وأثر السلطان عبد الحميد في الدولة ومقاومته للدستور (استدراك على المنار)
صديقي الأستاذ الحكيم نشرتم في العدد الماضي رسالة الفاضل مولوي إنشاء الله ورسالة جريدة أبزرور الهندية في الانقلاب العثماني، وفيها ما يدل على أن نبأ خلع السلطان عبد الحميد أثر تأثيرًا سيئًا في الأقطار النائية الإسلامية، وأنهم يرون أنه قد افْتِيتَ عليه بالخلع؛ لما له من المآثر الكثيرة في الدولة، وقد عدد الكاتب تلك المآثر الموهومة وعقبتم عليها برأيكم في الخلع، وتفنيدكم لأقوال الكاتب، وبسطتم الكلام بسطًا وافيًا؛ إلا أنه يمكن أن يستدرك عليكم في الأدلة على بيان خطأ الكاتب في الدعاوى التي استخلصتموها من مقاله، ورددتم عليها، فرأيت أن أكون متممًا لمقالكم مع زيادة في الإيضاح؛ إقناعًا لإخواننا مسلمي الهند ومن حذا حذوهم في الاعتقاد الحسن بالسلطان عبد الحميد، فأقول: إن النقط الست الأولى التي تتعلق بسيرة عبد الحميد بعد الدستور، لا أريد أن أكتب على كل نقطة منها بمفردها زيادة عما كتبه المنار الأغر، بل أقول فيها كلها كلمة إجمالية، وأكتب على النقط الأخرى التي تتعلق بحياته بعد الدستور، كل نقطة بمفردها. أما كلمتي الإجمالية: فهي أن السلطان عبد الحميد لم يكن يومًا قط مخلصًا للدستور، والدليل على ذلك أنه أعطاه مكرها، كما ذكر ذلك المنار الأغر، ومن طالع كتاب خواطر نيازي يتضح له ذلك، وأنه لم يأل وحواشيه جهدًا في غضون الحركة الأولى في استنباط الوسائل التي تفت في عضد الأحرار في سلانيك؛ لما طالبوه بإعادة القانون الأساسي وهددوه بسوق الجيش إلى الآستانة، فأصر على رفض طلبهم ومقاتلتهم بقوة جنود الأناضول، وفعلاً استدعى عدة توابير من رديف أزمير وأمر بسفرهم إلى سلانيك، وقبل أن تتحرك هذه الجنود من أزمير، اطلعت على كتاب ورد لبعضهم من صديق له ثمة يقول له فيه: إني أسافر متطوعًا مع جنود أزمير إلى سلانيك لا لقتال الجيش المطالب بالحرية بل للانضمام إليه مع جنود أزمير والتوجه إلى الآستانة؛ لإكراه ذلك الجبارعلى رد حرية الأمة التي سلبها إياها، والضباط هنا في منتهى التحمس للوصول إلى هذه الغاية، فليطمئن بال الأحرار في مصر، فاستودعكم الله، ولا أدري هل أراكم بعد اليوم أم لا. ولما وطئت أقدام الجنود أرض سلانيك، أعلن الضباط في الحال انضمامهم بجنودهم إلى جيش الحرية، وانعكس هذا الخبر بالسلك البرقي إلى الآستانة، فسقط في يد السلطان وأعوانه، وكانوا طلبوا جنودًا أخرى من جهات الأناضول، فأوقف سفرها ناظر الحربية، وأقنع السلطان بلزوم العدول عن هذا الرأي؛ لما فيه من الخطر، فلم يسعه بعد ذلك إلا التسليم بمطالب جيش الحرية؛ ليتسع له الوقت في التفكير والتدبير خصوصًا في تفريق وحدة الجيش المتواطئ على نصرة الدستور. أخذ بعد ذلك في تدبير المكايد، فبث جواسيسه وأتباعه بين الجنود المعسكرة في الآستانة، يغرونهم بالمال، وألف بواسطة درويش وحدتي جمعية الاتحاد المحمدي، وأعطاها هو وأعوانه هذا الاسم الشريف؛ ليكون آلة للتمويه على البسطاء والتغرير