للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد سعيد السيوطي


رسالتان طريفتان
في توجيه حديثي الذباب وخطفة الجن
بمباحث الطب والعلم والحديث

بسم الله، الحمد لله وحده، وصلى الله على مَن لا نبي بعده، وعلى آله
وصحبه.
عن جدة في ٢١ المحرم سنة ١٣٤٧
جناب العلامة المحقق والفهامة المدقق منشئ مجلة المنار السيد محمد رشيد
رضا المحترم بعد السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، أبدي أنني اطلعت على الجزء
الأول للمجلد التاسع والعشرين من مجلة المنار الغراء الصادر سنة ١٣٤٦ ورأيت
الأبحاث المحررة في الصحيفة (٤٨، ٤٩، ٥٠، ٥١) بخصوص حديث الذباب
وحديث جابر وما وقع من الارتياب في صحتهما للظن بأنهما مخالفان لما عليه العلم
والفن، ولما كان الواقع والحقيقة بخلاف ما ذُكر جئت بهذه المقالة مثبتًا فيها صحة
الحديثين الشريفين المذكورين، ومبينًا أهميتهما من الوجهة العلمية والفنية الصحية
وتطبيقاتها العملية توخيًا لإظهار الحقائق، فأرجو درجها في أول جزء يصدر من
مجلتكم الغراء، واقبلوا مزيد الاحترام سيدي.
... ... ... ... رئيس الصحة البحرية والكورنتينات الحجازية
... ... ... ... ... ... ... الدكتور محمد سعيد السيوطي
الرسالة الأولى
بسم الله الرحمن الرحيم
(تصحيح حديث الذباب)
نص الحديث الشريف عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم: (إذا وقع الذباب في شراب أحدكم فليغمسه ثم لينزعه فإن في
أحد جناحيه داء وفي الآخر شفاء) إن ظاهر معنى هذا الحديث كان معارضًا لما
كان عليه الفن إلى بضع سنين ذلك الذي دفع الطبيب المرحوم محمد توفيق صدقي
لتضعيفه والوقوع في الخطأ؛ لأن العلوم والفنون الطبية عقلية وتجريبية غير
مستندة إلى قواعد ثابتة، بل عُرْضَة للتبدل والتغير في كل آن وزمان، ولذا ندم من
حكَّم العقل في الشرع وسلك طريقة المعتزلة في التفسير والتأويل وانحرف عن
طريقة السلف الصالح المثلى؛ لأن الشرع فوق العقل.
لقد أثبتت التجارب الفنية الحيوية الحديثة في هذا الحديث الشريف معجزة
جديدة أماطت اللثام عن أسرار غامضة، ونكات لطيفة وفوائد جمة أشار إليها النبي
صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث، وذلك أنه كشفت منذ بضع سنوات وظيفة
الذباب الطبيعية وفوائده العظمى للإنسانية خصوصًا في إطفاء جائحات الهيضة أي
(الكولرا) فإنه تبين غب البحث والتنقيب الدقيق في مختبرات الجراثيم
(لابوراتوار) أن وبريون الكولرا الداخل في القناة الهضمية في المصابين
بالهيضة الذين دخلوا في دور النقه يفرز جسيمات صغيرة من نوع (الآتريم)
تسمى (باقتربوفاج) أي مفترسة الجراثيم أو آكلة الباكتريات، فهذه الجسيمات
عضويات مستقلة حيوية متصفة بالتكاثر، وبتمثيل المواد الغذائية المختلفة عنها
في تركيبها وتحويلها لعناصرها (آدابتاسيون) فهي حائزة ثلاثة أوصاف
حيوية التكاثر والتمثيل والاعتياد على الأوساط، وهذا لا يترك شبهة في أنها
متصفة بالحياة، وأنها ليست من أنواع المختمرات المنحلة.
