للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


شبهة على الوحي

(س١) أحد قراء المنار بمصر:
حضرة الأستاذ الرشيد - عرضت لي شبهات في وقوع الوحي (وهو أساس
الدين) فعمدت إلى رسالة التوحيد للشيخ محمد عبده حيث وقع اختياري عليها
وقرأت في بابي (حاجة البشر إلى الوحي) و (إمكان الوحي) فوجدت الكلام وجيهًا
معقولاً غير أن الحاجة إلى الشيء لا تستلزم وقوعه وكذا إمكانه وعدم استحالته
عقلاً لا يقتضي حصوله. ثم ما ذكر بعد من أن حالة النبي وسلوكه بين قومه وقيامه
بجلائل الأعمال وبوقوع الخير للناس على يده هو دليل نبوته وتأييد بعثته فليس شيئًا،
فإنه قد يكون (كون) النبي حميد السيرة في عشيرته صادقًا في دعوته - أعني
معتقدًا في نفسه - سببًا في نهوض أمته ولا يكون كل ذلك مدعاة إلى الاعتقاد
به والتسليم له.
ولقد حدث بفرنسا في القرن الخامس عشر الميلادي؛ إذ كانت مقهورة للإنكليز
أن بنتًا تُدعى (جان دَارْك) من أجمل النساء سيرةً وأسلمهن نيةً اعتقدت وهي في
بيت أهلها بعيدة عن التكاليف السياسية أنها مرسلة من عند الله لإنقاذ وطنها، ودفع
العدو عنه وصارت تسمع صوت الوحي فأخلصت في الدعوة للقتال وتوصلت
بصدق إرادتها إلى رئاسة جيش صغير وغلبت به العدو فعلاً ثم ماتت غب نصرتها
موتة الأبطال من الرجال؛ إذ خذلها قومها ووقعت في يد عدوها فألقوها في النار
حية فذهبت تاركة في صحائف التاريخ اسمًا يعبق نشره وتضوع رياه.
وهي الآن موضع إجلال القوم وإعظامهم فلقد تيسرت لهم النهضة بعدها
وجروا في العلم والرقي بعيدًا فهل نجزم لذلك أن تلك البنت نبية مرسلة؟ ! ... ربما
تذهبون إلى أن عملها لا يذكر مقارنًا بما أتت به الرسل وما وصل للناس من الخير
بسببهم فأقول: هل هناك من ميزان نزن به الأعمال النافعة لنعلم إن كانت وصلت إلى
الدرجة التي يجب معها أن نصدق دعوة صاحبها وهل لو ساعدت الصدف (كذا)
رجلاً على أن يكون أكبر الناس فعلاً وأبقاهم أثرًا واعتقد برسالة نفسه لوهم قام يفضي
بنا ذلك إلى التيقن من رسالته؟ !
أظن أن هذا كله مضافًا لغيره يدعو إلى الترجيح ولا يستلزم اليقين أبدًا على
أنني أنتظر أن تجدوا في قولي هذا خطأً تقنعونني به أو تزيدونني إيضاحًا ينكشف به
الحجاب وتنالون به الثواب. هذا، وإني أعلم من فئة مسلمة ما أعلمه من نفسي
ولكنهم يتحفظون في الكتمان ويسألون الكتب خشية سؤال الإنسان ولكنني لا أجد في
السؤال عارًا وكل عقل يخطئ ويصيب ويزلّ ويستقيم. (أحد قرائكم) .
(جواب المنار)
لقد سَرَّنَا من السائل أنه على تمكن الشبهة من نفسه لم يذعن لها تمام الإذعان
فيسترسل في تعدي حدود الدين إلى فضاء الأهواء والشهوات التي تفسد الأرواح
والأجسام بل أطاع شعور الدين الفطري ولجأ إلى البحث في الكتب ثم السؤال ممن
يظن فيهم العلم بما يكشف الشبهة ويقيم الحجة، وإن كثيرًا من الناس شبوا على
حب التمتع والانغماس في اللذة ويرون الدين صادًّا لهم عن الانهماك والاسترسال
فيها، فهم يحاولون إماتة شعوره الفطري. كما أمات النشوء في الجهل برهانه
الكسبي.