بهم باسم الدين؛ اذ ليس في الأمة فرد واحد ينتقد على الحكومة الدستورية مادامت قائمة باسم العدالة والمساواة، فلا يستطيع السلطان وأعوانه تحريض الجنود على الأحرار الدستورين، لمطلق أنهم أعوان الدستور؛ لذلك جاءوهم من جهة الوتر الحساس فيهم، فجسوه باسم الدين وحرضوهم على المطالبة بأحكام الشرع، والشرع في عرف العامة هو السلطان، والسلطان هو الشرع؛ لأنه الآمر المطلق المطاع، فالنتيجة بالضرورة هي محو الدستور، ومحو كل من يقول به في تركيا، وإعادة السلطة الاستبدادية إلى السلطان. ثبت ذلك بالبينات القاطعة والأدلة المحسوسة، وهي النقود الكثيرة التي وجدت مع الجنود الثائرة، ثم التقارير السرية التي وجدت في يلدز من جواسيس السلطان وأعوانه، وفيها بيان عن نجاح الخطة الموضوعة لإثارة خواطر الجنود؛ كتقارير علي كمال بك وطيار بك وغيرهما التي نشرتها جرائد الآستانة بالحرف ونشرت مجلة (ثروت فتون) ، بعضها مصورة بالفوتوغراف إثباتًا للحقيقة وقطعًا للشبه، ثم ثبت ذلك بإقرار كثير من أعوان السلطان وحواشيه المقبوض عليهم؛ كجوهر أغا وحقي بك ويوسف سكه زان باشا الذي قبض عليه وهو يحمل نقودًا تبلغ الأربعين ألف جنيه، فأقر أنه كان يريد أن يغري بها جنود الفيلق الثالث، وغير هؤلاء كثيرون ممن أقروا بتدبير هذه المكيدة، أو ثبت عليهم الاشتراك فيها بالأوراق التي وجدت معهم، وأهم من ذلك إقرار درويش وحدتي صاحب جريدة (وولقان) ومؤسس جمعية الاتحاد المحمدي، فإنه أقر لمخبر جريدة (اعتدال) الأزميرية لما قبض عليه هناك من عهد قريب؛ إذ قال له: إن السلطان هو الذي دبر هذه المكايد، وإن لديه أسرارًا كثيرة سيذكرها في المجلس العسكري. وزد على هذا ما ظهر من اتساع نطاق هذه المؤامرة بواسطة أشياع السلطان وأتباع صاحب جريدة (وولقان) بحيث كان المراد بها تحريض المسلمين في كل الولايات على فتك بعضهم ببعض؛ ليستوجب ذلك تداخل أوروبا، واقتناعها بعدم استعداد الأمة العثمانية للحكم الدستوري. بدأت هذه الحركة المشؤومة في ولاية أدنة وأطراف ولاية حلب، ثم ظهرت في أرضروم بين الجنود، وظهرت في ديار بكر فأطفئت في الحال، ولم يقف دون شبوب هذه النار في كل الولايات العثمانية إلا سرعة حركة جيش الحرية ودخوله الآستانة، ثم مبادرته إلى خلع السلطان عبد الحميد. ولو نجحت هذه المؤامرة الخبيثة، لما بقي في تركيا حجر قائم على حجر، ولدمرها السلطان كما دمرت مدينة أدنة التي أصبحت أطلالاً بالية، ولو أردنا أن نأتي على تفصيل هذه الحوادث لاحتجنا إلى مجلد من المنار، فهل يقال بعد هذا: إن السلطان عبد الحميد كان مخلصًا للدستور، وإنه أعطاه برضاه؟ وهل وجد في تاريخ العالم ملك تنزع من صدره الرحمة، وينزل بالنفس الأمارة بالسوء إلى هذا الحد من حب الانتقام لنفسه، ولو بتخريب المملكة التي تأسست على دماء مئات الألوف من المسلمين، ثم يلصق مثل هذه الجناية بالإسلام وشرائعه الطاهرة؛ إذ يثير مثل هذه الفتنة باسم الدين الإسلامي، وتحت ستار الشريعة؟ إنا نعتقد أن إخواننا المسلمين في الهند وغيرها أرفع عقولاً، وأبعد عن التصديق بكل ما كان يقال في جرائد المنافقين عن مزايا السلطان التي تكاد تماثل مزايا آلهة اليونان الواردة في أساطير القوم، وأنه كان من أنصار الدستور، مع أنه هو الذي قتل واضعي الدستور مدحت باشا وإخوانه، وعطل القانون الأساسي مدة ثلاث وثلاثين سنة، قتل في غضونها ألوفًا من شبان الأمة المائلين إلى الحرية، منهم من ماتوا في السجون، ومنهم من ماتوا في المنفى؛ لكثرة ما عانوه من شظف العيش، ومنهم من ماتوا إغراقًا في البحار، وآخر من كادوا يموتون تعذيبًا في السجن من أولئك الأحرار صديقنا الحر الغيور حسين بك طوسون، وطائفة من أهل أرضروم وفيهم مفتيها الذي مات في السجن شهيد الحرية والإنسانية. وجريمتهم أن حسين بك طوسون الذي قضى أكثر أيام حياته بعيدًا عن وطنه مجاهدًا في سبيل الحرية، ذهب بصفة خفية إلى أرضروم، وبث في طائفة من أفاضل أهلها فكرة المطالبة بالقانون الأساسي والتخلص من الاستبداد، فأجابوا نداء الضمير والحقيقة، وقاموا بالحركة الدستورية التي كانت في أرضروم منذ سنتين، فقضي عليهم جميعًا وجيء بهم إلى الآستانة فزج بهم في سجونها، ولولا قيام جيش الحرية في سلانيك، وإعلان الدستور، لماتوا في التعذيب عن آخرهم، كما مات من قبلهم. وكذلك كان مع الشاب المهذب المرحوم محمود فائز أفندي [١] الذي كان يحرر جريدتنا (الشورى العثمانية) ، وسافر إلى أزمير قبل إعلان الدستور بستة أشهر مضحيًا حياته في سبيل الحرية، فقبض عليه وعلى عدد غير قليل من أفاضل أهل أزمير، وزج بهم في السجون، ولاقوا من أنواع العذاب ما لا يوصف، وبعد هؤلاء الخمسة والعشرون الضباط الذين جيء بهم من سلانيك وسجنوا في الآستانة قبل إعلان القانون الأساسي ببضعة عشر يومًا. كل هؤلاء كانوا عرضة للموت في السجون كما مات من قبلهم، لولا أن تداركهم الله بقيام الجمعية في سلانيك، وظهور قوتها المتحدة بقوة الجيش، وإرغامها السلطان عبد الحميد على إعلان القانون الأساسي، وخروج هؤلاء المظلومين من غيابة السجن وأسر التعذيب. هذا ما أردت إضافته على ما كتبه المنار الأغر؛ ردًّا على القسم الأول من كلام الكاتبين. (١) وأما القسم الثاني والدعاوى الست التي لخصها المنار الأغر: فالأولى منها المالية؛ ويكفي أن نضرب له مثلاً أو مثلين على مبلغ خللها وضعفها في عهد السلطان الماضي؛ إذ وجوه الضعف والخلل مما لا يمكن إحصاؤه في هذه العجالة، فالمثل الأول أن الحكومة الدستورية وجدت فيما وجدت من الخلل في المالية عدة ملايين من الجنيهات دينًا على الدولة لجهات متعددة، لم يجدوا لها قيودًا رسميةً فسموها الديون السائرة، واضطروا أن يعلنوا في الجرائد عنها، وكلفوا كل من في يده مستند من أصحابها أن يراجع الحكومة في غضون مدة محدودة، وعلى هذا فقس كل أحوال المالية , وما سبب هذا الخلل فيها إلا استئثار السلطان بواردات الدولة، مما لا تستطيع حصره نظارة المالية؛ لتناوله لتلك الواردات مباشرةً بغير واسطتها؛ ولأجل هذه الغاية كان ألّف منذ بضع