وهذه المفترسة للجراثيم صغيرة الحجم جدًّا يقدر طولها بـ ٢٠ ٢٥ ملي
ميقرون تمُر من المراشحات الجراثيمية لشامبرلان وغيره حال كون الباكتريا
المعروفة لا تقدر على النفوذ منها، وقد أمكن تلوينها بطريقة ترسيب ذرات الفضة
عليها ورؤيتها وتحقق بالتجارب التي أجراها مندوب رياسة الصحة البحرية
والكرنتينات المصرية في الهند لإجراء التدقيقات الفنية والتنقيب من أسباب ظهور
جائحات الكولرا العديدة في الهند وطرز انطفائها وانتهائها وطريقة التداوي والتحفظ
منها ومنع انتشارها واستيلائها، والمندوب المشار إليه من خيرة الأساتذة يدعى
دريل قدم تقريره في ١٢ ديسمبر سنة ١٩٢٧ ذلك التقرير المسهب الذي أوضح فيه
ما وُفِّقَ لكشفه من خصائص وخواص الباقتريوفاج، وذلك نتيجة تتبعات دقيقة مع
زملائه الجراثيمين والأطباء في الهند فأماط اللثام عن الحقائق الفنية الخفية، وأثبت
أن الباقتريوفاج هو العامل الوحيد في إنماء جائحات الكولرا، وأنه يوجد في براز
الناقهين من المرض المذكور، وأن الذباب ينقله من البراز إلى آبار ماء الشرب
فيشربه الأهلون، ومن حين ظهور الباقتربوفاج القوي في ذباب البلاد ومائها تنطفي
جذوة الكولرا وينقطع دابر الوباء بسرعة، وأنه حصل على الباقتريوفاج القوي من
جسم الذباب والحصانة الحقيقية تتسرب إلى الأهلين بسبب دخوله في أمعائهم بشرب
الماء أو بتناول الأغذية التي ينقله إليها الذباب.
وقد تمكن الأستاذ دريل من استنبات الباقتريوفاج وتنميته وكان يأمر المريض
بتناول جرعة ماء من ١٠ سانتيمترات مكعبة فيها سنتيمتران مكعبان من زراعة
الباقتريوفاج القوي وجرعها دفعة واحدة ثم يأمر بتناول جرعة ثانية من ٤ سم من
زراعة الباقتريوفاج ممزوجة ب ٤٠ س م ماء يتناول منه كل ساعتين ملعقة كبيرة،
فلا يلبث أن يشفى في مدة لا تتجاوز يومين، وكان يضع في بئر القرية ٤٠
سنتيمترًا مكعبًا من زراعة الباقتريوفاج القوي فإذا شرب منه أهلها زالت جائحة
الكولرا في يومين أو ثلاثة أيام من القرية.
ومن جملة تجاربه التي أجراها أنه كان يضع قطرة واحدة من محلول فيها
سنتيمتر مكعب من براز نَاقِهٍ من الكولرا يحتوي على الباقتريوفاج بعد ترشيحه في
مائة سنتيمتر مكعب من زراعة وبريون الكلولرا القوي فيقتلها ويذيبها تمامًا في
برهة قصيرة وتصبح الأنبوبة العكرة التي كان فيها زرع الكولرا شفافة تمامًا، ثم
يأخذ من الأنبوبة التي أميتت جراثيمها ما يقدر في المليون واحد من السنتيمترات
مكعب فيضعها في أنبوبة ثانية فيها مائة سهم من زرع وربون الكولرا فتذيبها أيضًا
في بضع ساعات وتصبح الأنبوبة شفافة، وأثبت أنه لو وضع جزء من بيليون
جزء من السنتيمتر المكعب منه على زرع الكولرا الذي مقداره (١٠٠) س مكعب
فإنه ينمو فيه ويتلفه ويذيبه ويجعله براقًا، وقد أجرى تجاربه العديدة العملية في
الهند فأتت باهرة كما أن هذه التجارب ذاتها قد نجحت في البرازيل على باسيل
الدينتاريا الحادة، وهي معمول بها إلى اليوم في مداواة الدوسنطاريا الحادة، وكان
يشفي المصاب في ظرف ٦ ساعات و٢ و٢٤ساعة، والأطباء الإيطاليون استعملوه
في مداواة حمى التيفوئيد والبارانيفوئيد فحصلوا على نتائج حسنة سنة ١٩٢٤،
وهذا أثبت أن عامل الشفاء الحقيقي العضوي في شفاء الكولرا والدوسنطاريا الحادة
الباقتريوفاج، وقد حصل الأستاذ دريل على باقتريوفاج وحيد وكثير المعادل (بولي
والان) ضد أنواع جراثيم الأستافيلوكوكس الأبيض والذهبي والليموني فكان
الباقتريوفاج عامل الوقاية الحقيقي.
