للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


خطبة على أعضاء المجلس العمومي ببيروت

دعا كامل بك الأسعد كبير عشائر جبل عامل رفاقه أعضاء المجلس العمومي
بولاية بيروت إلى داره فيها، وأعد لهم مأدبة حضرها صاحب هذه المجلة وبعض
وجهاء بيروت. وبعد الفراغ من الطعام، وقف دعاس أفندي جريس أحد الأعضاء
وأثنى على رب الدار، وأطرى صاحب المنار، وأشار إلى رغبة الحاضرين في
استماع شيء منه في موضوع المجلس العمومي، ورأيت الأنظار موجهه إليّ تنتظر
الإجابة، فشكرت، وقلت بعد مقدمة فكاهية ما ملخصه:
إن للمجلس العمومي فائدتين: فائدة اجتماعية وفائدة عملية، أما الفائدة
الاجتماعية فهي تنشئة الأمة وتربيتها على الحكم؛ أعني حكمها لنفسها بنفسها.
إن أمر هذه المجالس العمومية من أفضل ما في القانون الأساسي من الإصلاح
فلو لم يكن للأمة أحد من قبلها ينظر في مصالحها إلا المبعوثون في عاصمة السلطنة
لأمكن أن يبقى أهل الولايات ولا سيما البعيدة عن العاصمة جاهلين لمعنى مشاركة
الأمة للحكومة في إدارة مصالحها؛ ولكن وجود أفراد من كل قضاء بكل ولاية في
مجلس قريب منهم، يشرف على أعمال حكومتهم، وينظر في مصالحهم ومنافعهم
هو الذي يعلمهم بالعمل معنى الحكومة الديمقراطية، ويجعلهم واثقين بأن حكامهم
عمال مخلصون لا سادة قاهرون، وأنهم لا يستطيعون أن يستبدوا فيهم أو يظلموهم
إلا إذا ظلموا هم أنفسهم.
إن المبعوثين يشتغلون بأمور الدولة الكلية، فمصالح الأهالي لا تتعلق بهم
مباشرة، وإنما تتعلق بحكومتهم المحلية، فذلك المجلس ينظر في القوانين العامة.
ولكنه لا ينظر في كيفية العمل بها في كل قضاء بحسب حاجته. ولكن هذه المجالس
العمومية هي التي تنظر في ذلك، فتقرر إصلاح كذا من الطرق، وإنشاء كذا من
المكاتب والمدارس في الأماكن التي تعنيها الأهالي، يرون ذلك بأعينهم، ويعلمون
أنهم نالوه برأي نوابهم ونفوذهم في حكومتهم، فبذلك يتربون على الحكم النيابي
ويعرفون قيمته، فلا يرجعون عنه، ولا يرضون بالحكم الشخصي بعده.
إن مجلسكم هذا صورة مصغرة لمجلس المبعوثان، فإذا قمتم بما عهد إليكم
كما يرجى من غيرتكم وخبرتكم، إنكم تكونون أولى من غيركم بالترجيح في
الانتخابات القابلة؛ لأن الأهالي يكونون قد وثقوا بكم عن تجربة وخبرة، كما
يكونون أكثر عناية بالانتخاب، وأكبر أملاً في المنتخَبين.
إن ما ذكرت في معنى تربية الأمة على الحكم النيابي أمر عظيم، يجب أن
يكون نصب أعينكم، فإن له علاقة عظيمة بمستقبل البلاد وعظمة الدول. إن الدولة
لا تكون دولة دستورية إلا إذا استقر الحكم الدستوري في كل ولاية من ولاياتها،
وعمرت به البلاد، وارتقى أهلها.
إن كل ولاية من الولايات تعد عضوًا من أعضاء جسم الدولة، ولا يمكن أن
يكون الجسم حيًّا قويًّا سويًّا إذا كان بعض أعضائه صحيحًا، وبعضها مصابًا بالفالج.