سنين لجنة في يلدز من حواشيه سماها اللجنة المالية؛ لمراقبة مالية الدولة في الظاهر وسلبها في الباطن، فكان أول قاعدة وضعتها تلك اللجنة أن لا يُنفق قرش واحد من خزائن الولايات إلا بعد استئذانها، حتى مرتبات المأمورين ونفقات الجنود التي هي طبيعية في كل ولاية داخلة في ميزانيتها الخصوصية، وكان من ذلك أن صارت هذه اللجنة كلما اجتمع مبلغ من المال في ولاية، تطلب إرساله إليها في الحال، وهذه تضعه تحت أمر السلطان ينفق ما شاء منه على جواسيسه ومقربيه ومصالح الدولة، ويستأثر لنفسه بما شاء، حتى تعطلت أمور الولايات الإدارية، وفشت الرشوة في المأمورين؛ لكي يعتاشوا بما يحصل لهم منها من النقود، وحتى صارت الفيالق العسكرية إلى حالة من الفقر والضعف وفقد الحاجيات العسكرية، لا يمكن أن يصورها كاتب بقلم ولا يصدقها إلا من شاهدها بعينه من العثمانيين، وإليك مثالاً منها. لما حدثت مسألة العقبة، وتصدى الإنكليز في مصر إلى التداخل فيها، ورأت الحكومة العثمانية وجوب إرسال الجنود إلى العقبة، وأوعزت إلى الفيلق الخامس الذي مركزه دمشق، بإرسال تابورين من المشاة وبطارية مدافع إلى العقبة، لم يوجد في الفيلق كله عشرون حصانًا لأجل المدافع؛ لأن خيل السواري والطوبجية الخاصة بالفيلق الخامس انقرضت عن آخرها، ولم يشتر غيرها، فاحتيج للإتيان بها من الآستانة، وترتب على ذلك تأخير الحملة العسكرية، وعزل والي سورية ناظم باشا يؤمئذ؛ لأن قائد الفيلق ألقى عليه تبعة الإبطاء؛ لعدم تعجيله بدفع نقود تكفي لتجهيز خيول هذه الحملة ولوازمها الأخرى، مع أن خزينة الولاية كانت خالية من النقود. هذا مثال من الأمثلة المحسوسة التي يحتاج استقصاؤها إلى كتاب ضخم، يبين ماذا أصاب الدولة من الضنك المالي والاضطراب الإداري في عصر السلطان الماضي، مع تنوع الضرائب والجبايات وتوالي طلب الإعانات المستحدثة، ومنها التجهيزات العسكرية التي استمرت تجنى من الأمة عشر سنين أو أزيد، وتحشر نقودها إلى المابين، ولما أعلن الدستور لم يجدوا لها حسابًا مضبوطًا، ولم يعرفوا وجوه الإنفاق التي ذهبت فيها تلك الملايين من النقود التي جبيت باسم الجندية، والجندية كانت في أحط دركات العوز والنقص في المعدات الحربية، كما أثبت ذلك العيان الذي ليس بعده بيان. (٢) كونه درب الجند على قواعد الحرب الحديثة. فأنا أضيف على ما كتبه المنار ردًّا على هذا الزعم: أن كل ما صرفه السلطان عبد الحميد من العناية بأمر الجندية، كان طلاء ظاهره حسن وباطنه قبيح، فقد كان يرسل إلى ألمانيا بعض الضباط؛ لأجل إتمام تعلم الفنون العسكرية، وقلما ضم إلى الآليات ضابطًا من هؤلاء عند عودته؛ ليستفيد الجنود من معارفه الجديدة، بل أكثرهم كان يضم إلى المابين والدوائر العسكرية الأخرى؛ ليكونوا مغلولي الأيدي عن العمل. وكذلك أتي بضباط ألمانيين كهوبه باشا وغولس باشا وغيرهم؛ لأجل تنظيم الجيش وتدريبه؛ ولكنه غل أيديهم كما غل أيدي الضباط العثمانيين المتعلمين في ألمانيا، فمنعهم من كل عمل يترتب عليه حياة الجيش