وقد ورد في مجلة فارما سوتيكال جورنال التي تصدر بلندن عدد ٣٣٥٩ في
١٧ مارس سنة ٩٢٨ نقلاً عن مجلة التجارب الطبية عدد ١٠٣٧ ٥٤ عام ١٩٢٧
تحت عنوان الباقتريوفاج من ذباب البيوت ما نصه: لقد أطعم الذباب الذي يألف
البيوت من زرع الجراثيم المولدة للأمراض كولتور [١] وبعد حين من الزمن اختفى
أثر الجراثيم التي في الذباب وماتت كلها؛ وحصل في الذباب مادة قاتلة للجراثيم
تسمى باقتريوفاج، والمؤلف يرى أنه إذا هيأ خلاصة من الذباب في محلول ملحي
فيسيولوجي فإن الخلاصة المذكورة تحتوي على مادة الباقتريوفاج القوية ضد أربعة
أنواع من الجراثيم المولدة للأمر، وأنها أيضًا تحتوي على مادة نافعة أخرى ليست
من نوع الباقتريوفاج، ولكنها نافعة للدفاع العضوي ضد أربعة أنواع من الجراثيم
المرضية غير المذكورة انتهى.
ولعل العالم الطبي كلما زاد التنقيب وامتد البحث عن خواص الذباب يأتينا
بمكتشفات جديدة وخصائص عديدة نافعة أيضًا ومما تقدم يتبين بجلاء أن الذباب
عامل من العوامل الخادمة لظهور الباقتريوفاج ببلعه الجراثيم وإتلافها وبحصول
الباقتريوفاج في جسمه كما أنه عامل بالواسطة ينقلها من براز الناقهين إلى المياه،
والأطعمة فتعم الحصانة، ويحصل الشفاء بذلك، وينقطع دابر الجائحات المرضية
الوبائية المخيفة والمهددة للنوع البشري بالدمار.
إن ذباب البيوت معروف عنه أنه يقع على البراز والمواد القذرة والمحلات
الوسخة العفنة، وكل هذه مملوءة بالجراثيم المولدة للأمراض فاختيار الذباب لها يدل
على أنه موظف بالانتخاب الطبيعي لأكل هذه الجراثيم التي ينتج عنها حصول
الباقتريوفاج في جسمه وموظف لنقل الباقتريوفاج رأسًا، وقد ينقل الجراثيم
والباقتريوفاج معًا فبأكله الجراثيم اجتمع فيه الداء وبحصول الباقتريوفاج في جسمه
اجتمع فيه الشفاء، وكذلك بنقله الجراثيم والباقتريوفاج المهيأ في براز الناقهين اجتمع
في الذباب الداء والشفاء، فهذا معنى ما ورد في عَجُزِ الحديث الشريف (فإن في أحد
جناحيه داء وفي الآخر شفاء) وأما ما ورد في صدر الحديث الشريف (إذا وقع
الذباب في شراب أحدكم فليغمسه ثم لينزعه) فالغمس هو لأجل أن يدخل الباقتريوفاج
للشراب وقد بيَّنا أن أثرًا زهيدًا منه يكفي لقتل جميع الجراثيم المماثلة أي التي نشأ
عنها الباقتريوفاج والقريبة منها , وحيث ورد في نص الحديث (فليغمسه) أي
فليغمس الذبابة كلها أي جسم الذبابة ومنه جناحاها ولم يرد فليغمس جناحيها مما دل
على كون الداء والشفاء بالجناحين إنما هو أمر اعتباري ولفظي لا يفيد التخصيص.