ثم إنني أذكركم بما لا تنسونه من أن في الأمة حزبًا يرى وجوب استقلال
كل ولاية من ولايات الدولة في إدارتها الداخلية كالولايات الألمانية والولايات
المتحدة، فإذا كانت البلاد العثمانية غير مستعدة لذلك الآن، وإذا كان هذا الحزب
الآن ضعيفًا لا يستطيع تنفيذ رأيًا، فما يدرينا ماذا يكون في المستقبل البعيد أو
القريب من أمره وأمر البلاد؟ ألا يجوز أن يقوى، بعد أن تكون الوزارة في يوم ما
من أعضائه، والرأي الغالب في مجلس الأمة هو رأيه؟ (يجوز يجوز) إذًا
كيف يكون حال ولايتنا هذه، وسائر الولايات العربية التي هي دونها، ودون
سائر ولايات الدولة في الاستعداد للاستقلال الإداري؟ إننا نعترف بأننا عاجزون
الآن عن إدارة شؤون ولايتنا بدون استعانة بإخواننا من الترك، مع أن ولايتنا
أرقى الولايات العربية، وقد قلت من قبل، وكتبت في المنار: إن الولايات
السورية تعد وسطًا في الاستعداد والارتقاء، بين ولايات الروملي وبعض ولايات
الأناطول، وبين سائر الولايات العربية كالعراق والحجاز واليمن. فيجب أن
نرقي أنفسنا، وأن نكون مصدرًا أو عونًا لسائر الولايات العربية على الارتقاء،
بل أقول: إن إخواننا الترك الذين نعترف لهم بأنهم أرقى منا، لا يستغنون الآن
عن الاستعانة بالأجانب؛ لترقية ولاياتهم، كما نحتاج نحن إليهم وإلى الأجانب.
وهذا الرأي عندي قديم، وقد كاشفت به متصرف طرابلس والوالي أيضًا،
فمن المحتم أن نوجه جل عنايتنا للحكم الذاتي، والاستغناء بأنفسنا عن الأجانب.
أيها الأعضاء الكرام: إن هذا الغرض الذي تطالبون به عظيم. ولكن قوة
الإرادة في الإنسان تصغر كل عظيم، وتسهل كل عسير، فإذا وجَّهتم عزائمكم إلى
ذلك بالإخلاص، فإنكم تصلون إلى الغاية بإذن الله.
وقلَّ من جد في أمر يحاوله ... واستعمل الصبر إلا فاز بالظفر
يري بعض الفلاسفة أن الإنسان لا يجزم إرادته بأمر ممكن إلا وينفذ،
وكان الأستاذ الإمام على هذا الرأي، وقد قال أكثر من مرة: إنه لم يجزم إرادته
بطلب شيء جزمًا تامًّا لا تردد فيه إلا وحصل، وقد كان حكماء الصوفية على هذا
الرأي، وعبر عنه بعضهم بقوله: (إن لله عبادًا إذا أرادوا أراد) أي: إذا صح
توجه إرادتهم إلى شيء تعلقت به إرادة الله، وما تعلقت به إرادة الله نفذ حتمًا،
فعلى الإنسان أن يعرف قيمة نعمة الإرادة، فيوجهها إلى خدمة وطنه جازمًا بأنه
أهل لأن يرقيه، وهو بهذا يكون أهلاً له مهما كانت معارفه، فإن تفاضل الناس
بالإرادة فوق تفاضلهم بالمعرفة فما كل عالم ينفع كل من أراد أن ينفع، فإنه ينفع
على قدر استعداده.
هذا ما أحببت أن أذكر به من أمر الفائدة الاجتماعية في المجالس العمومية.
وأما الفائدة العملية فهي قسمان: مادية، وأهمها إصلاح الزراعة، وتسهيل
المواصلات، وتعديل الأموال الأميرية. ومعنوية وهي التربية والتعليم، والبحث
في هذه المسائل يطول، وأنتم أعلم بحاجة البلاد وطرق عمرانها من رجل مثلي
ليس له مثل اختباركم؛ ولكنني أذكركم بثلاث أمور تتعلق بالتعليم، هي أهم
المسائل في رأيي: مراقبة التعليم والتربية في المدارس، وإنشاء مدرسة للمعلمين،
وإحياء لغة البلاد.
إن مدارس الحكومة ليس فيها تربية ولا تعليم نافع، بل ربما كان ضررها
أكبر من نفعها، وإنما كان حظ الحكومة المستبدة السابقة منها هو التمتع بصورة
الملك دون التربية التي تكوِّن النفوس الفاضلة، والتعليم الذي يربي العقول الكبيرة.
إن الدولة تؤلَّف في هذا العصر من عدة وزارات، منها وزارة المعارف.
وهذه الوزارة لا تكون بغير مدارس، فكان بقاء المكاتب والمدارس في عهد
الاستبداد الماضي لدولتنا؛ لأجل استكمال صورة الملك والتمتع بها، فإن التمتع
بالمظاهر الصورية له لذة كما ترون في تمثيل القصص، وإلا فإن الاستبداد كان
يحارب العلم حربًا عوانًا، فإن أردتم أن يكون التعليم نافعًا في مدارس الحكومة
فيجب أن تبدؤا بالأمر الأول؛ وهو مراقبة التعليم: بأن تطلبوا تعيين مفتشين ممن
يرضى الأهالي معرفتهم وغيرتهم وصدقهم، يتعاهدون هذه المدارس، ويراقبون
سيرة مديريها ومعلميها في التربية والتعليم , ثم إن فساد التعليم في الزمن الماضي،
قضى بأن يكون المعلمون الأكفاء فينا أندر من الكبريت الأحمر، فالإصلاح الحقيقي
للتعليم يتوقف على إنشاء مدارس؛ لتخريج المعلمين القادرين على التربية والتعليم
بالطرق العصرية القريبة. يجب أن يكون الأستاذ المعلم على علم بالفن الذي يعلمه
مهذبًا؛ ليكون قدوة للمتعلمين في الفضيلة؛ فإن فاقد الشيء لا يعطيه. ويجب أن
يكون مع ذلك عارفًا بطرق التربية والتعليم، فما كل مهذب يعرف كيف تتكون
ملكات الفضائل في النفوس، ولا كل عالم يعلم كيف ترسم مسائل العلوم في الأذهان
فلا بد من إنشاء مدرسة للمعلمين في مركز الولاية.
