعة الإسلامية؟
قال الزائر التركي الذكي ويا لله العجب مما قال: إن اللهج بالملية التركية
والعناية بإحياء العنصرية التركية ونشر اللغة التركية، يريدون به الجامعة
الإسلامية، فإن المقصود منه استمالة مسلمي تركستان والتتار والروسيين إلى
الدولة واتحادهم بالترك العثمانيين وبذلك تقوى الجامعة الإسلامية، وليس
المراد به ألبتة تقوية الترك على العرب.
قلت له: أو يقال لمثلي هذا؟ هل الإسلام محصور في الترك والتتار حتى
لا تتكون الجامعة الإسلامية إلا منهم؟ أم يرون لغرورهم أن دولة روسية هي
أضعف الدول فيبتزونها عشرين مليونًا من الترك والتتار يكونون به الجامعة
التركية؟ إنني واقف على دسائس الجمعية في هذه المسألة، ونشرت في المنار
ترجمة مقالات لجريدة (نوفي فريمية) الروسية تنحي فيها باللائمة على حكومتهم
في تركستان لغفلتها عن المدارس التي ينشئها التتار هناك زاعمة أن هؤلاء
التتار مرسلون من الآستانة أو مُوعَز إليهم منها ليبثوا فكرة الجامعة الإسلامية
في تركستان، ويستميلوا أهلها البسطاء إلى إخوانهم الترك العثمانيين بدسائس
ألمانية والنمسة. وقد نصحت لإخواني التتار بعد نشر ما ذكرت بأن ينزهوا
سعيهم لنشر العلم بينهم وبين سائر إخوانهم عن شوائب السياسة الاتحادية
ودسائسها؛ لأن صلة بعضهم بأهلها تضرهم وتضر الدولة العثمانية؛ لأنها
تغري حكومتهم بالتشديد في منعهم من نشر العلم الذي يحيي المسلمين في
بلادها وبالتصدي لعداوة الدولة العثمانية من جهة أخرى، وكذلك كان فإنها
هي التي كونت الاتحاد البلقاني ودفعته إلى هذه الحرب.
ثم قلت للزائر التركي الذكي: إن ما وافقتنا عليه من مناداة الاتحاديين
بالملية التركية والقومية التركية واللغة التركية وبث ذلك في مدارس الدولة هو
من أقوى الأدلة على ضد ما استدللت به عليه؛ إذ جعلته عملاً للجامعة
الإسلامية، فإن كانت الجمعية تريد الجامعة الإسلامية الصحيحة كما تقول
فلماذا اهتمت بأمر مسلمي تركستان الذين دون وصولها إليهم خرط القتاد دون
مسلمي العرب في الحجاز مهد الإسلام ومهبط الوحي، وفي سياجه جزيرة
العرب وسائر العرب الذين لا يحيا الإسلام إلا بحياة بلادهم ولغتهم، ولا يعز
إلا بعزهم؟ فقد قال نبي الإسلام عليه الصلاة والسلام: (إذا ذلت العرب ذل
الإسلام) رواه أبو يعلى في مسنده بسند صحيح.
ولماذا لم تهتم بأمر مسلمي أفريقية العثمانية فعرضت عرب طرابلس
الغرب وبرقة لنيران مدافع إيطالية؟ ولماذا لم تهتم بأمر أربعين مليونًا من
المسلمين في جزائر جاوة والملايو وثمانين مليونًا من المسلمين في الهند؟
فهل انحصر الإسلام في الترك والتتار؟ لو كان الاتحاديون يريدون خدمة
الإسلام لنفذوا مشروع الدعوة والإرشاد، واجتهدوا في إحياء اللغة العربية
وعمران الحجاز وجزيرة العرب قبل كل شيء. هذا ما خطر في بالي من
حديثنا مع ذلك الزائر، وربما كان فيه زيادة إيضاح لبعض المسائل واختصار
في بعضها، وقد كان معنا جماعة من أدباء بيروت وطرابلس يستمعون.
فهذا مَثل من أمثال مخادعة الاتحاديين لمسلمي سورية وأمثالهم، وما كل
من يسمع مثل ما سمعت يجيب بمثل ما أجبت، وإنني أرى أن زعماء الجمعية
ما أيقنوا بأنه يمكنهم الانتفاع من الجامعة الإسلامية إذا استخدموها باسم
حكومة الخلافة ونفوذها إلا بعد حادثة طرابلس الغرب، فقد سمعت ورويت
عنهم وأنا في الآستانة أنهم يقولون: لا ينفعنا مسلمو بلادها ولا غيرهم وإذا
حاربنا إنكلترة _ أي في مصر طبعًا _ فلا يفيدنا مسلمو الهند شيئًا. وكانوا هم
وغيرهم من رجال الدولة يعتقدون قبل حادثة طرابلس الغرب أن العرب فيها لا
يبالون بصلتهم بالدولة وربما فضلوا إيطالية عليها تفضيلاً، وسلموا تسليمًا،
وإن سائر المسلمين لا يشعرون بألم انفصال هذه المملكة من ممالك الدولة.