والأمر بغمس جسمها يؤيد ذلك، وهو لأجل تطهير الشراب من الجراثيم،
وذلك بإدخال الباقتريوفاج للشراب من جسم الذبابة فالفن قد أثبت وجود الباقتريوفاج
في جسم الذبابة، وهذا يطابق تمام المطابقة للأمر الوراد في الحديث، ولو كان
للأجنحة فقط خصوصية الداء والشفاء لكان ورد الأمر بغمسها وحدها، ولهذا لم يبق
ثمة ضرورة للتنقيب عن الجناحين، والمعروف أن الجناحين كغيرهما من أعضاء
الذبابة يحملان ما يلامسهما من جراثيم أو باقتريوفاج، سواء كانا مجتمعين أو
منفردين وعليه فالفن لا ينفي وجود الداء والشفاء فيهما، وبهذا حصلت المطابقة
التامة بين الحديث الشريف والفن الراهن وتحققت صحة الحديث ويستنتج مما تقدم:
(١) أن إخبار النبي صلى الله عليه وسلم منذ ألف وثلاثمائة سنة ونيف عن
الداء محمولاً على الذباب، وكذا عن الشفاء مع أن العين لا ترى شيئًا من ذلك،
ولم يكن لعلم الجراثيم أثر ولا للآلات المكبرة وجود هو معجزة كشفت عن سر الداء
والشفاء في آن واحد، وأشارت إلى الجراثيم وإلى الباقتريوفاج مع أن فن الجراثيم
مضى عليه نصف عصر، ولم يصل إلى معرفة الباقتريوفاج إلا في هذه السنين
الأخيرة.
(٢) اعتماد المداواة بالباقتريوفاج، وقد بيَّنا أن الباقتريوفاج يطفئ جائحات
الكولرا بأسرها والناقل له هو الذباب.
(٣) إثبات منفعة الذباب ووظائفه الطبيعية، ولذا لم يرد إبادة الشراب إذا
وقع فيه الذباب أو تعقيمه أو طرح الجزء الذي يقع فيه من الغذاء كما في حديث
الفأرة، وسر تخصيص تطهير الغذاء الذي يقع فيه جاء لكونه عاريًا عن هذه
الخواص، وكذا الفن فإنه لم يثبت للفأر سوء المضرة إلى يومنا هذا، ولو أن علماء
الإفرنج الجراثميين اطلعوا على نص هذا الحديث الشريف لكان تذلل لهم اكتشاف
الباقتريوفاج منذ أكثر من ثلاثين سنة كما وقع لمن أمَّ البلاد الشرقية منهم ورأى
طريقة المحافظة على الجبن بغمسه في الزيت فأخذ عن الشرقيين هذه الطريقة
واستعملها في تنمية وزرع الجراثيم المتعيشة بلا هواء؛ إذ قد جاء هذا الحديث
الشريف ببلاغ مهم في علم تدبير الصحة ومداواة الأسقام وكبح جماح الأمراض
الوبائية وإطفاء جذوتها ومداواتها والتوقي منها كما أقره أقطاب الفن اليوم، والله
الهادي إلى سواء السبيل.
(المنار)
قد سبق لنا القول بأنه لم يبعد أن يكتشف لنا العلم والطب الحديث سرًّا من
أعلام النبوة في معنى حديث الذباب ولا يتم لنا هذا بما شرحه الكاتب إلا إذا كان
الحديث مرويًّا بالمعنى وأما لفظه الصريح في أن الداء في أحد الجناحين والدواء في
الآخر فلا يؤيده هذه البحث.
***

الرسالة الثانية
تعليق على حديث جابر
في خطفة الجن وغير ذلك من الوصايا النافعة
الحديث الذي نصه (خمِّرُوا الآنية وأوكئوا الأسقية وأجيفوا الأبواب وأكفتوا
صبيانكم عند المساء فإن للجن انتشارًا وخطفة وأطفئوا المصابيح عند الرقاد فإن
الفويسقة ربما اجترت الفتيلة فأحرقت أهل البيت) فهذا الحديث الشريف رواه كثير
بن شنظير بهذا الصيغة وراوه ابن جريج وحبيب المعلم عن عطاء بلفظ (فإن
للشياطين انتشارًا وخطفة) .