وأما إحياء لغة البلاد وأعني بها اللغة العربية، فالذي نطالب به الحكومة من
وسائله؛ هو جعل تعليمها في مدارسها كلها إلزاميًّا كأختها التركية، وجعل دراسة
العلوم في الولايات العربية بلغة أهلها، وفي سائر الولايات بالتركية، كما كان
بحسب القانون، والذي يقرر هذا هو مجلس الأمة في الآستانة، وإنما على
المجالس العمومية المطالبة به.
لا يقال: إن هذا يفتح علينا باب تعصب الجنسيات في الدولة، وإننا في أشد
الحاجة إلى الاتفاق والتئام الأجناس، فإن الفرق بين العرب وبين ماعدا الترك من
الأجناس واضح جدًّا.
إن الشعب العربي يعد نحوًا من ثلثي نفوس الدولة، ويقل فيه من يعرف
التركية. وأما سائر الأجناس - الألبانيين والأكراد والأرمن والروم - فكلهم يعرفون
اللغة التركية. فلا يحتاج الحكام والموظفون فيهم إلى معرفة لغاتهم؛ ليحسنوا القيام
بأعمال الحكومة فيهم، بل إن أكثرهم ليس لهم لغات علمية ذات فنون ومعاجم
تصلح للتعليم، فالأرمن قريبو عهد بتدوين لغتهم وجعلها تعليمية، والألبان والأكراد
لما يتم لهم ذلك. قرأنا بعض جرائد هذا الشهر أن الألبان قد عزموا على اختيار
الحروف العربية للغتهم التي يشتغلون بتدوينها، ومن المقرر أن غرض الحكومة
الأول من مدارسها هو تخريج الموظفين الأكفاء، فإذا كان المتخرجون فيها جاهلين
باللغة العربية التي هي لغة أكثر العثمانيين، يتعذر عليهم أن يقوموا بوظائفهم كما
يجب في أكثر بلاد الدولة، فإن من يجهل لغة قوم يتعذر عليه أن يعرف حقيقة
حالهم، وما ينبغي لهم وما يتظلمون منه. ولا يقول عاقل: إنهم يستغنون
بالمترجمين؛ لما في ذلك من العسر والنفقات، وأين يتعلم المترجمون؟ على أن
العربية ركن للتركية، فتعلُّمها يزيد المتعلم كمالاً فيها. أما جعل اللغة العربية هي
لغة العلوم، والاكتفاء من التركية في بلادنا بالقراءة والكتابة؛ فذلك أن الأمة التي لا
تتلقى العلوم بلغتها لا تكون أمة علم، وإنما يكون مبلغها من العلم؛ أن يوجد فيها
بعض المترجمين لبعض ما يقرره العلماء المستقلون، ولا يوجد فيها المحققون
والمخترعون والمكتشفون.
إن لغة الأمة صفة مقومة لها، واللغات التي يتعلمها بعض أفرادها أعراض
تعرض لها وتفارقها، فإذا تلقت العلم بلغتها، يصير صفة لها حية بحياتها نامية
بنمائها، وإذا تلقته بلغة أجنبية فقصاراه أن يكون زينة عارضة لبعض أفرادها، ولا
ارتقاء للأمم في هذا العصر إلا بالعلم، فيجب علينا أن نبذل جل عنايتنا في تحصيل
العلوم العصرية ونقلها إلى لغتنا، ولا حياة لنا بغير ذلك، وإننا في عملنا هذا لا
نبعد عن إخواننا الترك، بل نكون إخوة متساوين في المزايا والحقوق، كما يجب
أن يكون الإخوة. والمساواة الحقيقية لا تكون مع التفاوت في العلم والعرفان
(فليس سواء عالم وجهول) .
أرجو عفوًا؛ فقد أطلت عقب الأكل ووقت طلب الراحة، فإن خلطت في
الكلام؛ فربما كان سبب ذلك الخلط في الطعام، وتوجه أكثر الدم إلى المعدة، وأقله
إلى الدماغ، والسلام.