أرى السائل نظر من رسالة التوحيد في المقدمات ووعاها ولكنه لم يدقق النظر
في المقاصد والنتائج لذلك تراه مسلّمًا بالمقدمات دون النتيجة مع اللزوم بينهما ولو
عاد إلى مبحث (حاجة البشر إلى الرسالة) وتدبره وهو مؤمن بالله وأنه أقام الكون
على أساس الحكمة البالغة والنظام الكامل، فإنني أرجو له أن يقتنع. ثم إنني آنست
منه أنه لم يقرأ مبحث (وقوع الوحي والرسالة) أو لعله قرأه ولم يتدبره فإنه لم
يذكر البرهان على نفس الرسالة ويبني الشبهة عليه وإنما بناها على جزء من أجزاء
المقدمات وهي القول في بعض صفات الرسل عليهم السلام. وإنني أكشف له
شبهته أولاً فأبين أنها لم تصب موضعها ثم أعود إلى رأيي في الموضوع.
إن (جان درك) التي اشتبه عليه أمرها بوحي الأنبياء لم تقُم بدعوة إلى دين
أو مذهب تدعي أن فيه سعادة البشر في الحياة وبعد الموت كما هو شأن جميع
المرسلين ولم تأتِ بآية كونية ولا علمية لا يعهد مثلها من كسب البشر تتحدى بها
الناس ليؤمنوا بها، وإنما كانت فتاة ذات وجدان شريف هاجه شعور الدين وحرَّكته
مزعجات السياسة؛ فتحرك، فنفر، فصادف مساعدة من الحكومة واستعدادًا من
الأمة للخروج من الذل الذي كانت فيه، وكان التحمس الذي حركته سببًا للحملة
الصادقة على العدو وخذلانه. وما أسهل تهييج حماسة أهل فرنسا بمثل هذه
المؤثرات وبما هو أضعف منها فإن نابليون الأول كان يسوقهم إلى الموت مختارين
بكلمة شعرية يقولها ككلمته المشهورة عند الأهرام.
وأذكِّر السائل الفطن بأنه لم يوافق الصواب في إبعاد الفتاة عن السياسة
ومذاهبها فقد جاء في ترجمتها من دائرة المعارف ما نصه: كانت متعودة الشغل
خارج البيت كرعي المواشي وركوب الخيل إلى العين ومنها إلى البيت وكان الناس
في جوار دومرمي (أي: بلدها) متمسكين بالخرافات ويميلون إلى حزب أورليان في
الانقسامات التي مزقت مملكة فرنسا وكانت جان تشترك في الهياج السياسي
والحاسة الدينية وكانت كثيرة التخيل والورع تحب أن تتأمل في قصص العذراء
وعلى الأكثر في نبوءة كانت شائعة في ذلك الوقت وهي أن إحدى العذارَى ستخلص
فرنسا من أعدائها. ولما كان عمرها ١٣ سنة كانت تعتقد بالظهورات الفائقة
الطبيعة وتتكلم عن أصوات كانت تسمعها ورؤى كانت تراها، ثم بعد ذلك ببضع
سنين خُيل لها أنها قد دُعيت لتخلص بلادها وتتوج ملكها، ثم أوقع البرغنيور تعديًا
على القرية التي وُلدت فيها، فقوى ذلك اعتقادها بصحة ما خُيل لها، ثم ذكر بعد
ذلك توسلها إلى الحكام وتعيينها قائدة لجيش ملكها وهجومها بعشرة آلاف جندي،
ضباطهم ملكيون على عسكر الإنكليز الذين كانوا يحاصرون أرليان وأنها دفعتهم
عنها حتى رفعوا الحصار في مدة أسبوع وذلك سنة ١٤٢٩. ثم ذكر أنها بعد ذلك
زالت خيالاتها الحماسية؛ ولذلك هوجمت في السنة التالية سنة (١٤٣٠) فانكسرت
وجُرحت وأسرت.