وقد اطلعت في مجلة المنار الغراء صحيفة ٤٢ من الجزء الأول للمجلد التاسع
والعشرين على الإشكال الذي وقع في متن الحديث المذكور خصوصًا على ما ورد
فيه من خبر انتشار الجن بما نصه بالحرف الواحد (ففي هذا من الإشكال أن أكثر
أهل الأرض لا يمنعون أولادهم من الخروج في هذا الوقت وتمر الأعصار ولا
يعرف أحد أن الشياطين فعلت بأحد منهم شيئًا، هذا إشكال يخطر في بال كل متعلم
من الأمصار التي انتشرت فيها العلوم والفنون التي يسمونها العصرية، وكل متعلم
على طريقتهم في القرى والمزارع فيقولون: إنه مخالف للواقع في تعليل منع
الصغار في الخروج في المساء أي في أول الليل) .
أقول: إن هذا الحديث أقره الفن على لفظ كثير بن شنظير والمراد بالجن هي
الجراثيم (الميكروبات) التي هي عوامل الأوبئة والأمراض ويدل على ذلك ما ورد
عن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (غطوا الإناء وأوكئوا السقاء
فإن من السنة ليلة فيها وباء لا يمر بإناء ليس عليه غطاء أو سقاء ليس عليه وكاء
إلا نزل فيه من ذلك الوباء) .
ويؤيد ذلك أيضًا ما روي عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أنه قال:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (فناء أمتي بالطعن والطاعون) قيل يا
رسول الله هذه الطعن قد عرفناه فما الطاعون؟ قال: (وخز أعدائكم من الجن وفي
كُلٍّ شهادةٌ) وقال ابن الأثير في النهاية: الطعن: القتل بالرمح والوخز طعن بلا
نفاذ.
وأخرج البزار عن عائشة رضي الله عنها قالت: قلت: يا رسول الله هذا
الطعن قد عرفناه فما الطاعون؟ قال: (يشبه الدمل يخرج في الآباط والمراق،
وفيه تزكية أعمالهم وهو لكل مسلم شهادة) .
وأخرج الطبراني عن معاذ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
(لتنزلن منزلاً يقال له: الجابية يصيبكم فيه داء مثل غدة الجمل يستشهد به أنفسكم
وذراريكم ويزكي به أعمالكم) قال: ابن الأثير في النهاية: الغدة طاعون الإبل،
وقلما تسلم منه يقال: أَغَدَّ البعيرُ فهو مُغِدٌّ.
ففي حديث: (غطوا الإناء وأوكئوا السقاء) قاعدة جليلة من علم تدبير
الصحة (هجين) للتحفظ من الأوبئة والأمراض التي قد تدخل الإناء والسقاء إذا
كانا مكشوفين بسبب نزول الغبار الحامل لجراثيمها إليهما التي قد يثيرها الهواء
الشديد في ليلة من ليالي السنة أو بسبب سقوط الحشرات والهوام التي لا تخلو من
الجراثيم في الإناء والسقاء، وهذا لا تختلف فيه أصحاب العقول الراجحة والأبصار
الناقدة، وإن لفظة الوباء الواردة في هذا الحديث تشير لمعنى (فإن للجن انتشارًا
وخطفة) الورادة في حديث جابر؛ لأن عامل الوباء هي الجراثيم كما قرَّره الفن
الحديث بأن عامل جميع الأمراض الوبائية هي الجراثيم، فهذا متفق عليه) والجن
هي الجراثيم؛ لأن معناها اللغوي ينصرف لكل ما لا يُرَى من العوالم، وكما حققته
يرجع إلى أصلين أصل روحاني مكلف، وهذا النوع هو الوارد ذكره في القرآن
الكريم {قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِّنَ الجِنِّ} (الجن: ١) ونوع مادي من
المخلوقات العضوية الصغيرة الحية، وهي الجراثيم (ميكروأورغانزم) وهي كما
عرف الفن خواصها وخصائصها تدب دبًّا بحركاتها المعروفة، ووردت الإشارة
إليها بالآية الكريمة: {وَمَا مِن دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ
أَمْثَالُكُم} (الأنعام: ٣٨) فالجراثيم داخلة في عموم {وَمَا مِن دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ} (الأنعام: ٣٨) لأن مقرها الأرض لا الهواء، وفي هذه الآية فلسفة دقيقة، وهي
أن هذه المخلوقات العضوية الصغيرة الحية مهما صغر حجمها فإنها بمجموعاتها
مشابهة للمجموعة البشرية المتصفة بالحياة، ولها وظائف مماثلة؛ لأن الجسم
البشري مركب من مجموعة خلايا (سيلول) ترجع لخلية واحدة متصفة بالحياة
والتكاثر والتمثيل والائتلاف على الأوساط، وكذا الجراثيم فإنها مكونة من خلية
واحدة متصفة بالأوصاف المذكورة.
