وخطر المسألة الشرقية (٥) قد وصلنا إلى الخطر فإلى متى نغش أنفسنا؟
كتبت في شهر المحرم فاتحة هذا العام أربع مقالات في هذا الموضوع، ثم شغلت عن إتمام ما بدأت به من أسباب خذلان دولتنا في هذه الحرب حتى حدثت فتنة جمعية الاتحاد والترقي الأخيرة بزعامة أنور بك، فأسقطت وزارة كامل باشا وقتلت ناظر الحربية ناظم باشا في الباب العالي، ونصَّبت وزارة اتحادية جديدة صدرها وناظر حربيتها محمود شوكت باشا، فتعجل البلقانيون على إثر ذلك بقطع الهدنة، وأعيدت الحرب جذعة. كنت عازمًا على أن أبين في سلسلة هذه المقالات جميع الأسباب التي فتحت علينا باب المسألة الشرقية، بحرب طرابلس الغرب فالحرب البلقانية، وأن لا أدع من تلك الأسباب مسألة واحدة أومئ إليها ولا أبينها، وهي عبث جمعية الاتحاد والترقي بالعرش السلطاني ومقام الخلافة، تكريمًا لهذا المقام، واحترامًا للجالس على ذلك العرش. فلما حدثت الثورة الاتحادية وظن الناس - ولم أظن - أن ألمانية ستؤيد تلاميذها الاتحاديين، والنمسة وإيطالية معها ظهير، وأن دهاقين السياسة المحنكين سيعرضون عمران أوربة كله للتدمير، انتصارًا لهؤلاء الأحداث المخربين، ولما رأيت أوربة قابلت هذه الفتنة بهدوئها المعتاد، ورأيت جماهير المسلمين لم يقدروا ضررها حق التقدير، ولم يفكروا في عاقبة الحرب حق التفكير، بل ألقوا السمع إلى سماسرة التغرير، وحسبوا أن ما يرجون من النصر يدفع عن الدولة ما كان يخشى من الخطر - لما كان ذلك كله كما ذكرت، ورأيت أن التمادي في السكوت أولى فتماديت، إلى أن قرأت في جرائد مساء أمس ومؤيد صباح هذا اليوم (السبت ٩ ربيع الأول) هذه البرقية الرسمية الواردة من عاصمة النمسة، فكانت هي الباعثة على العود إلى الكتابة في ذلك الموضوع مكتفيًا منه بالبحث في النتيجة والعاقبة، وهذه ترجمتها: نشرت الحكومة بلاغًا رسميًّا أزالت به المخاوف التي تسربت إلى الأفكار بشأن مهمة البرنس (هوهنلوه) حاجب عاهل النمسة، وقد جاء في البلاغ أن البرنس لقي في روسية مقابلة في منتهى المودة والصداقة، وأن الأسباب القديمة التي أسفرت عن حصول نزاع في روسية قد زالت، وأن الشعوب البلقانية صارت الآن عضوًا من أعضاء الأسرة الأوربية الغربية، وستهتم حكومة النمسة والمجر اهتمامًا خاصًّا بترقية هذه الشعوب وإعلاء شأنها. تفكرت في هذه البرقية مليًّا، وقارنت بينها وبين ما ورد قبلها من نبأ الوفاق والتواد بين إنكلترة وألمانية، وقلت في نفسي: إن هذا الاتفاق بين هذه الدول لا يكون في هذا الوقت إلا علينا، ولا بد أن يكونوا به قد صاروا إلبًا واحدًا على الدولة العثمانية التي كان أساس سياستها الخارجية، أنه لا بقاء لها إلا بتنازع الدول عليها، وسواء صح اتفاقهم النهائي علينا الآن، أم أخروه إلى أعوام، فالنتيجة واحدة، وهي أنه يجب أن تكون حياتنا ذاتية لنا، لا بتنازع الدول علينا، وأن نفكر في طريق اتفاق الدول وكيفية حلهم للمسألة الشرقية، التي كانت عضلة العقد وأم المشاكل، هل يقسمون ما بقي بأيدينا فيحتل كل منهم حصته احتلالاً عسكريًّا؛ لأن الدولة لا تستطيع مقاومتهم فتنتهي بالفتح الحربي أم اختاروا لها صورة من صور الفتح السلمي؟ وقد تفكرت فكان الثاني هو المرجح عندي، فإن هذه الدول العاقلة الرشيدة تأبى الاستيلاء على سائر بلاد الدولة الغالب عليها الخراب والجهل بالاحتلال العسكري لأسباب متعددة: منها: أن ذلك يقتضي نفقات كثيرة هم في غنى عنها. ومنها أنه لا بد أن يفضي إلى ثورات وفتن داخلية في البلاد التي يغلب على أهلها البداوة كالبلاد العربية والكردية وما يجاورها، وهم في غنى عن سفك الدم الأوربي المقدس! في أرض الهمجية في عرفهم، وفي إنفاق المال على ذلك. ومنها: أنه يترتب على ذلك وقوع العداوات والأحقاد بين المحتلين، وأهالي البلاد المسلمين، فيكون ذلك مؤخِرًا للاستفادة من استعمارها. ومنها: أن ما تطمع فيه كل دولة منها وتعده من منطقة نفوذها ليس بينه وبين ما تطمع فيه الأخرى حدود طبيعية يُؤمَنُ بها التنازع بين المحتلين مع ما بينهم من المناظرة والمباراة، بل الشقاق والمعاداة، ولا يتيسر الآن إقامة معاقل تتكافأ بها القوى فيخشى أن تقع بينهم الحروب لأجل ذلك. ومنها: أنه لا يوجد في أكثر هذه البلاد ثكنات ولا قلاع ولا حصون للجيش ولا مباني تليق بالأوربيين الذين يتولون الإدارة والأعمال، ولا طرق حديدية لنقل العسكر عند الحاجة ولسهولة المعيشة، فلهذا يتعذر اتقاء خطر التنازع الذي أشرنا إليه في الوجه الذي قبل هذا ويتعذر تلافي خطر الثورات والفتن الداخلية. ومنها: أنه لا يوجد عندهم العدد الكافي من الرجال، الذين يصلحون لتولي الأعمال، ويرجى أن تصلح بهم الحال، ومنها أن ذلك أشد ما يوقظ به استعداد مسلمي الأرض كافة، ويوجه قلوبهم إلى وجوب السعي للانتقام ممن أزالوا ملكهم، وهدموا سلطان دينهم. تلك هي الأسباب المانعة من الفتح الحربي، وأما الفتح السلمي فهو إدارة البلاد وحكمها بواسطة أشباح من العثمانيين تحسبهم عامة الأمة رجالاً منها، فلا يؤدي إلى هذا المحظور. يا سبحان الله! إن ساسة أوربة ينشرون في رسائلهم وجرائدهم الآراء في كيفية إزالة هذه الدولة كما أزالوا دولة مراكش ودولة إيران ولا نرى أحدًا من المسلمين يعتبر أو يفكر، ولا نقول يسعى أو يعمل. وما هو رأيهم في كيفية إزالتها؟ نشر مدير مجلة (العالم الإسلامي) الفرنسية رسالة في أوائل العهد بهذه الحرب سماها (المسألة الشرقية) أشار فيها إلى أن أمثل الطرق في حل هذه المسألة أن تجعل الدولة العثمانية تحت مراقبة الدول كما تجعل حكومة ألبانية الجديدة. وبيَّن أن من مسهلات ذلك: سبق الدولة إلى جعل جميع مقومات حياتها في أيدي الأوربيين كمجلس الديون العمومية، وشركة احتكار الدخان، والبنك العثماني، والسكك الحديدية، والمستشارين الماليين، والمعلمين العسكريين، والمدارس والصناعات والملاحة، فلم يبق إلا تحويل نفوذ السفراء في الآستانة إلى سلطة شوروية مختلطة تكون هي المشرفة على حكومة العاصمة والمديرة لها، ويجعل وكلاء الدول في الولايات والمتصرفيات مسيطرين على الحكام فيها، ويكون من أهم عملهم تحديد النفقات العسكرية؛ لأن العسكر