فمن ملخص القصة يعلم أن ما كان منها إنما هو تهيج عصبي، سببه التألم من
تلك الحالة السياسية التي كان يتألم منها مَن نشأت بينهم مع معونة التحمس الديني
والاعتقاد بالخرافات الدينية التي كانت ذائعة في زمنها. وهذا شيء عادي معروف
السبب وهو من قبيل الذين يقومون باسم المهدي المنتظر كمحمد أحمد السوداني
والباب؛ بل الشبهة في قصتها أبعد من الشبهة في قصة هذين الرجلين وإن كانت
أسباب النهضة متقاربة فإن هذين كانا كأمثالهما يدعوان إلى شيء يزعمان أنه
إصلاح للبشر في الجملة.
أين هذه النوبة العصبية القصيرة الزمن، المعروفة السبب، التي لا دعوة
فيها إلى علم ولا إصلاح اجتماعي إلا المدافعة عن الوطن عند الضيق التي هي
مشتركة بين الإنسان والحيوان الأعجم، التي لا حجة تدعمها، ولا معجزة تؤيدها،
التي اشتعلت بنفخة وطفئت بنفخة، أين هي من دعوة الأنبياء التي بيَّن الأستاذ
الإمام أنها حاجة طبيعية من حاجات الاجتماع البشري طلبها هذا النوع بلسان
استعداده فوهبها له المدبر الحكيم {الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} (طه:
٥٠) ؛ فسار الإنسان بذلك إلى كماله فلم يكن أدنى من سائر المخلوقات الحية
النامية بل أرقى وأعلى. وأين دليلها من أدلة النبوة وأين أثرها من أثر النبوة؟
إن الأمم التي ارتقت بما أرشدها إليه تعليم الوحي إنما ارتقت بطبيعة ذلك
التعليم وتأثيره وإن فرنسا لم ترتقِ بإرشاد (جان درك) وتعليمها وإنما مثلها مثل
قائد انتصر في واقعة فاصلة بشجاعته وبأسباب أخرى ليست من صنعه واستولت
أمته بسبب ذلك على بلاد رقتها بعلوم علمائها وحكمة حكمائها وصنع صناعها ولم
يكن القائد يعرف من ذلك شيئًا ولم يرشد إليه فلا يقال: إن ذلك القائد هو الذي أصلح
تلك البلاد وعمرها ومدنها، وإن عدّ سببًا بعيدًا فهو شبيه بالسبب الطبيعي كهبوب
ريح تهيج البحر فيغرق الأسطول وتنتصر الأمة.
أين حال تلك الفتاة التي كانت كبارقة خفت (ظهرت وأومضت) ثم خفيت،
وصيحة علت ولم تلبث أن خفتت، من حال شمس النبوة المحمدية التي أشرقت
فأنارت الأرجاء، ولا يزال نورها ولن يزال متألق السناء، أمي يتيم قضى سن
الصبا وسن الشباب هادئًا ساكنًا لا يعرف عنه علم ولا تخيل ولا وهم ديني ولا شعر
ولا خطابة ثم صاح على رأس الأربعين بالعالم كله صيحة: إنكم على ضلال مبين،
فاتبعونِ أهدكم الصراط المستقيم، فأصلح - وهو الأمي - أديان البشر:
عقائدها وآدابها وشرائعها وقلب نظام الأرض، فدخلت بتعليمه في طور جديد؟ لا
جرم أن الفرق بين الحالين عظيم إذا أمعن النظر فيه العاقل.
لا سعة في جواب سؤال لتقرير الدليل على النبوة وإنما أحيل السائل على
التأمل في بقية بحث النبوة في رسالة التوحيد ومراجعة ما كتبناه أيضًا من الأمالي
الدينية في المنار، لا سيما الدرس الذي عنوانه (الآيات البينات على صدق
النبوات) وإن كان يصدق على رسالة التوحيد المثل: (كل الصيد في جوف الفرا)
فإن بقي عنده شبهة فالأولى أن يتفضل بزيارتنا لأجل المذاكرة الشفاهية في
الموضوع فإن المشافهة أقوى بيانًا، وأنصع برهانًا، ونحن نعاهده بأن نكتم أمره
وإن أبى فليكتب إلينا ما يظهر له من الشبهة على ما في الرسالة والأمالي من
الاستدلال على وقوع النبوة بالفعل وعند ذلك نسهب في الجواب بما نرجو أن يكون
مقنعًا على أن المشافهة أولى كما هو معقول وكما ثبت لنا بالتجربة مع كثير من
المشتبهين والمرتابين.