ويستدل على أن المراد بالجن هي الجراثيم من حديث أبي موسى الأشعري
رضي الله عنه لما سأل النبي صلى الله عليه وسلم فما الطاعون؟ قال: (وخز
أعدائكم من الجن) وقد ثبت بالفن الراهن أن عامل الطاعون هو الجرثوم المسمى
باسيلوس بيستس، وبهذا ثبت بصورة جازمة أن المراد بهذا الحديث من لفظة الجن
هي العضويات الحية الصغيرة المسماة بالجراثيم على اختلاف أنواعها، وعليه
يشمل هذا المعنى عموم ما ورد من الأحاديث الشريفة المتعلقة بالأوبئة والأمراض
الجائحة وعلم تدبير الصحة كما في الحديث (إن من القرف التلف) .
قال ابن الأثير الجزري في كتاب النهاية عند شرح قوله عليه السلام (إن من
القرف التلف) القرف ملابسة الداء، ومداناة المريض، والتلف الهلاك , انتهى.
والمعلوم أن الأمراض الوبائية الجائحة هي المهلكة بخلاف الأمراض العادية
وعوامل الأمراض الوبائية هي الجراثيم، وفي هذا إشارة لأصل كبير الفائدة من
علم تدبير الصحة وهو التوقي من ملامسة المرضى المصابين بأمراض وبائية كما
يؤيد ذلك حديث (فر من المجذوم فرارك من الأسد) والحديث المخرَّج في
الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه (لا يُورَدَنَّ مُمَرَّض على مُصِح) وما
روي في الموطأ (وليحلل المصح حيث شاء، قالوا: وما ذلك يا رسول الله؟ فقال:
(إنه أذى) .
ولنستطرد لبيان ما نحن بصدده بعد ما ثبت بالأدلة القاطعة أن المراد بالجن
هي الجراثيم فقوله صلى الله عليه وسلم فيما أخرجه البزار عن عائشة رضي الله
عنها لما سألته فما الطاعون؟ قال: (يشبه الدمامل يخرج من الآباط والمراق) وما
ورد في الحديث الذي أخرجه الطبراني عن معاذ رضي الله عنه (لتنزلن منزلاً
يقال له الجابية يصيبكم فيه داء مثل غدة الجمل يستشهد به أنفسكم وذراريكم ويزكي
به أعمالكم) وصف كامل لنوع الطاعون الدملي من حيث تخيره الغدد اللنفائية التي
يدخلها ويستقر فيها، وهي الغدد الإبطية والغدد الكائنة في المراق أي أسفل البطن
في المغابن، وهذا النوع شبهه صلى الله عليه وسلم بالدمل، ويسميه الأطباء
بالطاعون الرئوي، وهو فعل مشتق من الأول، ويوجد نوع ثالث يسمى بالطاعون
الصفتي وهو أيضًا مشتق من الأول بسبب دخول جراثيم الطاعون بالعروق التي في
الغدد اللنفائية إلى الدورة الدموية، وهذا النوع خطر جدًّا، فالنبي صلى الله عليه
وسلم ذكر الأصل وعرَّفه تعريفًا فنيًّا دقيقًا بيَّن فيه عامل المرض وأوصاف المرض
ومقر المرض وإنذار المرض أي خطره وبين طريقة التوقي منه بحديث الطاعون
الذي رواه عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه وهو (إذا سمعتم به بأرض فلا
تقدموا عليه، وإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا فرارًا منه) فالنبي صلى الله
عليه وسلم أول من وضع أساس الكرنتينا (الحَجْر الصحي) بهذا الحديث ولم
يتعرض صلى الله عليه وسلم لمداوة الطاعون هذا، وما جاء عنه صلى الله عليه
وسلم من الحقائق الفنية في الطاعون هو غاية ما وصل إليه الطب والفن اليوم فهو
لم يتعده ولم يوفق لاكتشاف دواء شاف ولا لقاح واق حقيقة، فإن لقاح هافكن لم
يعتمده المحققون من الأخصائيين نهائيًّا، فما أتينا على ذكره بعد من معجزاته
الباهرة صلى الله عليه وسلم.