يدل على هذا ما رواه بعض فضلاء العثمانيين عن رأي سفارة الدولة في
باريس حين أنذرت إيطالية الدولة ذلك الإنذار وأتبعته بضرب أسطولها
لطرابلس فذهبت إلى السفارة العثمانية لأتعرف رأيها وأعرض لها رأيي فقيل
لي: إنه لا شك في أن أهل طرابلس لا يأسفون ولا يأسون على زوال سلطتنا
عنهم؛ لأنهم ما رأوا منا خيرًا قط. وقد تألفتهم إيطالية منذ سنين فهم يفضلونهاعلينا.
بل نقلت البرقيات والصحف عن محمود شوكت باشا وكذا عن أحمد مختار
باشا أنهما قالا: إن الدفاع عن طرابلس الغرب جناية؛ لأننا لا نجد طريقًا لذلك.
هبَّ عرب طرابلس للدفاع عن بلادهم والمحافظة على عثمانيتهم، وهبَّ
العالم الإسلامي لمساعدتهم، فبدا لجمعية الاتحاد والترقي ما لم تكن تحتسب،
وأحبت أن تستفيد من هذه الأريحية الإسلامية. وكانت باعت طرابلس وبرقة
لإيطالية على شرط أن تأخذها بالفتح السلمي بعد أن تخرج منها العسكر
العثماني والسلاح، أي أن تترك الاسم والعلم للدولة العثمانية وتفعل في البلاد
ما تشاء. فغدرت إيطالية وتصدت لأخذها صورة وحقيقة بالقوة القاهرة؛ إذ
خلا لها الجو بإخراج العسكر والسلاح منها، فلما هب العرب للقتال، وهب
المسلمون كافة للمساعدة بالمال، وقام المبعوثون المعارضون للجمعية يتهمون
الوزارة الاتحادية بالخيانة ويطلبون محاكمة الصدر الأعظم حقي باشا وناظر
الحربية محمود شوكت باشا، وفي ذلك هتك الستر وانكشاف السر، ورأى
زعماء الجمعية أن الأمة العثمانية يوشك أن تثور عليهم إذا لم يبرئوا أنفسهم،
لما كان ذلك كله أرسلت الحكومة بعض الضباط وأمدتهم بأموال الإعانة وبما
يمكن من السلاح، وظهر للجمعية أن في الجامعة الإسلامية حياة يمكن
الاستفادة منها.
ومن العجائب أن الدكتور ناظم بك لم يقنعه ما سمع وما قرأ عن استبسال
عرب طرابلس وبرقة، وأريحية أهل مصر والشام وغيرهم من المسلمين،
واندفاع الجميع إلى السعي لإبقاء راية الهلال فوق تلك البلاد، بل أرسل زميله
رحمي بك إلى طرابلس ليختبر الحال، فلما عاد منها كان هو الذي أقنعه بأن
للجامعة الإسلامية وجودًا وتأثيرًا حقيقيًّا، فصرَّح الدكتور بذلك في خطبة له
رأيت ترجمتها في بعض الجرائد السورية، وأنا في البصرة عائد من الهند،
فهممت أن أكتب إليه كتابًا أذكره بما أعرف من آرائه وآراء رفاقه في الجمعية
وأبني على ذلك بعض الأسئلة والحجج.
نعم إن الجمعية بعد ذلك كله أرادت الاستفادة من الجامعة الإسلامية
واستثمار هذه القوة من وجوه منها استدرار المال من المسلمين كافة باسم
الخلافة ودولة الخلافة وحماية الإسلام، والمال هو المعبود الأول للجمعية كما
عرف ذلك من سيرتهم منذ الانقلاب إلى اليوم، ومنها تخدير أعصاب مسلمي
العرب العثمانيين حتى لا يطالبوا بحق لهم في دولتهم، ولا يعارضوا
الاتحاديين بشيء من مقاصدهم، ومنها استمالة مسلمي الترك والتتار
الروسيين بالدسائس العملية وسائر مسلمي المستعمرات الأوربية بالجرائد
وبعض المعممين الذين يسخرونهم لهذه الخدمة. ولأجل هذا أسسوا
جريدة الهلال العثماني لما رأوا الشيخ عبد العزيز شاويش مواتيًا لهم في كل
ما يستخدمونه به. وأمدوا جريدة العلم المصرية وبعض الجرائد السورية بقليل
من المال ووسعوا للهلال وأمثاله الحرية في تحريك العصبية الدينية والتنويه
بالجامعة الإسلامية، على تضييقهم على علماء الآستانة وسائر رجال الدين
بقدر الإمكان، ومنها غير ذلك مما لا يتسع هذا المقام لشرحه.
وجملة القول أن عبث الاتحاديين بالجامعة الإسلامية واستخدام مثل
الشيخ شاويش في ذلك، كان أكبر الأسباب التي زادت حَنَق دول الاتفاق الثلاثي
عليهم ظنًّا منها أنهم ما تجرأوا على ذلك إلا بإغراء ألمانية والنمسة لضعفهم
وعجزهم، فتصدت هذه الدول للتنكيل بالدولة وأسست روسية الاتفاق البلقاني
وأغرت دول البلقان بهذه الحرب وأمدتهن بالنفوذ حتى إن جرائد هذه الدول
كانت أقوى عضد للبلقانيين، فما جنينا من هذه المخادعة بالجامعة الإسلامية
إلا الزقوم واليحموم، وهذه عاقبة النفاق والغرور، والعياذ بالله مما هو أعظم
من ذلك.
... ... ... ... ... ... ... (نشرت في مؤيد ٢٧ محرم)
((يتبع بمقال تالٍ))