لا يبقى من الحاجة إليه إلا حفظ الأمن (كالعسكر المصري) وأما الخلافة فتظل محترمة بصفة كونها إمامة دينية فيكون السلطان محصورًا في قصره لا سلطة له ولا قوة. ويقول الكاتب: إن هذا يثقل على أصحاب المناصب والأهالي، ولكن الدولة في حالة إفلاس، وسيعلم رجالها أنه لا يمكن بقاؤها إلا بهذه الطريقة، وسيتعود الأهالي الخضوع لسلطة وكلاء الدول كما خضعوا لرجال الانقلاب العثماني أي: وهم أخلاط وأوشاب لا يعرف لهم عرق راسخ في الأمة كما بيَّنه الكاتب في موضع آخر من رسالته. وقد قرأنا في مؤيد هذا اليوم ترجمة برقية أرسلها صاحب جريدة أقدام التركية من فينة إلى جريدته بالآستانة يؤيد هذا الرأي، وهي هذه: عقد مندوبو البنك الشرقي الألماني والبنك الأهلي والعثماني جلسة في باريس تداولوا يها بمسألة القرض الذي تطلبه الوزارة العثمانية وقرروا أن يقرضوا الحكومة ما يكفيها لدفع رواتب الموظفين والضباط والجنود فقط. وطلبوا في مقابل ذلك أن يمنح لشركة إنكليزية امتياز ري أراضي الجزيرة. وأن تمنح إلى شركات فرنسوية امتيازات إنشاء الخطوط الحديدية في الأناضول، وأن تمنح إلى شركات ألمانية امتيازات إنشاء خطوط حديدية تتفرع عن الخط الأصلي لسكة حديد بغداد. وأن تصدق الحكومة على تمديد امتياز احتكار الدخان في المملكة العثمانية لشركة الريجي. وإجراء إصلاح في ميزانية نظارة الحربية. وأن يكون لهذه البنوك حق المراقبة على النفقات العمومية للحكومة. وأخيرًا أن تفوض إلى مصلحة الديون العمومية مسألة عقد القروض. اهـ. يقرأ المسلمون مثل هذا في الجرائد وتراهم وادعين ساكنين لا يهتمون بها ثم تراهم يهيجون لذكر أخذ أدرنة أو نصف أدرنة، ويشيد بعضهم بإطراء جمعية الأحمرين التي تجدّ ببيع ما بقي من هذه الدولة لأوربة بالرهون والامتيازات، فما هذا الجهل والغرور؟ نعم إن أمتنا الإسلامية قد استحوذ عليها الجهل والغرور معًا، وصار رؤساؤها وكبراؤها شرارها، فمن ذا الذي يعلمها ويهديها رشدها؟ إن السيادة والسلطة أعلى وأغلى شيء في نفسها، وقد كان لها ممالك كثيرة فكانت تزول بالتدريج وهي لا تعقل سبب زوالها، ولا تعتبر اللاحقة بما حل بالسابقة منها. تألفت الدولة العثمانية من عدة من هذه الممالك فكانت أكبرها وأقواها، ولكنها منذ صارت القوة تُبنى على أسس العلم والنظام صارت هي ترجع القهقرى في كل شيء، فهي منذ أزال السلطان محمود منها قوة الإنكشارية الهمجية إلى هذا اليوم، لم تقدر أن تؤسس قوة نظامية تحفظ بها ملكها الواسع، ولو بحيث تنجو من طمع الطامع، وإنما اكتفت من القوة المنظمة في الجملة بالقدر الذي يُمكِّن العاصمة البيزنطية من تذليل جميع الشعوب العثمانية، وجباية الضرائب والمكوس منها؛ ليتمتع أهل تلك العاصمة ومن حولهم بها، وكانوا يرون أن ذلك لا يدوم لهم إلا ببقاء الأمة على جهلها، فكان مصير ثروة الدولة والأمة كلها إلى أوربة، ولكن المسلمين راضون لجهلهم بسوء حالهم، ومقتنعون بأن لهم دولة قوية تحمي حماهم وحرمهم، فهذا الجهل والغرور هو الذي انتهى بالدولة إلى هذا المصير، ولا يزال