ومضى قوله صلى الله عليه وسلم (واكفتوا صبيانكم عند المساء، فإن للجن
انتشارًا وخطفة) يشير لقاعدة جليلة من علم تدبير الصحة لها فوائد عظمى، وهو
أنه من مقررات العلم المذكور أن مرض الملاريا الجائح (حمى الورد، الحمى
الاجامية، الحمى الردغية تزداد صولتها مساء بسبب انتشار البعوض الناقل
لطفيلاتها المسماة (هماتوزوثر) قبيل الغروب، ولذا أوصت الحكماء بالتوقي من
الخروج مساء في المحلات والمناطق التي تحتوي على مستنقعات، ووصيتهم هذه
للكبير والصغير على حد سواء، ولا يخفى أن هذا المرض أكثر خطرًا على
الأطفال منه على الشبان والكهول، والبلاد الحجازية تكثر فيها الملاريا هذه بسبب
وجود الصهاريج والآبار الكثيرة التي تتألف منها المستنقعات بسبب ركود مياهها؛
ولأن أكثرها متجمع من ماء الأمطار وتظل راكدة شهورًا عديدة وقد شاهدت بأم
عيني انتشار المرض المذكور في بلدة جدة وفي مكة المشرفة، وضحاياه كثيرة،
فكثيرا ما يتحول المرض إلى نوبة حمى خبيثة تقتل الأطفال والكبار بظرف يوم أو
يومين، وجائحة الملاريا هذه موجودة في أكثر بلاد الشرق الأدنى ولها أنواع كثيرة
مختلفة الأذى والخطر، وقد اهتمت السلطات الحكومية جمعاء لمكافحتها وإعداد
وسائل التوقي من الوقوع في مخالبها، ولذا أوصى سيد الحكماء صلى الله عليه
وسلم بحديثه المتقدم بعدم إخراج الأطفال مساء للتوقي منها، وهذا ما أوجبه الفن
وقد فهم معنى فإن للجن انتشارًا وخطفة بأنه مراد به الجراثيم والطفيلات المحمولة
في بطن البعوض التي تنتشر بسبب انتشار البعوض الذي يعقص الإنسان ويدخل في
جسمه تلك الطفيلات فتنتشر في دمائه وتتغذى بها وبذلك تخطف صحته في
أحوالها المزمنة، فترى المريض مخطوف اللون فقير الدم، وقد تخطف حياته
بسرعة في أحوالها الخبيثة المسماة بالحمى الخبيثة الناشئة عن طفيل التروبيقا (وإلا
فإنه لم يشاهد أنه اختطف طفل وتوراى عن الأبصار لخروجه مساء من داره) فهذا
معنى الانتشار والخطفة الوارد في نص الحديث الشريف، سدَّد الله خطواتنا لفهم
معاني أحاديث رسوله المعظم، ووفقنا للعمل بها وأرشدنا لإحلالها محلها اللائق بها
من الإجلال والتعظيم حتى تعمنا الرحمة المشار إليها بقوله عز وجل {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ
إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ} (الأنبياء: ١٠٧) والحمد لله أولا وآخرًا، حرِّر في ١٧
محرم سنة ١٣٤٧.
... ... ... ... رئيس الصحة البحرية والكرنتينات الحجازية
... ... ... ... ... محمد سعيد السيوطي
(المنار)
إننا لا نعلم أن أحدًا سبقنا إلى إدخال ميكروبات الأمراض وغيرها في عموم
كلمة الجن والجنة (بالكسر) ومع هذا نقول: إن في حمل خطفة الجن والشياطين
عليه في حديث جابر تكلفًا ظاهرًا لا تقبله أفهام جمهور المستقلين بالفهم ويحتمل أن
يكون الحديث منقولاً بالمعنى، وإنه لو نقل بلفظه لكان ما أراده الطبيب الفاضل
ظاهرًا فيه بغير تكلف وكل مسلم يجزم بأنه إن صح لا بد أن يكون معناه صحيحًا.