ونظامه الحربي، كما منع عنهم كل مادة من مواد الترقي؛ من ذلك أنه حظر على الجيش إجراء المناورات الحربية منذ عشرين سنة، والمناورات الحربية أس النظام العملي في جيوش الأمم، بل زاد في النكاية فمنع حتى ما يسمونه (ألاي تعليمي) حتى لا يجتمع أربعة توابير في مكان واحد تحت السلاح ولو كانوا في أقصى المملكة، وحتى أصبح التعليم العملي مفقودًا ألبتة في الفيالق، وكما منع الجيش من التمرن على الفنون العملية منع عنه كل المستحدثات الحربية الحديثة: كالتلفون والأتومبيل الحربي والبالون؛ كل هذا توهمًا منه أن جيشه عدو له، حتى كان الجيش أشبه بآلة معطلة [*] ، وحتى انسل منه الضباط الألمانيون راجعين إلى بلادهم؛ لما لم يروا ما يمكنهم من ترقية هذا الجيش المحروم من كل وسائل الترقي الأدبية والمادية. وأكبر دليل على ذلك، ما بلغه رجال الدولة من الخوف والاضطراب عقب إعلان الدستور، وقيام النمسا والبلغار على الدولة: الأولى لأجل البوسنة والهرسك، والثانية لأجل الاستقلال حتى اضطرهم ذلك إلى التعجيل بحل هاتين المشكلتين؛ تفاديًا من الوقوع في الحرب التي كانت خطرًا مؤكدًا على الدولة؛ لضعف الجيش حتى لقد رأيت كتابًا من أحد المشيرين الكبار، بعث به لصديق له في مصر لأول عهد الدستور، يقول فيه: نسأل الله أن يمنع عنا غائلة الحرب مع البلغاريين في هذين الشهرين ريثما نلم شعثنا، وإلا فنحن في خطر كبير إذا وقعت الحرب الآن، وأخبرني ضابط كبير برتبة لواء في الفليق الثاني (فيلق أدرنة) مع ناظم باشا لما تعين قائدها للفيلق المذكور عقب الدستور وفي أثناء المفاوضات مع البلغار، فقال: إن القائد المومأ إليه مع ما بذل من الجهد في تنظيم الجيش وتدريبه، ولم شعثه وتجهيزه بالمعدات اللازمة، كان يقول بعد مرور شهر عليه في قيادة هذا الفيلق: الآن يمكننا أن نقف أسبوعًا واحدًا في وجه البلغاريين، وبعد شهر آخر يمكننا أن نقف شهرًا واحدًا، وبعد أربعة شهور يمكننا أن نزحف على عاصمة البلغار. فانظر إلى ما كان عليه الجيش من الضعف يومئذ، وكيف كان أكبر مشيري الدولة وقوادها يتشاءمون من وقوع الحرب مع البلغار، حتى بات كل قواد الجيش وضباطه في هم ناصب، ودأب على العمل ليل نهار في الستة الشهور الأولى؛ لأجل استرداد ما سلبه السلطان عبد الحميد من قوة الجيش المعنوية والمادية في العشرين السنة الأخيرة لحكمة المشؤوم. (٣) أما التعليم فيكفي أن نقول فيه: إن المتعلمين في تركيا أقل نسبة من المتعلمين في بلغاريا [**] التي انفصلت عن الدولة في عهد السلطان عبد الحميد فسبقتها أشواطًا كبيرة في مضمار المعارف والعلوم، ولو أطلق السلطان عبد الحميد حرية التعليم في الثلاث والثلاثين سنة التي حكمها، لما وجد إلى اليوم أمي في تركيا، مع إن الأميين فيها الآن ربما زاد عددهم عن خمسة وثمانين في المئة، والمدارس الموجودة في تركيا قد صارت إلى حالة من الخلل خصوصًا في الخمسة عشرة سنة الأخيرة من ملك عبد الحميد؛ لا يستطيع وصفها قلم، وحسبك أن دار الفنون في الآستانة لما أريد