المسلمون على غرورهم يحثون الدولة على الحرب، رجاء أن يكون لها الغلب فيعود إليهم التلذذ بالطمأنينة على ملك الإسلام، الذي تمثله لهم الأماني والأوهام، وإن زالت اللذة بعد شهور وأيام: أماني من سعدى عذاب كأنما ... سقتنا بها سعدى على ظمأ بردا مُنًى إن لم تكن حقًّا تكن أحسن المنى ... وإلا فقد عشنا بها زمنًا رغدا أيها الإخوة المخلصون في الغيرة على الملة والدولة، إن الرائد لا يكذب أهله، اعلموا أن الدولة على شفا جرف من الخطر، وأن استيلاء أوربة عليها بالفتح السلمي أقرب غائب ينتظر، ومن مقدماته الفتنة الثورية التي حدثت في الآستانة وما سيعقبها من الفتن، ولا منجاة للدولة ولا لمثيري الفتنة بنصر يرجى لأخذ نصف مدينة أدرنة، ولا أخذ كل تلك المدينة، ولا بلجنة الدفاع الملية، ولا بالإعانات والضرائب الحربية، وقد كنتم مغرورين بجيش عبد الحميد، وسررتم بظفره باليونان، ثم أنفق الاتحاديون باسم هذا الجيش خمسين مليونًا من الليرات، ولم يمنع البلقانيين أن يسلخوا من الدولة بضع ولايات تضاهي جميع ممالكهم، فهل يمنع الدول الكبرى من أخذ الباقي إذا هي اتفقت على ذلك؟. أيها الإخوة المخلصون للدولة والإسلام، إنني أنا النذير العريان، الذي حمله الإخلاص في النصح على تعريض عرضه للسب والشتم، بل تعريض ماله للسلب ونفسه للقتل، اعلموا أن الدولة على خطر الزوال، فيجب على العقلاء منكم أن يفكروا أولاً في عاقبة سلطة الإسلام، وحفظ حرم الله تعالى وحرم رسوله عليه الصلاة والسلام، فإن أدرنة التي خدعتم بتعظيم أمرها، لا تغني فتيلاً في الدفاع عنهما، وإنما حفظهما بحفظ سياجهما والبلاد والسواحل المحيطة بهما، ثم أن يفكروا ثانيًا بحفظ سائر بلاد الدولة ووقايتها من امتلاك الأجانب لها، وحفظ استقلال الدولة فيها. سمعتم أن جمعية الاتحاد والترقي قد أسست في الآستانة لجنة باسم الدفاع الملي، أي الوطني أو الجنسي، وأنها كتبت إلى جميع البلاد العثمانية تطلب الإعانة المالية على ذلك، وكتبت إلى غير البلاد العثمانية في هذا الأمر كما كتبت في غيره، وقد كنت أول من اقترح على الدولة الاستعداد للدفاع الوطني العام، وأكدت وجوبه في العام الماضي بما كتبت في المنار، ولكن لا على الوجه الذي تدعو إليه الجمعية الآن، فإن فائدة هذا محصورة في الاتحاديين يبغون به الدفاع عن أنفسهم وتوسيع موارد ثروتهم، وسيظهر هذا لجميع الناس، وأما هذه الحرب فستحكم في صلحها أوربة حكمها النافذ الذي لا مرد له. ما كل ما يعلم وما يجب أن يعمل يجوز أن يكتب وينشر، وإنما أقول: إن استبقاء السلطة الإسلامية وحفظ الحرمين لا يزال ممكنًا، ولا ينفذ إلا بجمع المال، فيجب الآن على جميع أهل الغيرة والبصيرة من مسلمي الأرض أن يجمعوا المال لذلك، ويحفظوه حفظًا إلى أن يتبين لهم العمل الذي لا شك فيه بواسطة مؤتمر يعقد لذلك من أهل الغيرة والبصيرة في العالم الإسلامي كالأمير عمر باشا طوسون من مصر والنواب وقار الملك من الهند، فهذا كل ما يجب الآن، والسلام (وسنعود إلى هذه البحث في الجزء الآتي، إن شاء الله تعالى) .