تولدت جراثيم الضعف في الدولة العلية العثمانية في عهد السلطان سليمان القانوني (رحمه الله تعالى) الذي بلغت الدولة في عهده أعلى مراقي القوة والعزة، ومن مائتي سنة إلى الآن يظهر الضعف في الدولة شيئًا فشيئًا، وهذه حقيقة لا ينكرها أحد، كيف وقد اعترف بها السلطان عبد المجيد عليه الرحمة واجتهد في الإصلاح وخط كلخانة شاهد رسمي على ذلك، واعترف بها أيضًا مولانا وخليفتنا السلطان الحالي عبد الحميد خان أيده الله تعالى ونصره في النطق الشريف الذي ألقاه على مجلس المبعوثان عند تأسيسه، وذلك شاهد رسمي آخر، وقد فصل جودت باشا في تاريخه الخلل بعلله وأسبابه، وهو تاريخ يُستقى من دفاتر الحكومة وأوراقها الرسمية. صدمت الدولة العلية في هذين القرنين صدمات شديدة، ما كانت دولة أخرى لتقوى على احتمالها في نهاية قوتها، فجميع الدول الأوروبية القوية خصيماتها يتربصن بها الدوائر، ويعاملنها بالمكر والخداع والمخاتلة، ورعاياها مؤلفة من ملل وأجناس لا توجد في مملكة من ممالك الأرض، وهم باستيلاء الجهل عليهم ألاعيب في يد أوروبا تحركها متى شاءت، فلا جرم كانت سياستها أصعب سياسة في العالم: جهل وفقر في الرعية، وضعف في الدولة، وأعداء أقوياء في الخارج. إذا تمهد هذا فاعلم أن مولانا السلطان الأعظم قد حمل على عاتقه حملاً لا تستطيعه أمة بمجموعها، ومن ثم ألف أحد الأمريكيين رسالة في مناقبه موضوعها: (هل ينهض بأعباء أمة عظيمة رجل واحد) وقد ظهر كتاب جديد في مناقبه لأحد الألمان أتى فيه بالعجب العجاب، وسننشر نبذًا منه في بعض الفرص إن شاء الله تعالى، والمشهور من سياساته الحكيمة في الشؤون الخارجية أكثر من الشؤون الداخلية، فإنه حفظه الله تعالى مقاوم بشخصه الكريم لأوروبا كلها، والمنتقدون على سياسته ينسبون لها التقصير في إصلاح داخلية المملكة، مع أنه قد أجرى فيها ما تعْلمه من الكتاب الذي ننشره تباعًا تحت عنوان (قليل من الحقائق عن تركيا في عهد جلالة السلطان عبد الحميد الثاني) لكن الذي يذهب ببهاء هذه الإصلاحات والأعمال الجليلة، العمال والحكام الخائنون، وهم كثيرون في الدولة جدًّا، وما كان السلطان ليقدر على تقويم الأفكار وإصلاح النفوس في سنة أو سنين، وإنما يحتاج هذا إلى عناية عظيمة بتعميم التربية والتعليم على أحسن الطرق وأفيدها، وفي ذلك الضمان الكافي لإصلاح المستقبل، وسنشرح رأينا في الإصلاح في اقتراح نرفعه إلى مقام الخلافة على صفحات هذه الجريدة، وقد أنبأنا البرق في هذه الأيام بأن سماحتلو شيخ الإسلام ودولتلو ناظر العدلية قد رفعا للحضرة السلطانية عريضة يلتمسون فيها الإصلاح الذي تضطر إليه الدولة في هذه الأوقات الحرجة، ولعل هذا لا يتم إلا بانتقاء الرجال الفضلاء الصادقين وتقليدهم الوظائف، وإلقاء التبعة عليهم في كل ما يوجبها، وإن في الدولة رجالاً قادرين صادقين، كما أن فيها قومًا ظالمين، وهكذا شأن كل الأمم، وشيخ الإسلام وناظر العدلية بيدهما زمام القضاء الذي هو أساس الإصلاح المتين وركنه الركين، فعسى أن يبدآ بالإصلاح القضائي ومولانا يساعدهما عليه بغير ريب، وقد تعلقت إرادته بتأليف لجنة برياسة ناظر المالية تبحث في شؤونها، ويتلو ذلك البحث في الأعمال الإدارية والمعارف إن شاء الله [*] .