تنظيمها بعد الدستور، لم يجدوا في فرع الطبيعات منها ولا آلة واحدة من آلات العلوم الطبيعية التي يطبق فيها العلم على العمل، كما أنه لا يوجد كتاب رسمي يدرس في مدارس الآستانة في أي فن من الفنون، بل إن المعلمين يملون دروسهم إملاء، وناهيك بمعلم يدرس وهو يحاسب نفسه على الكلمات، ويخشى من هفوات اللسان بألفاظ علمية حرمتها نظارة المعارف بأمر السلطان. أما مصادرة العلماء وتشتيت الفضلاء وقتل النابغين أو إبعادهم، وإحراق كتب العلم، فهذا مما لا يحتاج إلى دليل، وقد عثروا على تقارير رسمية من دائرة التفتيش في نظارة المعارف مرسلة إلى المابين في كيفية إحراق الكتب المصادرة، ينبئ بأن ألوفًا من الكتب أحرقت مرة واحدة في موقد حمام شنبر لي طاش على أيام متوالية؛ تفاديًا من إحراقها في نفس النظارة، بعد أن ظن الناس أن حريقًا وقع فيها لأول يوم بدئ بإحراق الكتب فيها، وقد نشرت جرائد الآستانة في الأسبوع الماضي هذه التقارير؛ لتبرهن على ما نال العلم وأهله في عصر السلطان عبد الحميد. وهذه قليل من كثير مما أصاب العلم وأهله من المصادرة والاضطهاد في عصره، وفيه كفاية للمقتنعين. (٤) أما أنه أسعد المملكة بكده مدة حكمه، فهذا أمر تفنيده يطول خصوصًا لمن ليس هو من هذه المملكة وبعيد عنها، ويكفي أن يقال: إنه ليس في تركيا شركة وطنية من الشركات العامة الصناعية أو التجارية؛ لأن السلطان كان يمنع تأليف هذه الشركات إلا إذا كانت أجنبية وأعطيت اسم العثمانية. وكانت الرشوة متفشية في دوائر الحكومة إلى حد سلبت معه الأمنية على الأموال والأرواح وأصبحت السيطرة لأهل البغي والفساد وأرباب النفوذ. وكان المأمورون مضطرين لمماشاة هؤلاء ومحاباتهم؛ لقلة رواتبهم وعدم أخذهم لها واحتياجهم إلى المال من غير طرقه المشروعة، فليس ثمة عدالة ولا قانون إلا هوى الأنفس وإرادة الحكام، فكيف تكون حالة مملكة هذا شأنها، وأية سعادة ترجى لأمة تلك حكومتها؟ نترك الجواب على هذا للكاتبين الفاضلين فإنهما على ما نعتقد من المنصفين. (٥) أما كونه عَمَّر الطرق وأنشأ السكك الحديدية والترع، فهذا لا شيء منه في تركيا؛ فإن فيها ضريبة تسمى ضريبة العملة المكلفة، وهي تلزم كل مقتدر على العمل أن يعمل في إصلاح الطرق بنفسه، أو يدفع أجرة عامل للحكومة، وهي ريال فأكثر في السنة. وقد قال لي مرة بعض الناقدين: إن هذه الضريبة لو أنفقت في سبيلها منذ وضعها إلى اليوم؛ لأمكن للدولة أن تمد بها خطوطًا بدل الخطوط الحديدية من الفضة، على أنه لم يعمل بها طريق مرصوص بالحجر صالح لمرور الجنود والمركبات إلى اليوم. أما السكك الحديدية فالحقيقة أنها كثرت في زمانه؛ إلا أنها كلها كما قال المنار الأغر: في يد شركات أجنبية وفي مصلحتها دون مصلحة الرعية والدولة، ولا يوجد في العالم شركة سكة حديد تتمتع بامتيازات تضر بالرعية والدولة كما يوجد في بلادنا، ولنضرب لهم مثلاً سكة حديد بغداد التي أخذتها شركة ألمانية، فقد أعطيت هذه الشركة الحق بالبحث عن المعادن، وتملكها على مسافة عشرين كيلو مترًا من جانبي الخط أي: من ساحل البحر الأبيض في الآستانة إلى مصب دجلة والفرات من البحر: المحيط الهندي، وفوق هذا قد تحملت الدولة الضمانة الكيلو مترية لهذه الشركة ثلاثة عشر ألف فرنك عن كل كيلو متر، وذلك في نظير مبالغ زهيدة أعطيت للمقربين ورجال الدور الماضي، وبعض أسهم استأثر بها السلطان ونفر من أعوانه. فهل توجد أمة في العالم تباع مرافقها، وتوهب أراضيها على هذه الصورة، ويكون أشد العاملين على جر هذه المضار عليها سلطانها وحكومتها؟ إن الأمثلة على مثل هذا كثيرة، وإن صفحات المنار لتضيق عن جزء منها فأنا أكتفي من البيان بما تقدم، كما أكتفي بما قالة المنارعن النقطة السادسة؛ لأن النفس ضاقت من الاسترسال في هذا الموضوع، والفؤاد اضطرب من إمعان الفكر في تلك الظلمة التي كشفها الله عنا بفضل منه، فلم يبق في استطاعة القلم تجاوز هذا الحد من البيان؛ لما ساورني من الآلام النفسية التي كانت ملازمة لي ولكل الأحرار العثمانيين مدة ذلك الدور المشؤوم، وقد خففها الله عنا بانقضاء ذلك الدور الماضي، وظهور شعلة من نور الرجاء في المستقبل، كنا نأمل أن تنسينا ما فات؛ لو لم يسئنا تلقي إخواننا المسلمين لهذا الانقلاب المجيد بغير ما تلقاه به العثمانيون؛ لخلو أذهانهم عن أمثال ما ذكرناه من سيرة عبد الحميد، فيدعو ذلك إلى الرجوع لتلك الذكرى المنغصة؛ بما أردنا به رد الشبهة وجلاء الحقيقة لإخواننا المسلمين في البلاد النائية. على أنا لا ننسى لهم هذا التأثر بأحوال المملكة العثمانية وأخبار دولة الخلافة، وإن كان تأثرًا بضد الواقع، فإنه محمول منهم على حسن النية وعدم الوقوف على دخائل الأمور في الدولة العلية، ولا ريب عندنا في أن اهتمامهم بهذا الانقلاب وخلع السلطان عبد الحميد يدل على اهتمامهم بشؤون إخوانهم المسلمين العثمانيين، ورغبتهم الخالصة في سعادة الدولة العلية ومجدها وقوتها، وإنا لنرجو أن تتحقق هذه الرغبة لهم، ولنا في دور مولانا السلطان محمد الخامس بعد أن ثبت عدم تحققها في عصر السلطان المخلوع؛ إذ كان ما رؤي من خليفتنا الجديد إلى اليوم يدل على محبة خالصة للأمة، وميل عظيم للإصلاح، وتمسك بمبادئ الشورى والعدل، جعله الله مبدأ حياة جديدة للدولة وعدًّا مؤكدًا للمسلمين. وحسب إخواننا في الأقطار النائية دليلاً موجبًا لسرورهم؛ مؤكدًا لآمالهم في مستقبل دولة الخلافة هذا الانقلاب العظيم الذي قام به إخوانهم المسلمون في البلاد العثمانية، ودعمه الجيش بقوته العظيمة. وأي دليل على أن هناك حياة عالية، ونفوسًا نزاعة إلى الرقي ستنهض بالدولة إلى منزلة تسر لها - إن شاء الله - قلوب الأمة الإسلامية أعظم من هذا الدليل، لا سيما وأن القائمين بهذا الانقلاب إنما جددوا حكومة الشورى الإسلامية التي طوى صحيفتها الأمراء الجبارون منذ آخر عهد الخلفاء الراشدين، ولم تستطع أمة من المسلمين استرداد هذا الحق المسلوب منها إلى اليوم، فاستطاع ذلك العثمانيون والله مع المصلحين. ... ... ... ... ... ... ... ... ... رفيق العظم